215

Nil: Rayuwar Kogi

النيل: حياة نهر

Nau'ikan

ومما كان يحدث أحيانا أن يقنع أفاق، أو شارد - نسميه عليا - أحد متمولي الخرطوم، بأن يقرضه مائة جنيه على أن يدفع صعفيها عاجا بعد ستة أشهر، ويغري علي هذا نفرا من المشتبه فيهم، ويشتري زوارق وبنادق وقذائف وبضع مئات أرطال من لؤلؤ فينيسية الزجاجي، ويدفع إلى كل واحد من أولئك رواتب خمسة أشهر مقدما (15 تاليرا)، ويعدهم بضعف ما دفع عند العود من الغزو، ويناولهم ورقة لتقييد حساباتهم، ويردون الورقة إليه؛ لأنه الوحيد الذي يعرف الكتابة، ويسار في شهر ديسمبر إلى جهة منابع النيل حيث يقيم الشلك والدنكا، ويرتبط علي برابطة الصداقة في أحد الرؤساء ويهدي إليه بضع بنادق، وينطلق هذا الرئيس إلى محاربة جيرانه وأعدائه، ويهاجم علي ورجاله قرية في تلك الأثناء ويحرقها ويقتل بعض أهلها الزنوج ويقطع أيديهم أخذا لأسورتهم، ويقتاد الناس والأولاد والمواشي ويعود إلى صديقه الأسود الجديد فيقدم إليه فتاة حسناء مع شيء من المواشي.

وتساور الملك الزنجي رغبة في أخذ كثير من القطاع، ويخرج عاجه من الأرض ويأتي به إلى ذلك الغريب الذي يعده من الباشوات أو من الآلهة تقريبا، ويأخذ الخفراء نصيبهم من الغنائم، حتى من العبيد، وتقام سوق، ويشري كل واحد أقصى ما يمكنه منها، ويقيد علي كل شيء حتى ينزله من أجور رجاله، ثم يعيد العبيد الموثقين بالأغلال إلى نسائهم البائسات أو إلى آبائهم في مقابل أنياب فيل جميلة.

ويختم ذلك باختصام الرئيس وحليفه وينهبه علي ويقتله ويقود نساءه وأولاده عبيدا، وتملأ القوارب ويستعد للرحيل، ويتخلف بعض الرجال إدامة للنهب وإعدادا لغنيمة أخرى في العام القادم، وبالقرب من الخرطوم تنزل هذه السلعة البشرية وتوزع بين الباعة خشية اطلاع السلطات على مقدار الثروة التي جمعها علي، وينقل العبيد بطريق الصحراء والبحر الأحمر إلى بلاد العرب، ويساق بعض العبيد إلى القاهرة، ويوضع حول عنق كل واحد منهم ملقط ذو مقبض طويل لامس لذراعه المبسوطة، فإذا ما أرخى ذراعه اختنق، ويأتي علي دائنه بالعاج الموعود، ويبلغ ما يجيء به من العاج في العام الجيد عشرة آلاف كيلوغرام؛ أي ما تساوي قيمته في الخرطوم أربعة آلاف جنيه إنكليزي، ويدفع إلى رجاله عبيدا فلا يكلفونه شيئا لهذا السبب، ويبلغ نصيب رئيس الغزوة بضع مئات من العبيد يباع كل واحد منهم بخمسة جنيهات أو ستة جنيهات، وهكذا يغتني علي بمحصول ثانوي ككثير من تجار البيض.

وهكذا صار النخاسون أصحاب سلطة سياسية فغدت في الجنوب أقوى من سلطة الحكومة لتحالفهم مع بعض الأمراء ضدها في الغالب، وكانت بعض الرواتب تدفع إلى الموظفين المصريين عبيدا، وكان كبار الموظفين وصغارهم، وكان باشا الخرطوم، وكان هؤلاء جميعهم، يضاربون كما في مصفق نيويورك عند ارتفاع الأسعار. ومما يروى مع التوكيد أنه بيع ما بين أربعين ألفا وستين ألفا من الآدميين في كل سنة مما بين سنة 1840 وسنة 1860، ولا يعرف عدد الموتى الكثير في تلك السنين. وأصبحت التجارة التي بدأت بالعاج في النيل الأعلى أمرا ضروريا للدولة، وأسفرت في نهاية الأمر عن أزمة سياسية وعن أفول السيادة المصرية.

الفصل السابع

مثل ذات يوم فرنسي - مثل الرحالة كايو - أمام والي مصر مع هدية غريبة، وذلك أنه جلب إليه من السودان كيسا مشتملا على بذور قطن وثماره، وأثار لديه فكرة تجربة زراعة القطن في دلتا مصر، ولم يقرأ محمد علي كتاب بليني؛

1

لأنه جندي من أصل ألباني. وقد سمع محمد علي عن القطن المصري لا ريب، وإذ كان محمد علي فاتحا، لا أميرا وراثيا، كان لديه من الذكاء ما يدرك معه أهمية هذه الإشارات التي سنتكلم عنها في مكان آخر. وفي سنة 1820 جاء تقرير الرائد متما لتقارير الضباط والموظفين، ويعلم الباشا من كايو أمورا طريفة جامعة بين الحقيقة والخيال كما في جميع الأقاصيص الشرقية، يعلم الباشا منه وجود ذهب في السودان، وأن الفراعنة كانوا ينالونه منه، وأنه يعج بالعاج والأفيال وأن كردفان بلد اللبان، وأن الألماس الذي يحدث عنه منذ أقدم الأزمان يوجد حوالي الدرجة الثانية عشرة من العرض لما يوجد منه في الأمكنة الأفريقية الأخرى الواقعة حول هذه الدرجة.

ومما جلبه كايو زجاجة ماء من ملتقى النيلين، وكان كايو عالما حمسا في آن واحد فأيقظ روح الإقدام في محمد علي على هذا الوجه، ويا للمجد الذي يناله ولي أمر يكتشف منبع النيل! وستخمد خصومة أوروبة ضد فاتح مصر إذا ما صار نصيرا للعلم.

ومن المحتمل قليلا أن يكون محمد علي قد أسر إلى كايو بما يضمر من أفكار سياسية. أجل، كان يعد الذهب والألماس معدنين مفيدين، ولكنه كان يرى أن الأفضل منهما أن ينقذ القاهرة من المماليك الذين كانوا قد ثاروا عليه، وأن يلهي كتائبه الألبانية والتركية، وأن يجتذب إلى مصر تجارة البحر الأحمر، وأن يجمع جنودا على الخصوص، ومن أحلام جميع الطغاة أن يجمعوا جنودا كثيرين، ولو بلغ جنودهم من كثرة العدد ما يصبحون معه عاطلين من العمل! والجنود عبيد حرروا لتفرض عليهم عبودية جديدة، ولم يدفع النوبيون ضرائب منذ سنين كثيرة، وأرهقهم الجباة عسرا، ووجد هذا سببا لجباية ضريبة منتجة، سببا لجمع جنود. وإذا كان القطن ينبت من تلقاء نفسه فلم لا تزرع منه مقادير كبيرة هنالك وينتفع به في مصر؟ وإلى هذا يضاف الذهب والعاج ومجد اكتشاف منابع النيل!

Shafi da ba'a sani ba