أما أرسطاطاليس فلم يستطع أن يفرق بين الشيء ومثاله، ولم يقل بأن للمثل وجودا مستقلا منفصلا عن وجود صورها الخارجية، ولم يستطع أن يؤثر هذه المثل ويتخذها وحدها موضوعا لبحثه، وإنما اتخذ الأشياء من حيث هي أشياء موضوعا لهذا البحث، فأثبت بمقدار ما كانت تسمح له ظروف العلم والفلسفة في ذلك الوقت أن هذه الأشياء مع أن لكل منها وجودا مستقلا قائما بنفسه فإن بينها اتصالا ليس فيه من شك، وأن كلا منها إنما هو منتج أو نتيجة لغيره، فلا بد حينئذ من البحث عن هذه الصلة التي تجمع بين هذه الأشياء المختلفة وتكون منها كلا متحدا قوي الوحدة.
لهذا تناول كل شيء بالبحث والتحليل، وخيل إليه أنه قد استطاع أن يرد العالم إلى أصول معينة، وأن يثبت له وللفلسفة وحدة ليس فيها من شك حين وصل به التحليل إلى أن كل موجود فهو منحل بعد إزالة أعراضه إلى ثلاثة أشياء: المادة والصورة والمحرك، وأن هذه المادة إنما تكتسب صورها المختلفة بواسطة هذا المحرك لغاية من الغايات وغرض من الأغراض حكيم في نفسه؛ سواء أحسن رأينا فيه أم ساء.
على أننا نخشى إن أردنا أن نفصل هذه الفلسفة تفصيلا كافيا أن نقع في الإسراف، ونخشى إن أردنا أن نوجزها أن نقع في الغموض، فخير لنا أن نكتفي منها بما أثبتناه من أن أرسطاطاليس هو أول من حاول محاولة مثمرة أن يثبت وحدة العالم ووحدة الفلسفة، وأن هذا هو أنفع ما وصل إليه من البحث فيما بعد الطبيعة.
فالبحث عن الكائن من حيث هو كائن هو موضوع الفلسفة النظرية لأرسطاطاليس، وفيه تناول البحث عن العالم الطبعي والرياضي وعن ما بعد الطبيعة، ولكن أرسطاطاليس كان كما قدمنا رجلا محققا، مهما تعمق في البحث العلمي فهو لا ينسى الواقع ولا الحياة العملية.
وقد قلنا: إنه كان يتخذ كل شيء موضوعا لبحثه، ولا شك في أن الحياة العملية شيء من الأشياء، فلم يكن بد من البحث عنه، ومن إثبات ما بينه وبين القسم النظري من صلة حتى تتكون هذه الوحدة التي كان يريد تحقيقها نظرا وعملا.
فالبحث عن هذه الحياة العملية للإنسان هو موضوع القسم الثاني من قسمي فلسفته.
وقد تناول أرسطاطاليس في هذا القسم الإنسان فبحث عنه من عدة وجوه.
نظر إليه من حيث هو شخص منفرد، ونظر إليه من حيث هو حيوان اجتماعي، ونظر إليه من حيث هو مفكر، ونظر إليه من حيث هو مدبر للأشياء.
وفي الحق أن قاعدة الفلسفة العملية عن أرسطاطاليس هي أن الإنسان حيوان اجتماعي، وما نظن أنه قد حاول أن يفرض للشخص من حيث هو شخص منفرد وجودا حقيقيا، وإنما رأى أن الجماعة إنما تتألف من أفراد منفصلين بالفعل، وأن لهؤلاء الأفراد حقوقا وعليهم واجبات، فلم يستطع أن يهمل هذا الانفراد، بل لاحظه في علم الأخلاق.
فأرسطاطاليس إذن لا يعترف بوجود الشخص المطلق، وإنما يرى الفرد الإنساني دائما مقيدا بقيود اجتماعية مختلفة، ومن هنا لم يكن من الخطأ ولا من الإسراف أن نقول: إن الفلسفة العملية لأرسطاطاليس إنما هي فلسفة اجتماعية قبل كل شيء.
Shafi da ba'a sani ba