ولما كدنا أن نختم عدد نُوَب المجاز، ونأتي على عَنَتِه، تلقتنا الخيل راكضة أمام اليعسوب المتبوع عبد العزيز بن محمد الهنتاتي، صنوه وحافظ سيقته، وقسيمه في قعساء عزته، الحسن الوجه، الراجح الوقار، النبيه المركب، الملوكي البزة، الظاهر الحياء، المحكِّم الوَخْط إيثارًا للحشمة، واستكثارًا من مواد التجلة على الفَنَاء والجدَة. فرَّحب وأسْهَل، وارتاح واغتبط، وألطف وقدَّم. وصعدنا الجبل إلى حلة سكناه، المستندة إلى سفح الطَّوْد، وقد هيأ ببعض السهل الموطأ للاعتمار بين يدينا من المضارب كل سامي العماد، بعيد الطُّنُب، سوّي القامة، مقدَّر التفاصيل، بديع النقش والصنعة، ظاهر الجدة، مصون عن البِذْلَة، يظلل من مراتب الوطاء الرفيع، ولحف الحرر ومساند الوشي، وانطاع مزعفر الجلد ما تضيق عنه القصور المحجَّبةِ والأبهاء المنضدة. ولم يكد يقر القرار، ولا تنزع الخِفاف، حتى غمر من الطعام البحر، وطما الموج، ووقع البَهْت، وأُمِّل الطَّحْو، ما بين قصاع الشيزي أفعمها الثُرُد، وهيل بها السمن، وتراكبت عليها لِسمَان الحُملان الأعجاز، وأخونة تنوء بالعصبة أولى القوة، غاصة من الآنية بالمُذْهَبِ والمُحْكَم، مُهْدِيةً كل مختلف الشكل، لذيذ الطعم، مُهانٍ فيه عزيز التابل، محترم عنده سيدة الأحامرة الثلاثة إلى السمك الرضراض والدجاج فاضل أصناف الطيَّار، ثم تتلوها صحون نحاسية تشتمل على طعام خاص من الطير والكُبَّاب واللقالق، يقع منها بعد الفراغ إلمام ذلك الرئيس في نفر من خاصته بما يدل على اختصاص ذلك بنفسه. ويتلو ذلك من أصناف الحلواء بين مُسْتَبْطَن للباب البُر، ومعالج بالقَلْو، وأطباق مُدَّخر الفاكهة وأوعية العود المحكم الخلَق، المشتملة على مُجاج الشهد. وقد قام السماط من خدام وأساودة أخذتهم الآداب وهذبتهم الدُّربة، فخفَّت منهم الحركة وسكنت الأصوات، وانشمرت الأذيال. وقد اعتمَّ من الآنية النحاسية للوضوء والوقود كل ثمين القيمة، فاضل أجناسه في الطيب والأحكام والفخامة.
ولم يكد يفرغ من الأكل إلا وقد جن الليل، وتلاحق من الطعام السيل، مربيًا على ما تقدم بالروية وانفساح زمن الاحتفال، وتفنن أصناف الحلواء، وتعدَّى عسليّها إلى السكر، وكان السَّمر والمجالسة في كنف لألاء الشموع الضحاكة فوق المنصات النحاسية، والأتوار اللاطونية فاستعيد الكثير من تاريخ القطر وسيره، وخبر لجأ السلطان المقدس أمير المسلمين أبي الحسن إلى قنتة، والتحرم بمنبع وعز جواره على تفئه هيض جناحه، وَتَبرّى أثيره عميد العساكر منه، وإطراق العيون عند نجدته، وتصامم المسامع عند هاء استغاثته، وقد خَذل النصير، وزلت الأقدام، وساءت الظنون، وما كان من إجابة هذا النَّدْب عبد العزيز لندائه، والتبجح بمنعة جبله، ووفور عدته، وأصيل وفائه، واستصحابه إلى مقر أهله ومفزع ولده، ودفتعه عنه بنفسه وقبيله، ورضاه بتغير ما تناله الأيدي بالسهل من نعمته، فعادت قاعًا صفصفًا بمرأى من عينه، فعاثت فيها ألسنة النار بأرض البوار عن طيب من نفسه حتى لكادت الكرة أن تتاح، والدولة أن تدول، والملك أن يثب، والعثرة أن يقال لها لعًا. لولا طارق الأجل الدى فَصَل الخطة وأصْمت الدعوة، ورفع المنازعة. فتوفاه الله بين السحر والنحر، والأنف والعين، واستأمن من بعده لمن كان خلص إليه من خدامه، وانحدر طوعًا بين يدي سريره، وأبقى محل وفاته مرفَّهًا عن الابتذال بالسكنى، مفترشًا بالحصباء، مقصودًا بالابتهال والدعاء فتخلُفُها أي منقبة شَمَّاء، ومأثرة بلغت ذوائبها أعنان السماء، ويدًا على الخلق بيضاء.
1 / 2