انتقل أرسطاطاليس من مقدونيا إلى أتينا حين بلغ السابعة عشرة ليتم درسه، وكانت أتينا في ذلك الوقت على ضعفها السياسي وانقباض سلطانها في البر والبحر مدرسة اليونانيين عامة، يحجون إليها من جميع الأقطار اليونانية في أوروبا وآسيا وأفريقيا.
ولم تكن قد أتقنت فنا واحدا من الفنون أو علما واحدا من العلوم، وإنما كانت قد جمعت إليها كل ما كان يسيغه العقل والذوق في ذلك الوقت من علم وفلسفة ومن أدب وفن، وحسبك أنها كانت مدينة الممثلين والمؤرخين والمغنين والخطباء والشعراء والفلاسفة وغيرهم من أساتذة الفنون الأخرى كالنقش والتصوير، وحسبك أنها كانت مدينة سقراط، وأن هذه الفلسفة السقراطية كانت قد انبعثت منها في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن الرابع، فانتشرت في جميع أقطار اليونان واصطبغت في كل قطر منها صبغة خاصة، وبقي أصل هذه الفلسفة في أتينا ينمو نموا معقولا منظما بواسطة أفلاطون.
فلم يكن من الغريب أن يسعى كل شاب يستطيع السعي إلى أتينا ليشهد فيها دروس الفلاسفة وليسمع فيها لأساتذة البيان وليحضر فيها تلك الجلسات السياسية التي لم تكن توجد في غيرها من المدن، والتي كان يسمع فيها أشد اليونان فصاحة ولسنا وأقدرهم على تدبير الكلام وتسخيره لما يريد، نريد بها جلسات جماعة الشعب الأتيني.
أضف إلى ذلك هؤلاء الفقهاء الذين كانوا يفسرون القوانين الأتينية المختلفة ويدرسون ما لليونان على اختلاف أجناسهم من رأي في القوانين، ويلقون أمام المحاكم الأتينية من خطب الدفاع ما لا نزال نعجب به إلى الآن، وعلى الجملة فقد كان اليوناني يقصد أتينا كما يقصد الشرقي الآن باريس، إلا أن لباريس خصوما تعدلها وقد تفوقها في بعض ضروب العلم، أما أتينا فلم يكن لها عدل ولا نظير.
كان أرسطاطاليس في ذلك الوقت قد فقد أباه وأصبح ذا ثروة تمكنه من الرحلة والإنفاق بسعة على ما كان يريد تحصيله من العلم، فأقام في أتينا عشرين سنة متصلة منذ سبع وستين إلى سبع وأربعين وثلاثمائة، وكان أشد الناس شهرة علمية في أتينا في هذا العصر رجلان؛ أديب وفيلسوف، فأما الأديب فهو إيسوكراتيس الذي أخذ يدرس ما كان لليونان من فن أدبي، ويستخلص من هذا الدرس أصول البيان اليوناني وقواعد البلاغة، والذي كان قد اشتهر إلى هذا بمهارته الخاصة وإجادته تحبير الخطب وتدبيج فصول الكلام.
فصحبه أرسطاطاليس وسمع له، ولا شك في أن إيسوكراتيس قد أثر في تلميذه تأثيرا خاصا، فسنرى عناية أرسطاطاليس بوضع أصول الشعر والخطابة وتنظيم قواعد البيان.
أما الفيلسوف فهو أفلاطون، وكان غائبا عن أتينا حين وصل إليها أرسطاطاليس، ولكنه لم يلبث أن عاد إليها سنة خمس وستين وثلاثمائة وأخذ يدرس في الأكاديميا، فلزمه أرسطاطاليس وأحسن الاستماع له، ويظهر أنه قد شغف أفلاطون وبهره، فكان أفلاطون يسميه أناجيستيس؛ أي القراء، وكان يسميه أنوس؛ أي العقل.
ومهما يكن من شيء، فقد لزم أرسطاطاليس درس أفلاطون إلى أن مات سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فلم يستطع أرسطاطاليس أن يقيم فيها بعد أستاذه، فسافر إلى أماكن مختلفة منها أتارنيا وهي مدينة في آسيا الصغرى.
كان لهذه المدينة طاغية يقال له هرمياس، وكان هذا الطاغية صديقا لأرسطاطاليس، يظهر أنهما تعارفا وتحابا في درس أفلاطون، فمكث أرسطاطاليس عند صديقه حينا ثم كأن صديقه حاول الخروج على الملك الأعظم أو أبى أن يؤدي إليه الإتاوة فقتله.
وكان لهذا الطاغية أخت أو ابنة أخت يقال لها بتياس، فتزوجها أرسطاطاليس وارتحل بها من أتارنيا إلى جزيرة متيلين، وقد جزع أرسطاطاليس لفقد صديقه جزعا شديدا فبكاه في شعر تظهر فيه الحسرة وشدة الأسى، ويقال إنه أقام له تمثالا في دلف.
Shafi da ba'a sani ba