نخب الأفكار
في تنقيح مباني الأخبار
في شرح
معاني الآثار
تأليف
الإِمام بدر الدين العيني
محمود بن أحمد بن موسي العينتابي الحلبي ثم القاهري الحنفي
المولود سنة ٧٦٢ هـ والمتوفى سنة ٨٥٥ هـ
﵀ تعالي
المجلد الأول
حققه وضبط نصه
أبو تميم ياسر بن إبراهيم
إصدرات
وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
طبع بتمويل
الهيئة القطرية للأوقاف
1 / 1
إدارة الشؤون الإسلامية
لجنة إحياء التراث الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد؛ فهذا كتاب:
نخب الأفكار
في تنقيح مباني الأخبار
في شرح
معاني الآثار
للإمام بدر الدين العيني
(٧٦٢ - ٨٥٥ هـ)
يقع الكتاب المخطوط في ثمانية أجزاء موجودة كاملة في دار الكتب المصرية برقم (٥٢٦) حديث، وقد فرغ العيني من تأليفه عام ٨١٩ هـ وكان قد انتهى من تأليف كتابه "مباني الأخبار" عام ٨١٠ هـ، ويسمَّي أيضًا "معاني الأخبار" وهو شرح لـ"معاني الآثار" للإمام الطحاوي ورغم أنه مختصر من "مباني الأخبار" ففيه زيادات عليه.
وحين بدأ العيني بتأليفه وعمره ٤٦ سنة كان قد نضج علميًا وأمضى فيه ١٠ سنوات وهو يبلغ في حجمه ثلاثة أرباع الأصل، وانتهى المؤلف من الجزء الأول سنة ٨٠٨ ومن الأخير سنة ٨١٩.
1 / 2
وهذا يدل على أنه اشتغل في "نخب الأفكار" قبل أن ينجز "معاني الأخبار" بسنتين، فقد أدرك ضرورة تنقيح المباني فشرع في تنقيح المنجز منه.
والكتاب رغم توافر نسخه الخطية وهي:
١ - نسخة دار الكتب المصرية في ثمانية مجلدات كاملة بخط المؤلف.
٢ - نسخة طوب قابي سراي ناقصة في ثلاثة مجلدات، تضم الأجزاء الثاني والرابع والخامس.
٣ - نسخة أخرى في دار الكتب المصرية.
فإنه لا حاجة للرجوع لهاتين النسختين مع وجود نسخة المؤلف إلا لملء البياض والسقط الذي وقع في بعض مواضع المخطوط. وكان هذا الكتاب قد طبع بعضه بالهند بعناية محمد أرشد رئيس القسم التعليمي بجامعة ديوبند بالهند. طبعة قديمة لا تتيسر للطالبين في الوقت الحاضر فضلًا عن تطور أدوات الطباعة والإِخراج والالتزام بقواعد التحقيق العلمي.
وقد قام خبراء الوزارة بدراسة منهج التحقيق، وأبدوا توجيهات وملحوظات على عمل المحققين تم الأخذ بها حيث بذل المحققون الأفاضل جهودًا كبيرة في ضبط النص والتعليق عليه بما يكفل سلامة القراءة وتيسير النص ونقل أقوال النقاد في الحكم على الأحاديث، وقد تصدرت الكتاب مقدمة مستفيضة عن الإِمام العيني ومنهجه ومكانة كتابه، هذا وإن اللجنة إذ تضع هذا الكتاب النفيس بين يدي العلماء وطلبة العلم فإنها تدعوهم إلى موافاتها بملحوظاتهم واقتراحاتهم حول منشوراتها في حقل التراث.
1 / 3
وهي تسأل الله العلي القدير أن يأخذ بأيدي الجميع إلى ما فيه الخير والعزة والسؤدد لأمة الإِسلام.
لجنة إحياء التراث الإِسلامي
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد
فإن كتاب "شرح معاني الآثار" من أعظم دواوين الإِسلام وأنفسها، وأكثرها فائدة ونفعًا، وقد تضمن مزايا عديدة، وفوائد فريدة يجدها من يمعن النظر فيه، وكما قال العيني ﵀: فإن الناظر فيه المنصف إذا تأمله يجده راجحًا علي كثير من كتب الحديث المشهورة المقبولة ويظهر له رجحانه بالتأمل في كلامه وترتيبه، ولا يشك في هذا إلا جاهل أو متعصب.
وقال في مقدمة "مغاني الأخيار": قد جمع من سننهم كتابا مُترَّهًا بشرح معاني الآثار، فائقًا غيره من الأمثال والأنظار، مشتملًا علي فوائد عظيمة وعوائد جسيمة، إن أردت حديثًا؛ فكبحر تتلاطم فيه أمواجه، وإن أردت فقها؛ رأيت الناس يدخلون فيه أفواجًا، بحيث من شرع فيه لم يبرح يعاوده، ومن غرف منه غرفة لم يزل يراوده، ومن نال منه شيئًا نال مُنَاهُ، ومن ظفر استوعب غناه، ومن تعلق به سِفْرًا ساد أهل زَمَانِهِ، ومن تعلق به كثيرًا يقول متلهفًا: ليت أيام الشباب ترجع إلى ريعانِهِ، ولم يهجر هذا الكتاب إلا حاسد ذو فساد، أو ذو عناد، أو متعصب مماري، أو مَنْ هو من هذا الفن عاري.
1 / 5
وقد قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (١٥/ ٣٠) في ترجمة أبي جعفر الطحاوي: ومن نظر في تواليف هذا الإِمام علم محله من العلم وسعة المعرفة.
وقد يتميز هذا الكتاب بأنه يشتمل على الفوائد الكثيرة التي لا توجد في غيره.
فمنها: أنه يكثر من سرد أسانيد الحديث فكثير من الأحاديث المروية في غيره توجد فيه بزيادات مهمة كتعدد الأسانيد التي تزيد الأحاديث قوة.
وقد يكون الحديث في غيره بسند ضعيف ويوجد فيه بسند قوي.
أو يكون في غيره من طريق وتوجد فيه طرق أخرى، وتعدد الأسانيد يظهر للمحدث نكت وفوائد مهمة.
ومنها: أنه توجد في كتابه فوائد كثيرة في المتون؛ فيقع في كتابه مطولًا ما وقع في غيره مختصرًا، أو مفسرًا ما كان عند غيره مجملًا، أو مقيَّدًا ما كان عند غيره مطلقًا وغير ذلك من مهمات الفوائد.
ومنها: أنه يشتمل علي كثير من الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم وآرائهم في الفقه ما لا يوجد في غيره من الكتب حاشا مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة والمحلي.
ولذلك قال العيني في كتاب الزكاة، باب "الصدقة علي بني هاشم": فانظر إلى اتساع رواية الطحاوي وجلالة قدره الذي أخرج في حكم واحد نادر الوقوع بالنسبة إلى غيره عن اثني عشر صحابيًّا مع استنباط الأحكام والتوغل فيها!
ومنها: أنه بوب كتابه علي مسائل الفقه ثم يورد الأحاديث وينبه على استنباطات عزيزة من الأحاديث لا يكاد يُنتَبَه إليها.
ومنها: أن مؤلفه رتب الكتاب علي ترتيب كتب الفقه ثم تلطف في استخراج مناسبات يورد فيها الأحاديث المتعلقة بالأمور التي يتبادر إلى الذهن أنها ليست متعلقة بتلك المسألة التي عقد لها الباب.
1 / 6
وهذا في كتابه كثير يظهر بالتتبع والتأمل.
ومنها: أنه مع إثباته مذهب الأحناف وإيراد أدلتهم يذكر أدلة المخالفين في الباب ثم يرجح بينها وينصر مذهب أبي حنيفة غالبًا إلا في مواضع يسيرة.
قال الكوثري: من مصنفات الطحاوي الممتعة: كتاب "معاني الآثار" في المحاكمة بين أدله المسائل الخلافية، يسوق بسنده الأخبار التي يتمسك بها أهل الخلاف في تلك المسائل ويخرج من بحوثه بعد نقدها إسنادًا ومتنًا رواية ونظرًا ما يقنع الباحث المنصف المتبرئ من التقليد الأعمى، وليس لهذا الكتاب نظير في التفقيه، وتعليم طرق التفقه، وتنمية مَلَكة الفقه.
وقد صرح الإِمام الطحاوي في مقدمته بسبب تأليفه للكتاب فقال: سألني بعض أصحابنا من أهل العلم أن أضع له كتابًا أذكر فيه الآثار المأثورة عن رسول الله ﷺ في الأحكام التي يتوهم أهل الإلحاد، والضعفة من أهل الإِسلام أن بعضها ينقض بعضًا لقلة علمهم بناسخها ومنسوخها وما يجب عليه به العمل منها لِمَا يشهد له من الكتاب الناطق والسُّنَّة المجتمع عليها، وأجعل لذلك أبوابًا أذكر في كل كتاب منها ما فيه من الناسخ والمنسوخ، وتأويل العلماء، واحتجاج بعضهم علي بعض وإقامة الحجة لمن صح -عندي- قوله منهم بما يصح به مثله من كتاب أو سنة أو إجماع، أو تواتر من أقاويل الصحابة أو تابعيهم، وإني نظرت في ذلك وبحثت بحثًا شديدًا، فاستخرجت منه أبوابًا على النحو الذي سأل وجعلت ذلك كتبًا، ذكرت في كل كتاب منها جنسًا من تلك الأجناس.
قلت: وقد توسع: في دعوى النسخ كثيرًا، وقام بنصرة مذهب أبي حنيفة: وتكلف في كثير من الأحيان تكلفًا شديدًا لنصرة مذهبه.
فتراه في كتابه هذا يبدأ بعدد من الآثار والأدلة التي يذهب إليها المخالف ثم يتبعها بالآثار المعارضة التي يراها هي أولى بالاتباع، ويرجحها، ثم يصرح بأن هذا هو مذهب أبي حنيفة أو أحد أصحابه، أما غير الأحناف فنادرًا ما يصرح باسمهم.
1 / 7
ولما كان المشتهر بين الناس أن مذهب الأحناف هو مذهب أهل الرأي حتى ادعى عليهم بعضهم بأنهم يردون الأحاديث التي تتعارض مع مذهبهم؛ تصدر الطحاوي: لنصرة هذا المذهب بالأحاديث والآثار.
فأضحى هذا الكتاب أصلًا أصيلًا ومرجعًا مهمًّا في نصرة مذهب أهل الرأي بالأثر.
ومن أجل هذا كان لعلمائهم عناية خاصة بهذا الكتاب وروايته وتدريسه وشرحه وتلخيصه والكلام علي رجاله.
فألفوا حوله كتبًا كثيرة ما بين شروح ومختصرات وتراجم لرجاله.
ومن أعظم من شرحه العلامة بدر الدين العيني ﵀: وهو الشرح الذي بين أيدينا.
وقد كانت للحافظ بدر الدين العيني: عناية خاصة بهذا الشرح وكيف لا والسبب الداعي لتأليفه له هو دفع الفرية التي تتهم الأحناف بأخذهم الرأي وتقديمه على الأحاديث والآثار؛ لذلك شد العزم وأخرج كل ما في جعبته من علوم ومعارف لنصرة المذهب ودفع الشبهات والتشكيكات من حوله؛ فأضحى هذا الكتاب كنزًا للأحناف في نصرة مذهبهم.
وقد عني العيني بتدريسه سنين طويلة في المدرسة المؤيدية، وكان الملك المؤيد شيخ ملمًّا بالعلم يناقش العلماء فيه حتي جعل لهذا الكتاب كرسيًّا خاصًّا في جامعته كباقي أمهات كتب الحديث، وعين لهذا الكرسي البدر العيني فقام البدر بتدريس هذا الكتاب خير قيام مدة مديدة وألف في شرحه كتابين ضخمين فخمين صورة ومعنى أحدهما "نخب الأفكار في تنقيح معاني الآثار"، وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
والشرح الثاني هو "مباني الأخبار في شرح معاني الآثار" وهو خالٍ من الكلام في الرجال حيث أفردهم في تأليف خاص سماه "مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار"، وقد قال في مقدمته:
1 / 8
ولما كانت مخدرات هذا الكتاب مقَنَّعَة تحت النقاب، ومستوراته محتجبة وراء الحجاب، وأزهاره مستورة، وأثماره مخبأة في أكمامه، أردت أن أجلوها علي منصة الإِيضاح وأجلوها على الإفصاح؛ ليصير عرضة للخطاب وبغية للطلاب، فيرغب فيها كل من له دين سليم، ويميل إليها كل من كان علي منهج مستقيم؛ بأن أدون له شرحًا يزيل صعابه، ويستخرج عن القشور لبابه، ويبين ما فيه من المشكلات، ويكشف ما فيه من المعضلات؛ مشتملًا:
أولًا: علي تخريج رجاله من الرواة، وتمييز الضعفاء من الثقات؛ لأنهم العمدة في هذا الباب، وهم الأعمدة في قيام صحة كل كتاب.
وثانيًا: متعرضًا لمشكلات ما هي من المتون، فيما يتعلق بأحوال اللفظ والمعني، منبهًا علي من وافقه من أصحاب الصحاح والسنن. اهـ.
وسنتكلم عن منهجه إن شاء الله تعالى أثناء ترجمتنا للعيني ﵀.
وممن شرحه قبل العيني ﵀: محمد بن محمد الباهلي (٣١٤هـ)، وسماه: "تصحيح معاني الآثار".
وقد ذكره العلامة فؤاد سيزكين في "تاريخ التراث العربي" (٢/ ٨٦).
وكذا شرحه الشيخ العلامة عبد القادر القرشي (٧٧٥ هـ) وسماه: "الحاوي في بيان آثار الطحاوي"، وهو مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم (١٩٥ حديث).
وكذا شرحه الحافظ أبو محمَّد المنبجي صاحب كتاب "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب"، وهو مخطوط يوجد منه قطعة في مكتبة آيا صوفيا في الآستانة.
وممن لخصه: حافظ المغرب ابن عبد البر.
وكذلك الحافظ الزيلعي صاحب "نصب الراية"، وهو مخطوط محفوظ بمكتبة رواق الأتراك، ومكتبة آيا صوفيا في الآستانة.
وكذلك اختصره ابن رشد المالكي وهو مخطوط في مجلد بدار الكتب المصرية تحت رقم (٤١٩ حديث).
1 / 9
وقد جمع مشايخ الطحاوي في جزء واحد عبد العزيز بن أبي الطاهر التميمي كما في "الحاوي".
وقد جمع الحافظ قاسم بن قطلوبغا رجاله في كتاب وترجم لهم بإسهاب وسماه "الإيثار في رجال معاني الآثار" كما في "الرسالة المستطرفة".
وقد اعتني بجمع أطرافه الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "إتحاف المهرة بأطراف العشرة".
وأما العيني ﵀: فقد أفرد كما ذكر في تراجم رجال الطحاوي كتابًا جعله كالمقدمة لكتابه "مباني الأخبار شرح معاني الآثار"، والذي لم يتعرض فيه لتراجم رجال الأسانيد بخلاف كتاب النخب الذي تعمد الترجمة لكل رجال أسانيده فيه. وسماه "مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار".
1 / 10
ترجمة المصنف
اسمه ونسبه:
هو البدر أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن الحسين بن يوسف بن محمود، الحلبي الأصل العنتابي المولد ثم القاهري، الحنفي المذهب الشهير بالبدر العيني.
مولده ونشأته:
ولد البدر في بلدة عينُ تاب -وهي قلعة حصينة ورستاق بين حلب وأنطاكية، وكانت تعرف بدلوك، ودلوك رستاقها، وهي من أعمال حلب- في السابع عشر من رمضان سنة اثنين وستين وسبعمائة من الهجرة، ونشأ بها نشأة أبناء العلماء في زمانه، فتلقى العلوم علي والده القاضي شهاب الدين أحمد بن موسي وعلي غيره من المشايخ بعين تاب، وبرع في كثير من العلوم حتى إنه استطاع أن يتولى القضاء نيابة عن والده وأن يجيد القيام بمهامه.
ولم يقف طموح البدر عند تلقي العلوم علي علماء بلدته فارتحل إلى البلاد المجاورة طلبًا للعلم علي يد العلماء المبرزين في كل فن، فانتقل إلى حلب وأخذ عن أجلة شيوخها، كما انتقل إلى بهنسا وإلى كختسا وإلي ملطية لنفس الغرض، وفي سنة ثمان وثمانين وسبعمائة سافر إلى الحج، وزار بيت المقدس فالتقي بشيخ علماء العصر علاء الدين أحمد بن محمد السيرافي الحنفي فلازمه وداوم علي صحبته ثم سافر معه إلى مصر، وقرَّه صوفيًّا في عداد صوفية المدرسة البرقوقية التي افتتحها السلطان الظاهر برقوق في سنة تسع وثمانين ثم عين خادمًا فيها، وتهيأ له بذلك طول الملازمة لشيخه علاء الدين، فدرس عليه علوم الفقه وأصوله والمعني والبيان وغيرها، وسنحت له الفرصة لتلقي العلوم علي غيره أيضًا من أكابر شيوخ القاهرة.
1 / 11
ثم بعد أن رسخ له كثير من العلوم وذاع صيته في القاهرة، تولي عدة مناصب ووظائف، فعين محتسبًا للقاهرة بعد عزل العلامة تقي الدين المقريزي في سنة إحدى وثمانمائة، ثم عزل عنها ثم أعيد مرة أخرى، ثم عزل وعن تقي الدين المقريزي مكانه، ثم عين ناظرًا للأحباس في عصر السلطان المؤيد وفوض إليه تدريس الحديث بالمدرسة المؤيدية عند افتتاحها وصار من خلصاء السلطان المؤيد، وألف له كتابًا في سيرته وسماه "السيف المهند في سيرة الملك المؤيد".
وحينما استقر الظاهر ططر وتولى السلطنة زاد في إكرام العيني لسابق صحبته معه، وعلت منزلته عنده، وأسرع بتأليف كتاب في سيرته وأسماه "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر".
كما قام بترجمة كتاب القدوري في فقه الحنفية بناء علي توجيه هذا السلطان، ولما تولى الملك الأشرف برسباي السلطنة قربه إليه، ونال البدر من رفعة المنزلة وعلو الدرجة في أيامه ما لم ينله في أيام غيره من السلاطين حتى كان يسامره ويقرأ له التاريخ الذي جمعه -وهو عقد الجمان- باللغة العربية ثم يفسره له بالتركية لتقدمه في اللغتين؛ وعلمه كثيرًا من أمور الدين حتى حكي عنه أنه كان يقول: لولا البدر العيني لكان في إسلامنا شيء، وعرض عليه النظر علي أوقاف الأشراف فأبى فولاه حسبة القاهرة، ولم يزل يترقى عنده إلي، أن عينه لقضاء الحنفية في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين عوضًا عن التفهني ويقال: إنه لم يجتمع القضاء والحسبة ونظر الأحباس في آن واحدٍ لأحد قبله.
شيوخه:
أكثر العيني من الشيوخ الذين أخذ عنهم العلم، وكان من كبار شيوخه:
الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي، والحافظ سراج الدين البلقيني، وعالم الديار المصرية ومسندها المحدث تقي الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن الدجوي، والعلاء علي بن محمد بن عبد الكريم القوي، والحافظ نور الدين
1 / 12
أبو الحسن علي الهيثمي، وقطب الدين عبد الكريم بن المتقي بن الحافظ الحلبي، وشرف الدين بن الكويك، والشيخ محمود بن محمد العينتابي، والشيخ ذو النون، والعلامة ولي لدين البهنسي، والشيخ شهاب الدين أحمد بن خاص التركي، والشيخ جمال الدين يوسف بن موسى الملطي، وغيرهم كثير، وقد جمعهم في مصنف أسماه "معجم الشيوخ".
تلاميذه:
تولى العيني التدريس بعدة مدارس أهمها المؤيدية وقد ظل يدرس الحديث بها نحو أربعين سنة، ودَرَّس الفقه بالمدرسة المحمودية، وتعددت دروسه في مدارس القاهرة وتتلمذ عليه كثير من العلماء، وذلك لأنه عُمِّر طويلًا، وعده الحافظ ابن حجر في عداد شيوخه برغم تقاربهما في السن وما كان بينهما من مشاحنات.
وقال السخاوي: حدث وأفتي ودرس وأخذ عنه الأئمة من كل مذهب طبقة بعد أخرى بل أخذ عنه أهل الطبقة الثالثة. اهـ.
وممن تتلمذ علي يديه:
الإِمام المحقق كمال الدين بن الهمام، والعلامة الحافظ ناصر الدين أبو البقاء محمد بن أبي بكر الصالحي المعروف بابن زريق، والحافظ قاسم الدين قطلوبغا، والحافظ شمس الدين السخاوي، والعلامة أبو الفتح محمد بن محمد العوفي، والعلامة زكي الدين أبو بكر الكختاوي، وقاضي القضاة عز الدين أحمد بن إبراهيم الكتافي الحنبلي.
مؤلفاته:
ترك البدر العيني رصيدًا ضخمًا من المصنفات في جميع العلوم المعروفة في زمانه حتي قيل: إنه لا يقاربه أحد من أهل عصره في كثرة مصنفاته إلا أن يكون الحافظ ابن حجر العسقلاني.
1 / 13
فصنف في علوم التفسير والحديث واللغة والفقه والبلاغة والبيان والعروض والتاريخ والمنطق وغير ذلك كثير، فمن مؤلفاته:
١ - البناية في شرح الهداية للإمام المرغيناني، مطبوع في عشر مجلدات.
٢ - تحفة الملوك في المواعظ والرقائق -مخطوط في مكتبة برلين تحت رقم (٤٥٢٠/ ٤١)، وفي مكتبة الجزائر تحت رقم (٩٩٢).
٣ - تكميل الأطراف مجلدة مخطوط في مكتبة شهيد باشا علي برقم (٣٨٧).
٤ - الدرر الزاهرة في شرح البحار الزاخرة للرهاوي في المذاهب الأربعة، في مجلدين ثانيهما بخط المؤلف- محفوظ بدار الكتب تحت رقم (١٨٣ - ١٨٤) فقه حنفي.
٥ - رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق للنسفي -في فقه الحنفية- مطبوع مع شرحه في مجلدين.
٦ - الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر، مطبوع.
٧ - السيف المهند في سيرة الملك المؤيد- مطبوع في مجلد.
٨ - شرح سنن أبي داود، مطبوع.
٩ - عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان في خمسة وعشرين جزءًا، وقيل: ثلاثة وعشرين تقع في تسعة وستين مجلدًا.
١٠ - العلم الهيب في شرح الكلم الطيب لابن تيمية، وهو مطبوع في مجلد.
١١ - عمدة القاري في شرح الجامع الصحيح للبخاري، وهو مطبوع.
١٢ - فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد، المعروف بالشواهد الصغرى، وهو مطبوع في مجلد.
١٣ - المسائل البدرية المنتخبة من الفتاوى الظهيرية لظهير الدين أبي بكر محمد بن أحمد البخاري الحنفي المتوفى سنة (٦١٩) - دار الكتب (٤٢٨ فقه حنفي، وهو بخط المؤلف).
1 / 14
١٤ - المستجمع في شرح المجمع (مجمع البحرين لابن الساعاتي) في مجلدين، دار الكتب (رقم ٤١٨، ٧٩٠ فقه حنفي).
١٥ - مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار، مطبوع في مجلدين.
١٦ - المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، المعروف بالشواهد الكبرى وهو مطبوع علي هامش كتاب خزانة الأدب للبغدادي.
١٧ - منحة السلوك في شرح تحفة الملوك لزين الدين محمد بن أبي بكر بن عبد المحسن الرازي الحنفي- مخطوط في دار الكتب في عدة نسخ.
١٨ - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار للإمام أبي جعفر الطحاوي، وهو كتابنا هذا.
١٩ - المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية -المعروف بالشواهد الكبري- مطبوع علي هامش كتاب خزانة الأدب للبغدادي.
٢٠ - ملاح الألواح في شرح مراح الأرواح، مطبوع.
٢١ - كشف القناع المُرنى عن مهمات الأسامي والكني، مطبوع.
وغير ذلك كثير مما يطول المقام بذكره.
عقيدته:
البدر العيني شأنه شأن كثير من أهل العلم في عصره والعصور التي قبله قد جنحوا إلى تأويل الصفات من نسبة اليد والوجه والقدم والسمع والبصر لله ﷿ والأفعال مثل الاستواء والإتيان والنزول وغير ذلك مما صحت به النصوص ونقلها الخلف عن السلف.
وأما أهل السنة والجماعة فلم يتعرضوا لها برد ولا تأويل، بل أنكروا علي من تأولها، مع إجماعهم علي أنها لا تشبه نعوت المخلوقين، وأن الله -جل وعلا-:
1 / 15
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (١) وفوضوا كيفيتها إلى الله ﷿ ولم يُعْمِلوا العقل في ذلك بل آمنوا وكَفُّوا، وهذا هو اعتقاد أهل العلم المبرزين وأهل الحديث خاصة؛ تبعًا لما جاء به النبي ﷺ -وقال به مَنْ بعده من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون وتابعوهم، ولذا نجد الإِمام ابن خزيمة يقول في كتابه "التوحيد" (١/ ٢٦): فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه ربنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز ربنا أن نشبهه بالمخلوقين وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز عن أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون. انتهى.
ونحن مع ذلك نعذر من تلبس من علمائنا ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذَل وسعه، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع حسن قصده وتوخيه اتباع الحق أهدرناه وتركنا ما برع فيه من العلوم الأخرى لقلَّ مَنْ يسلم لنا من الأئمة، فرحم الله الجميع بمنه وكرمه، وعفا عنا وعنهم.
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:
لا شك أن هذا التراث الذي خلفه لنا البدر يعطي فكرة واضحة عن المكانة العلمية التي كانت له في عصره، ولقد أثنى عليه كثير من العلماء، فقال العلامة أبو المعالي الحسيني في كتابه "غاية الأماني":
شيخ العصر، وأستاذ الدهر، ومحدث زمانه المتفرد بالرواية والدراية.
وقال الشيخ أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي في "المنهل الصافي":
كان بارعًا في عدة علوم، مفتيًا كثير الاطلاع، واسع الباع في المعقول والمنقول، لا يستنقصه إلا متغرِّض، قل أن يذُكر علم إلا له فيه مشاركة جيدة.
_________
(١) سورة الشورى، آية: (١١).
1 / 16
وقال السخاوي في "الضوء اللامع":
وكان إمامًا عالمًا علامة، عارفًا بالصرف والعربية وغيرها، حافظًا للتاريخ وللغة كثير الاستعمال لها مشاركًا في الفنون، ذا نظم ونثر مقامه أجل منهما، لا يمل من المطالعة والكتابة، كتب جملة، وصنف الكثير، بحيث لا أعلم بعد شيخنا -أي: ابن حجر- أكثر تصانيف منه، يقال: إنه كتب القدوري في ليلة، بل سمع ذلك منه العز الحنبلي، وكذا قال المقريزي: إنه كتب الحاوي في ليلة.
اشتهر اسمه وبَعُد صيته، مع لطف العشرة والتواضع.
وقال ابن خطيب الناصرية في "تاريخه":
هو إمام عالم فاضل مشارك في علوم، وعنده حشمة ومروءة، وعصبية وديانة.
وفاته:
توفي البدر العيني ليلة الثلاثاء رابع ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثمانمائة عن ثلاث وتسعين سنة، وصُلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن في مدرسته التي تقع في حارة كتامة بحي الأزهر، وإلى حفيده الأمير أحمد بن عبد الرحيم بن البدر العيني ينسب قصر العيني الشهير بالقاهرة.
منهج العيني في شرح "معاني الآثار":
شرح العيني: كتاب "شرح معاني الآثار" شرحًا جميلًا منسقًا، يذكر فيه مناسبة الحديث بالباب، ومناسبة الباب بما قبله من الأبواب، ويتكلم علي رجال إسناده بإسهاب، ويبين فيه اللغات والإعراب، ووجوه المعاني والبيان، والأسئلة والاعتراضات والأجوبة، وتخريج مواضع الحديث وما يستنبط منه من الأحكام.
وقد قام المؤلف: بوضع حرف "ص" قبل الجزء الذي يريد أن يشرحه من كتاب "شرح معاني الآثار" دلالة علي أنه من كلام المصنف أو إشارة إلي أن هذا الكلام هو صدر الكتاب، كما يضع حرف "ش" قبل الشرح.
1 / 17
ثم يبدأ في شرح الأبواب فيشرح ترجمة الباب وعلاقته بالباب الذي قبله، وسبب تأخيره عنه.
ثم يقوم بترجمة إسناد الحديث فيترجم لرواة الحديث راويًا راويًا مقتصرًا على اسمه ونسبه ولقبه ومرتبته في الجرح والتعديل وذكر من وثقه ومن جرحه ومن أخرج له من أصحاب الكتب الستة.
وغالبًا ما يضبط الأسماء والألفاظ المشتبهة إما بالشكل أو بالحروف.
ثم يقوم بذكر من أخرج الحديث من أصحاب الكتب المشهورة.
ثم يقوم بالحكم على الأحاديث من حيث الصحة والضعف.
ثم يشرع في شرح الألفاظ الغريبة في النص، وإعراب ما يشكل من الجمل والكلمات بإسهاب.
ثم ينقل المصنف المذاهب الفقهية المتعلقة بالمسألة ويناقشها، ويتوسع فيها فيذكر آراء الصحابة والتابعين وبقية الفقهاء، مع أدلتهم والردود عليها، وغالبًا ما يقوم بترجيح الآراء الموافقة لأصحابه الأحناف وينتصر لهم ويقرر مذهب أبي حنيفة ويتكلف كثيرًا في الرد علي مخالفيهم، ناقلًا عن أمهات كتب الفقه والحديث.
ويكثر من عرض الاعتراضات والإشكالات مبرزًا إياها بقوله: فإن قيل ... ويجيب بـ قلت:
غالبًا ما يذكر المصنف بعض الفؤائد المنتقاة من الأحاديث في آخر كل حديث فيقول في بعض الأحيان: ويستفاد منه أحكام، ثم يسردها.
وأحيانًا يقول: ويستنبط منه أحكام ... ثم يذكرها.
وأحيانًا أخرى يقول: وفيه ... ثم يذكر الفائدة.
في كثير من الأحيان يذكر الطحاوي أثناء عرض المسألة الفقهية الفرق المختلفة فيقول: فقال قوم، أو يقول: فقالت طائفة، أو ما شابه ذلك.
1 / 18
فيقوم العيني: ببيان من هم هؤلاء القوم أو الطائفة ويسميهم بأسمائهم إن كانوا من الصحابة أو التابعين أو أصحاب المذاهب.
عند إنتهاء المسألة وسرد أدلتها يذكر غالبًا العيني الأحاديث التي لم يذكرها الطحاوي فيقول مثلًا: روى الطحاوي في هذه المسألة عن خمسة عشر صحابيًّا وينقل عن الترمذي أحيانًا ما فات الطحاوي فيقول وقال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: وفي الباب عن فلان وفلان، ثم يسردهم ثم يذكر الأحاديث والآثار التي فاتت الطحاوي ويذكر من أخرجها.
في كثير من الأحيان يترك المؤلف بياضًا عند ذكر حديث لم يعثر علي من أخرجه أو لم يستحضره، أو عند راوٍ لم يجد من ترجمه وقد تتبعته في كثير من هذه المواضع واستدركتها.
التوصيف العلمي للمخطوطات:
١ - المخطوط "الأصل": وهي من محفوظات دار الكتب المصرية تحت رقم (٥٢٦ حديث)، وهي بخط المؤلف:، وقد كتبت بخط نسخي جميل، وعدد أجزائها ثمانية أجزاء، وقد فرغ من تأليفه عام (٨١٩ هـ).
وقد نقص من أول خطبته شيء قليل.
وأوراقها من القطع الكبير وكل ورقة منها تتكون من وجهين، عدد أسطر كل وجه ما بين (٢٩: ٣٠) سطرًا.
وهذه النسخة يوجد بها نقص وخروم في مواضع كثيرة فوقع نقص في أول المجلد الأول، وأول المجلد الثاني، وآخر المجلد الثالث، وآخر المجلد الرابع، وأول المجلد الثامن، وينتشر هذا النقص في المجلد الثامن.
وهناك بعض الأوراق وضعت في غير موضعها، وتم التصوير علي هذا الخطأ مما سبب لنا مشكلات في كثير من الأحيان حتى انتبهنا إلى، موضعها فأعدناها إلى موضعها.
1 / 19
وقد جزَّأ المؤلف: كل مجلد إلى أجزاء فجعل كل عشرة ورقات جزءًا يكتب عند بداية كل جزء أعلي يسار الورقة "ب" رقم الجزء بالحروف مثل: الأول، أو الثاني، وهكذا.
كتب علي بعض الورقات من "الأصل" بعض التصويبات أو التعليقات، ولم يذكر اسم كاتبها، ويغلب علي ظني أنها بخط ناسخ النسخة المتأخرة "ك"، كما في [٨/ ق ٢١٤].
وفي بعض الورقات يكتب صاحب هذه الحواشي عناوين فرعية علي جانب الورقة مثل إذا تكلم المؤلف في مسألة أصولية مثلًا يكتب بجواره: بحث أصولي كما في [٤/ ق٦٥ - أ].
أو بحث "أولاد المشركين"، وبحث "كل مولود يولد على الفطرة"، كما في [٤/ ق ٩٠ - أ] وغير ذلك.
٢ - مخطوط كتاب "مباني الأخبار في شرح معاني الآثار"، وهي نسخة بخط المؤلف: وهي من محفوظات دار الكتب المصرية تحت رقم (٤٩٢ حديث)، وانتهي من نسخها سنة (٨١٠ هـ)، وعدد أجزائها أحد عشر جزءًا، الموجود منها في دار الكتب ستة أجزاء، وهي الأول، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن، والحادي عشر، وينتهي بآخر الكتاب.
وأوراقها من القطع الكبير، وكل ورقة منها تتكون من وجهين، عدد أسطر كل وجه ٣٠ سطرًا، وعلى حاشية بعض أوراقها تعليقات وتصويبات للمؤلف بخطه، وكتب فوق التعليق أو التصويب "صح".
وقد استعنت بها في استدراك بعض النقص في النسخ الأخرى خاصة في أول المجلد الأول.
واستيضاح بعض الكلمات بمراجعة موضعها من هذا الكتاب الأم.
1 / 20