والعجيبة الثانية، أن ألسنة مواطنيه لم تنله بهجو، فقد تعالى عنهم إلى حيث لا يطاله لبيطهم. يعمل الخير بدون مباهاة، كأنما فعل المروءة كتنظيف الأسنان شيء ضروري مألوف. يعاشر سكان الذروة من المجتمع، ويجلس إلى موائد العوام، ويفعل هذا غير متصنع.
ولكانت سيرة حياته ناقصة لو جاءت فوزا مستمرا لم يتخلله فشل. فالذي لا يعرفه الكثيرون أنه انقطع عن ممارسة الطب سنوات خمسا، وانزوى إلى منجم، كانت نتيجته المالية فاجعة. في برهة تلك السنوات، ابتدأ الناس يتحدثون عنه ك «رجل كان». لم تعد الأيدي ترتفع للسلام عليه بالعشرات حين يسير في الشارع، ومن عرف عنه كيف كان يزدري المال، وكيف كان ينفقه بأسرع مما يكسبه - وكان يكسبه بالألوف - تصور كم كانت أليمة عليه تلك السنوات. إنما هل شكا؟ هل تأوه؟ هل انزلق إلى عالم الذكريات؟ هل كان في لبسه وسخاء يده، ونظراته، شيء يدل على فشل؟ جاءته تلك السنون في غسق العمر، وفي غسق العمر قام الدكتور بأعظم أعماله، واسترد مكانته العلمية والاجتماعية، وقفز في سلم الحياة إلى أرفع درجاته، وقد ساعدته على ذلك - ولا عار - الأقدار؛ إذ إنه في الساعة التي كان الدكتور بها يفكر كيف يسترجع مكانه، كان مواطن يحمل المسدس لينتحر، فلما أن وصل الدكتور نجيب وجد ... قد أطلق الرصاص على رأسه، فاخترقت الرصاصة الصدغ الأيمن، وطارت من الصدغ الأيسر، وراح الدماغ يرشح من الجانبين. الدكتور نجيب شفاه، وشفى اسمه من صدأ بدأ يعلق عليه في هيكل الشهرة، وابتنى مستشفى، كان محجة كبار الأغنياء، الذين يبغون شراء أثمن ما في الدنيا، والمعدمين من الفقراء، الذين لا يدفعون إلا الشكر أجرة، وكان الدكتور يبهظ الأجرة على الغني، ولا يكتنز منها - على خطأ الناس في تقدير ثروته - إلا شكر الفقير. فلم يخلف من المال إرثا إلا مكتبته وأدوات طبه، وضمانة حياته. أرزانة تلك التي قطبت جبينه أم هي كآبة؟ ما هذا الذي يجلل شيخنا، كأنه حزن عميق؟ أي فاجعة مرت به لم يأت خبرها الناس؟ هو لم يقصر على الطب أعماله، بل ألف كتبا علمية، ونظم صفوف مواطنيه المهاجرين في جيش تفرق قبل أن يحتشد، ورجع إلى بلاده في محاولة سياسية لم يكللها النجاح. فهل استصغر ذلك العظيم محيطه، والحقل الذي اشتغل به؟ لقد احتك بشخصيات عالمية، فهل قايسها بصمت، بشخصيته فوجد في نفسه تفوقا، فتأوه وقال: لماذا أخذت زاوية أنيرها، وكان في وسعي أن أملأ الساحة شعاعا؟ أنا لا أدري الجواب، ولا أعرف أن في الدنيا من يدريه، ولكن استنتاجي يقودني إلى الاعتقاد أن قد كان في الرجل طموح إلى الظهور بمظهر عالمي كبحته الأيام، وأن هذا الحزن الذي غاص إلى أعماق نفسه هو نتيجة اقتناعه أن حياته - على شمول اعتقاد الناس بأهميتها - كانت فاشلة باقتصارها على ميدان صغير جال فيه.
تحدثه عن لبنان وسوريا، فيستسيغ الكلمات عنهما، كنهم يبطش بطبق حلوى، فإذا ما وصلت من تاريخهما إلى بعد الحرب، أجفل وصمت، شأن من فقد عزيزا لم يمض على وفاته وقت كاف، حتى يبيح لنفسه التحدث عنه. فهل كان بسبب حبه لوطنه وشدة مباهاته ذا أحلام سياسية عظمى، نكبته بها الأيام؟ اجتهاد في الاستنتاج، ولكنه محتمل.
أما المظاهر التي تطفو على نفسه، والتي يبصرها العميان، فهي ما شاع عنه: من لطف، وأنس، ولمعات غضب، وديمقراطية، وبذخ، وحب للتفاصيل متناه، ونهم في المطالعة، وغرام بقهوة «سوداء كالشيطان، ملتهبة كجهنم».
بالطبع كان يكثر من محاولة تنظيف نظارتيه بمنديله.
الآغا وابنه
يتقدم العصر، كما يتقدم البقرة ذنب البقرة. ليس من أحد يدري كم أردت «الزائدة المعوية» من نفس خفية! حتى اكتشفها الأطباء، وعلموا أنها بقية مصران، كان ذا نفع في الأجيال السالفة، وأنها اليوم مصدر كثير من الآلام، والالتهاب، والفساد، والاضطراب، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها هو قطعها.
كذلك، لن يتسنى لبني الشرق الأدنى أن يعرفوا كم أنزل بهم البكوات والباشوات، والمشايخ، والمقدمون، والأغوات، والأمراء؛ من مكروه! ولن يقدروا أن يعدوا قتلاهم، حتى يفقهوا أن هذه الطبقة من الناس هي «زوائد»، كان لها نفع في الماضي، وأنها اليوم لا تقوم بعمل ما إلا المضرة، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها، هو قطع نفوذها.
على أن بني الشرق الأدنى سائرون نحو التفلت من أذى هؤلاء الطفيليين سيرا هادئا، سيطول زمنه؛ لأن العنف لا يرافقه، ولكن نتيجته واحدة محتومة. «فالآغا» في هذه الحكاية طفيلي، يغزو موائد الشعب ويتصدرها؛ لأنهم لا يتفقون على من يتصدرها، وهو يعتقد أن تفوق مكانة عائلته على الناس أمر مسلم به، هكذا كانت الأمور، وهكذا يجب أن تكون. يتعلق بمكانته التي تدر عليه عيشه تعلقا غريزيا كأطفال الحيوانات بأثداء أمهاتها، ويتوسل إلى ذلك بتفرقة القوم وتضخيم أحقادهم، ولا يؤلمه ضميره، فهو يلعب لعبة هذه قوانينها المشروعة. أراد أن يعد للمستقبل وطوارئه، فأرسل ابنه إلى المدارس ليتثقف؛ حتى إذا تطال إلى مراكز الدولة رجل من العامة، كان ابن الآغا أحق بالوظيفة، ولكن ابن الآغا استهوته حياة المدينة وفسقها، فطير البقية من أراضي أبيه، ولم يتثقف بغير آداب المواخير، وكان خلال ذلك «العوام» من «وادي الأرز» أصابوا المال في المهجر، والثقافة في الوطن، فأين هو الآغا الآن؟
هو حيث يجب أن يكون ورفاقه «الباشوات»، و«المشايخ»، و«البكوات»، و«الأمراء»، و«المقدمون»، والطفيليون جميعا؛ في «لا مكان».
Shafi da ba'a sani ba