وإنما نحن يا مي ضايقناه في بعض شؤون مملكته حتى ظننا نريد منازعته فيها؛ لنترك له السياسة التي يحبها وحمايتنا، وأقول لك همسا: «إننا لا ننفع بدونه، ولكنه هو أيضا لا ينفع من غيرنا!»
إن المطالبات بحق الانتخابات وإن كن يطلبن حقا إلا أنهن ظالمات الرجل وأنفسهن معا، لماذا يرمن مشاركته في الجلوس على كراسي «البرلمان» ولا تقدم واحدة منهن صدرها للقاء كرات المدافع ونصال الفناء في الحرب، الحق أحق أن يتبع.
ليهنأ الرجل بمملكته، إننا لا نهز عرشه ليتداعى إلى السقوط كما تقولين، ولكنا نهزه لنطلب منه «الدستور».
باحثة البادية
ولها في وصف البحر في حالتي صفوه وكدره:
تعالى الله ما هذا الجلال! أيها البحر إنك كأطماع الإنسان لا تنتهي إلا إذا عبر جسر الحياة، كذلك أنت لا يعرف لك حد إلا عند الخروج منك، أو أنك كقلب الرجل مرة تصفو ومرة تغضب، لا أمان لك في الأولى ولا أمان في الثانية، إذا رضيت كنت جمالا وإن غضبت انقلبت نكالا.
أيها البحر، إنك رهوا نعم المركب الذلول، كأن صفحتك من الغمام، يصطخب الموج بين أحشائك ويتلاشى كألفاظ الحاد تمر بسمع الحليم، وتشق البواخر جوف عبابك فتصبر عليها صبر الكليم، تحمل من الأثقال والأكدار ما لو حملته الجبال لخرت هدا، كأن صوتك الهادئ تموجات لحن شجي، وكان أمواجك المزبدة متتابعة متقابلة سرايا جيش منظم يحمل رايات السلام، إذا صحت السماء استعارت صفاء زرقتك وإن تجللت بالغيم حكت لون كدرتك، تضيق عليك الأرض مسالكها فتنكمش وتوسع لك فتنفرج، تجري متواضعا تحت قدميها وأنت أعظم منها قوة وأعز شأنا، تنفجر جبال النار (البراكين) بين ضلوعك فلا تلتاع ولا ترتاع كأنك أجمد من قلب الخلي، أو كأنها بثور بأديمك أو أثر لذع البعوض في وجه الحسناء، كم سقطت فيك جزر وبلدان تحتمي بك من مآثمها ومعاصيها فمسحتها بدموعك ونفيت روعتها بمائك الطهور، ظلموك أيها البحر إذ لم يهتموا بك اهتمامهم بأختك الغبراء، زينوها وتركوك عاطلا ففنيت بجلالك عن جمالها المصطنع، وبحدائق مرجانك وأودية درك عن حدائقها الخضراء وأوديتها الجرداء، وصلتهم فقطعوك، وشايعتهم فناوؤوك، بذلت لهم ما تملكه زينة وطعاما وتسامحت لهم بمائك فحللوه شرابا وأنخت لهم متنك فاتخذوه ركابا، وصقلت لهم جبينك فجعلت منه عند بزوغ القمرين مرآة ومشكاة تفيض عليهم بهجة ونورا، كأن العسجد أذيب فيك نهارا، وتكسرت في ثنائك جداول اللجين ليلا، وأنت أيها البحر الخضم أصل حياتهم، منك الغيث ومن الغيث الحياة، أظللت سماءهم وأنبت غذاءهم وألطفت هواءهم، وفوق ذلك فأنت مستودع أسرارهم وقارورة أقذارهم، فهل تراهم على ذلك يشكرون؟! تالله ما رأيت مثلك اتضاعا في عظمة واحتسابا في قدرة.
وإذا عبثت أيها البحر وكشرت عن نابك، ويا سرعان ما تعبث! فإن الموت في تقطيب حاجبيك يصرح الشر باسمه عند زمجرة منك، كأن جوفك كان مملوءا أسودا فلفظتها فاغرة أفواهها، تبلع من تصادف في طريقها، يدوي صوتك كالرعد القاصف فيمطر وابل المنايا بغير ولي، ما أظلمك أيها البحر! مستبد غاشم؛ تأخذ البريء بدم المجرم أو تأخذه بلا جريرة، إن الله لم يظلمك إذ جعلك ملحا أجاجا، وإن البشر لم يبخسوك حقك إذ امتطوا ظهرك كالدابة ومزقوا أديمك سفرا، وإن أقل خفقة في قلب الأرض تذكر تضطرب على اتساعك، وأدنى هزة من الريح تهز أعصابك، لا أمان عندك فتحب ولا ميعاد لغضبك فتتقى، كأنك في تقلبك رأي الضعيف أو يمين الحانث وفي تلونك كالحرباء، كم مجرم استعان بك على كتمان جريمته، وكم ملك أفنى رعيته ودفن العدل في جوفك كأن آذيك متلاطما قمم الجبال تتساقط كسفا أو رؤوس الجند البريء تتناثر إرضاء لأهواء الملوك الظالمين، كأن جوفك المظلم ضمير الحسود يغلي كالرجل ويخفي ما يخفي تحت ثوب الرياء، تنطح الصخر الأصم كمستجدي البخيل، ثم ترجع أدراجك كالسائل المحروم أو كالجيش المقهور تشمخ بأنفك فترغمها اختراعات الإنسان، وتتطاول على السماء فتسقط إعياء ويرجع البصر خاسئا وهو حسير، لا أثر للرحمة عندك كأنك قلب الكافر الجحود، لا يسوغ لك شراب تمج مرارة كمرارة المظلوم أرهقه العذاب، كأن بريق مائك التماع أسنة الخرصان أو امتداد ألسنة النيران، شاهر سيفك بادئ العدوان، لكنك لا تتمثل في هجومك بما يفعله الشجعان؛ لأنك تطلع على الغافلين بالردى بغير نذير.
لا حبذا أنت أيها البحر من طريق ولا رفيق، لولا اضطرارنا إليك ما سلكناك، ومن يسلم منك فما ينجو من الحمام إلى الحمام كما قال المتنبي:
وإن أسلم فما أبقى ولكن
Shafi da ba'a sani ba