قلت: اقفز بي إلى موضوع آخر، أو فاختصر.
أجاب المؤلف: حبا وكرامة، فأنا للاختصار محب، ولكني ككل درامائي، يفهم أن كتابه خليق ليمثل لا ليقرأ، ويجب عليه أن يعوض على شاري الكتاب بشيء يقرأ، فصبرك، إن وجدتني أمط هذه المقدمة، وها أنا أذكر تلك اللعنات الباقية، التي كبلتني؛ فثانيها: لعنة الطموح، ولا تنس أن هذا الحديث هو أوتوبيوغرافي؛ لذلك لا أقول شيئا في كيف أن الطموح قد يتعجل ضحيته إلى اختصار طريق النجاح، فيسبب أحيانا السرقة، والجريمة أو الاحتيال، ومرارة النفس، ويغمس عواطفك في سيال التحرق من الفشل. - يعني أن روحك تسكنها العذارى من بنات الطموح، لا بغايا فتياته؟ - اخرس ... - عفوك، أنا واثق من كذبك، ولكن سر في حديثك. قال: إن الطموح يتعجل خطى المرء، فيسبب في كثير من الأحيان هلاكه، وهذه أودية الحياة ملأى بالمهشمين من الطموحين الذين أرادوا أعمارهم أن تكون قفزا من قمة إلى قمة، وما فطنوا إلى أن معظم الذين يصلون القمة يتسلقونها مشيا على الأقدام. - وزحفا على البطون. - بل دبيبا على الذقون. وإن دودة الأرض في مثابرة دبيبها لأقرب إلى مرماها من الجندب في قلق قفزاته.
صحت: بربك! عجل مخافة أن تفلس من التشابه، فترجع بي إلى مثل الأرنب والسلحفاة.
والطموح - تابع صاحبنا - يشوش على الإنسان تفكيره، فهو بكل شيء غير راض، على الحياة ناقم، مجازف بالقليل والكثير.
قلت: عجل، واغسل يدك من اللعنتين الأخيرتين. قال: «لعنة الثقافة». - يا غبن الزيت؟! - ربما، فالمثقف اثنان؛ رجل مثقف نصف ثقافة، فهو بنفسه مغرور، يعتقد أنه فوق الناس، وهو دونهم بدرجات، غير أنه بعيد عنهم في كل حال، ورجل مثقف ثقافة صحيحة، فهو بذوقه، وأطباعه، ومطالعاته، وتفكيره، فوق الجمهور، أي عنهم قصي، والناس يتبرمون بالاثنين. ولا تنس أن الحسد - على الرغم من كتب علم النفس - غريزة شاملة، والمثقف محسود فهو مناوأ. بل إن حساد الثقافة أشد اندفاعا في مقاومتهم المثقف من حساد المال. يقاومون الغني؛ لأن الغنى ميسور، ولو نظريا عن طريق اليانصيب، أما الثقافة، فمن حرمها شابا فقدها على الإجمال كهلا وشيخا، وسلاح الغني يذل العدو، أما سلاح الثقافة فلا يقهر إلا حامله. قلت: لعنت ساعة تحدثنا بهذه اللعنات، فهات لعنتك الأخيرة، واختصر يا أستاذ، إن الاختصار هو روح الحكمة.
قال: بل سأختصر، ففي البحث في هذه المصائب ألم فرك الجراح، وها أنا ذا أذكر اللعنة الأخيرة عارية؛ لعنة النجاح الباكر.
ويمينا، لقد أخذت ببلاغة محدثي، وكدت أنصرف من بين يديه مشدوها بمظاهر عمق تفكيره، لولا فورة من النور غلبت على ناظري، فإذا بجليسي يظهر أمام بصري بحلة جديدة، فقلت: يا صاحب «نخب العدو»، من الناس من أوتي براعة تنسيق السفسطة، وإلباسها ثوب الحكمة، وحاشاك الله أن تكون منهم، ولكن هلا ذكرت الذكاء يقترن بسائر الفضائل، وهلا عرفت الطموح يذكي مزايا النفس، وينهض بها، وكيف غاب عنك أن الثقافة وحملتها ملايين، هم من قادة الدنيا، وكيف تفسر أن ألمع أسماء الدنيا من أحياء وأموات أصابوا النجاح الباكر، فشجعهم على الاسترسال والإنتاج ؟
أجاب - وقد بلع بريقه وحدجني بنظرة عداء: مكانك، فأنت تبحث في النابغين، ونحن نتكلم عن سعيد تقي الدين. - سؤال أخير يا أستاذ، هل أفهم منك أنك في الحياة ترفع العلم الأبيض، وتعترف بالانكسار؟ أنسيت لأعوام خلت كيف كنت تتطلع في الحائط، وتصيح بي: «بيني وبين الفوز هذه الروزنامة»؟ - ولا زلت أعيد هذا القول. - ولكن عبارتك هذه ترهلت، فأين هي اليوم تتدلى من فمك غثة منها بالأمس تندفع من شفتيك لاذعة بنار الاقتناع، مصقولة ببريق من عينيك؟! بل أين أنت اليوم، وقد برز بطنك، وهدأت خطواتك، وصارت كلمة «الحظ» تتسرب إلى حديثك، فهل أوفيت على مرحلة العمر، إذ يعترف المرء بفشله، بأن يلوم «الحظ» من دنياه؟ وهذه الذكريات التي أصبحت تلهج بها، أليست هي الدليل القاطع على هرمك؟! فمن شاخ أكثر التحدث عن ماضيه، أما الفتى، فحديثه أبدا عن غده. هذا مقياس العمر الوحيد. قال: غريب أمرك يا هذا! تشهد غماري في الجبال عن الذهب مفتشا، وتتهمني بالهدوء؟ أما رأيتني أقضي الأسابيع في الغابات، أخوض أنهارها، وألتحف سماءها، مقتاتا بقشر جوز الهند، أجر 110 كيلو من جسدي؟! إذا كان هذا هدوءا، فما هي الحركة؟!
قلت: يا محترم، أمندفع أنت في هذا الغمار، بذلك الإقدام الذي رافق فتوتك، أم أنت فاعل هذا تبرئة لضميرك أمام نفسك، كي لا تتهم همتك بالخمول؟
قال: أنت جائر، وأوقح من مخبري جرائد أميركا.
Shafi da ba'a sani ba