وتبصر أوروبة مذعورة كون خطتها في تقسيم أفريقية أمرا يمارى
1
فيه، ويكون للمستعمرين من الإنكليز - بعد الآن - بطل تدعوهم ذكراه إلى الجهاد والانتقام، ويغدو غوردون رمز السلطان السياسي الذي يحتمل أن يكون قد حلم به في ساعات انفراده على سطح قصره. وإذا حدث أن أمة لم تقم بالواجب نحو رجل هلك في سبيلها فإنها عملت الشيء الكثير من أجل ذكراه وفاء لما عليها تجاهه، وقد حفزت هذه العوامل كلها إنكلترة إلى كفاح لم ترده بعد هلاك الكولونيل هيكس.
وينتظر ثلاث عشرة سنة مع ذلك، ويسيطر الخليفة على السودان فيما بين سنة 1885 وسنة 1898 أو يحاول فرض سلطانه عليه إرهابا، ويبدأ الخليفة بقتل جميع من يضايقه من أقرباء المهدي، ثم يهدد مصر العليا في الشمال والزنوج في الجنوب ودارفور في الغرب والحبشة في الشرق، وينال نصرا أو يعاني كسرا في كل الجهات مناوبة، وتنقض دول البيض المجاورة - إنكلترة وفرنسة وبلجيكة - بلاد السودان من أطرافها بلا قتال.
وتمضي إحدى عشرة سنة بعد موت غوردون فيكون لحادث من الأثر ما يدفع إنكلترة إلى اتخاذ قرار، فقد أسفر سحق الطلاينة من قبل النجاشي منليك في عدوى، في شهر مايو سنة 1896، عن حمل الأحرار على إدراكهم ضرورة تدخل بريطانية العظمى أو جلائها عن مستعمراتها. والحق أن الدولتين الكبيرتين - إنكلترة وإيطالية - غلبتا من قبل أناس ملونين تابعين لبلدين بشرق أفريقية متحاربين في ذلك الحين مع احتمال تحالفهما بين حين وحين، ويحل وقت السير فتقرر لندن أن تتدخل في السودان بعد معركة عدوى بأحد عشر يوما.
وكان ذلك حلا عاما، وكان تقسيم أفريقية قد تم تقريبا، والأمة التي تحتل السودان تدعم إمبراطوريتها الاستعمارية اقتصاديا وعسكريا وتسيطر - بوجه خاص - على الطريق الصالحة لفرنسة من الغرب ولإنكلترة من الجنوب، ولم تعدم بريطانية العظمى وسيلة لاطلاع مصر على ما يساورها بعد احتلالها قاصدة البقاء فيها لا ريب، وأمكن بريطانية العظمى أن تستند لبلوغ ذلك إلى ثلاث ظواهر متساوية بطولة؛ وهي: أن تنقذ ذلك القطر من الفوضى وأن تحمي مصر وأن تنتقم لغوردون مع منعها توسع فرنسة أو ألمانية من الغرب والجنوب. وكان من الرأي السائد منذ بضع سنين أن يشك في فطنة الإنكليز، وأن يمتدح حظهم أو المصادفات التي ساعدتهم. وأما في الحال الراهنة فيجب أن يعترف لهم باتساع المدارك في سياستهم.
والنيل مصدر الحياة لمصر، والنيل يقطع السودان، حتى في الوقت الحاضر يقول إنكليزي من أصحاب المناصب العالية إنه لا يحق لإنكلترة أن تجر إلى مصر خطر استيلاء أمة ثالثة على النيل الأعلى فيكشف النقاب بذلك عن رغبة دولة في الضم لا تزال تروم النصر في الحروب الاستعمارية. وهكذا يذهب البريطاني إلى الحرب لينقذ مصر ويقترن بها ويتمتع بمالها وجمالها ككثير من أبطال الأساطير.
وتنتفع إنكلترة بتجاربها السابقة، وتقتضي هذه الحملة رجالا ومالا أقل مما اقتضته الحملة الأولى، وتكلف بالنصر، وتقدم مصر المال والرجال لما زعم من خطر على سلامتها، ولم ينفق الإنكليز غير 1300000؛ أي أقل مما بذروه في مقاتلة المهدي بعشر مرات.
أجل، يبدو الانتصار أرخص من الانكسار على العموم، غير أن الآلهة جعلت العرق وجهاد اليوم أمام تاج النصر، والصحراء بلا ماء تقريبا هي التي تمتد من حدود مصر إلى الخرطوم؛ أي بين الدرجة الثانية والعشرين والدرجة السادسة عشرة من العرض الشمالي. وإذا اعتمد على النيل ودوافعه وانعطافه كان الهلاك كما وقع لهيكس وغوردون، والنيل هدف الحملة، والنيل أداة الفتح أيضا، والنيل لا يصلح طريقا للسير إلى الأمام، ولا بد من خط حديدي يقطع الصحراء، ولا جبال ولا نهر هنالك، ولا احتياج إلى صنع أنفاق أو إنشاء جسور كثيرة لذلك، وهذا إلى أن الخط الحديدي دليل نشاط أكثر من أن يكون آية فن، فيديره ضباط، والجو - لا الأرض - هو العدو الذي يجب أن يقهر، ويدخل هذا ضمن إرادة الجنود الذين قرنوا بذلك العمل.
وكان عمر القائد في الصحراء يناهز الأربعين، وكان رصين الوجه، وكان أهيف طويلا كثير الشعر أسمر بفعل الشمس صحيح البنية مرنا إلى الغاية عند ركوبه حصانا على الخصوص، وما كان حوله مزعجا إذا ما علم أنه نتيجة فلج في العضل الأعلى لعينه اليسرى، وما كان من وضعه الفاتر ونفوره من الناس وصمته المتجبر فلا يجعله محل عطف، وما كان من طراز مصافحته فيوحي بأنه رجل لا يود أن يقع من الناس موقع الرضا، وإنما يريد أن يؤثر فيهم.
Shafi da ba'a sani ba