وانحدرنا من الغد إلى مدينة أغمات ورُيكَةَ عن درج نزلنا لجَرَّاه عن الظَّهر. وقدنا الدواب قودًا، فجازت ناجية عن صراط بعد سياط ومياط. واجتزنا على ديار هنتاتة بذلك السفح على حدود أضدادهم الوريكيين، وقد أسْهلوا وانبسطوا، ومثلت لهم الديار الحُمْر، تحف بها البساتين الخضر، تخترقها المذانب الزُّرْق. وأرحنا من تلك الجهة بالمسجد البديع الحافل البنية، السامي المئذنة، المقام لصق دار موسى بن علي الهنتاتي، البادي طللها، المنبئة عن أخبارها آثارها، تُوسِعُه ما شاء من ثناء ورحمة.
ثم أتينا مدينة أغمات في بسيط سهل مُوَطَّأٍ لا نَشَزَ فيه ينال جميعه السَّقْي الرَّغد، وتركبه الخلجان وقد تموَّج به العشب، وعافته الأيادي وغَلَّتْ أيدي فلاحه الفتنة. وهذه المدينة قد اختطت في الفضاء الأفْيَح، فبلغت الغاية من رحب الساحة وانفساح القورة، مثّلَت قصبتها منها قبله، وسورها مُحْمَرُّ التُّرْب، سَجِحُ الجِلْدَة، مُنْدَمِلُ الخندق، يخترقها واديان اثنان من ذَوْبِ الثلج وسؤر الجبل، قامت بضفتيها الأرحاء واردة وصادرة، مرفوعة الأسداد، منيعة البناء. يمر أحدهما بشرقي المسجد الجامع طامي العباب محكم الجسور، نظيف الحافة، نزهة للأبصار وعبرة لأعين النظار. ومسجدها المذكور عتيق عادي كبير الساحة، رحيب الكنف متجدد الألقاب. ومئذنته لا نظير لها في معمور الأرض. أسسها أولوهم مربعة الشكل وما زالوا يَبْخَسُون الذَّرْع، ويجحدون العرض، حتى صارت مُجَسَّمًا كاد يجتمع في زاوية المخروط. وأدير عليه فارز من الخشب يطيف بناء لاط، وقد أطل سامي جامورِها فوقه، فَقَبُحَتْ حتى مَلُحَتْ واستحقت الشُّهْرة والغرابة.
وأهل هذه البلدة ينسب إليهم نُوكٌ وغَفلةِ عِلّتُها، إن صدقت الأخبار، سلامة وسذاجة، فَتَعْمُرُ بملحهم الأسمار، وتتجمل بنوادر حكاياتهم الأخبار. فمنها أن ملك المغرب لما عجب من هذه المئذنة، استأذنوه في نقلها إلى بلدة على سبيل الهدية، يجعلونها تحفة قدومه، وطُرفة وفادته.
وبازائها المسجد، بينه وبين النهر المار بازائه قبة عظيمة القبو، فخمة البنية، ترقص فيها فوارة خرقاء في خُصَّة من الحجر الأدكن مشطوفة الباطن رحيبة القطر، قد تثلمت بعض حافاتها لمماسة الأيدي، ومباشرة أجرام الخزف والفخار عند الاغتراف بما ينبئ عن قديم عهد وطول مدة.
وللسلطان بهذه المدينة دورٌ حافلة تدل على همم ومعالي أمم، واحتفال عوالم درجوا وأمم، قد ركلها العفا وجذب معاطفها الخراب. فما شئت من خُشُبٍ منقوشة وأطُمٍ مرقومة.
وبداخل هذه المدينة بساتين وجنات، ولم يبلغ الخراب من مدينة ما بلغ من هذه الأيِّم المهتضمة، فتشعثت محاسنها، وأخلقت ملابسها وأوحش عمرانها لتتابع الفتن وعيْث الشُّرار الذين لا تُعبِّدهم الطاعة ولا تزغهم الشريعة. أنقذ الله من لَهاَة التَّبار فريستها واستدرك بمدافعته مسكنْها.
وأطرفني الخطيب بها بأخبار من اعتقل فيها من مخلوع ملوك الأندلس وأمراء طوائفها كالمعتمد بن عَبَّاد، وأبي محمد عبد الله بن بُلُقّين بن باديس أمير وطننا غرناطة. ووقفني على تاريخ صدر عنه أيام اعتقاله، يشرح الحادثة على ملكه في أسلوب بليغ ختمه بمقطوعات من شعره تشهد بفضله.
وزرت بخارجها قبر المعتمد على الله أَبي القاسم محمد بن عبَّاد، أمير حِمْص وقرطبة والجزيرة وما إلى ذلك الصقع الغربي ﵀، وهو بالمقبرة القبلية عن يسار الخارج من البلد، قد تَوَقل نشزًا غير سام وإلى جانبه قبر الحرة حظيته وسكن نفسه اعتماد إشراكًا لاسمها في حروف لقبه، المنسوبة إلى رُمَيْك مولاها، المتولعة بشأنه معها أخبار القصاص وحكايات الأسمار إلى أجداث من ولدهما. فترحمنا عليه وأنشدته:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أوْلي المهماتِ
لم لا أزورُك يا أندى الملوك يدًا ... ويا سراج الليالي المدْلَهِماتِ
وأنت مولىً تَخَطَّى الدهر مصرعه ... إلى حياتي أجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هَضْبٍ يميزه ... فتنتحيه حَفِيَّات التحيات
كَرُمْتَ حيًا وَميْتًا واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأَموات
ما ريئ مثلك في ماض ومعتقد ... أن لا يرى الدهر في حال ولا آت
1 / 5