كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة
تأليف
عبد الرحمن بن نصر الشيزري
قام على نشره
السيد الباز العريني
مدرس بمدرسة الخديو إسماعيل الثانوية
بإشراف
محمد مصطفى زيادة
أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة فؤاد الأول
القاهرة
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
(١٣٦٥ - ١٩٤٦)
المقدمة / 1
تصدير لكتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيزري
يُخيَّل إليّ أنَّ التاريخ الاجتماعي، وهو طورٌ لا ريب جديد في مدارج البحث التاريخي، سيصبح عما قريب هو النوع الوحيد الذي تصحّ تسميته تاريخًا عند الإطلاق؛ وسيتعين على المؤرخين آنذاك في المستقبل أن يسمّوا ما عدا هذا النوع من الأبحاث التاريخية بأسماء مركبة، فيقولون التاريخ السياسي، والتاريخ الدستوري، والتاريخ الاقتصادي، والتاريخ الحربي، وهَلُمَّ جرّا. ولست أرتجل هذه الفكرة حبًا في الطلوع برأي غير مألوف، كما أني لست ألقى القول جزافًا رغبة في التفرّد بجديد؛ فالتاريخ عنده فيلسوف المؤرخين ابن خلدون بحثٌ "في أحوال العمران والتمدين، وما يعرض فيه للاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية .... ". والتاريخ الاجتماعي في صورته الحاضرة، وإنْ اقتصر على التعريف بطرق الحياة عند الفرد والجماعة، وعلى شرح وسائل الكسب والمعيشة اليومية، ووصفِ المجتمع في تقدّمه وتأخّره، إنما يوضّح في الواقع آثار الملوك في ممالكهم، وينوّه بالرؤساء والزعماء السياسيين وقادة الفكر في عصورهم المختلفة؛ وهو يفسّر كذلك أسرار قيام الدول وسقوطها، وتعاقبَ الملوك وتوارثَ العروش، واشتعال الحروب وخمودها، وانعقاد المؤامرات وانصرامها، لأنّ واحدًا من هذه الأشياء لا يمكن أن يتأتى إلا نتيجة لما بالمجتمع من عوامل ومؤثرات ظاهرة وباطنة. ذلك أنّ الدولة التي تستطيع النموّ والتوسّع - اقتصاديا أو حربيًا - لا بدّ أن تستمد استطاعتها هذه من مجتمع قادر على النموّ والتوسّع، دون أن يفقد ذلك المجتمع شخصيته وخصبه العقلي؛ كما أن الدولة التي تبدو عاجزة قاصرة بالقياس إلى غيرها من الدول، لابدّ أن يكون قصورها وعجزها أثرًا لما بالمجتمع نفسه من نقص مادي أو روحيّ، وهكذا.
وكتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" للشيزري، الذي تخرجه لجنة التأليف والترجمة والنشر هذا العام، نبع من منابع التعريف بأحوال المجتمع الإسلامي عامة - والشرق الأدنى خاصة - في العصور الوسطى، وهو لذلك مورد من أقرب الموارد الصافية التي سيغترف
المقدمة / 3
منها المشتغلون بكتابة التاريخ الإسلامي حسب الأسس الجديدة، وليس له شبيه في تصويره الحياة اليومية - فيما أعلم - إلا ما كتبه المتأخرون في الحسبة كابن الأخوة، أو النواحي الاجتماعية عموما كابن الحاج في "المدخل" والمقريزي في "إغاثة الأمة"، وهؤلاء جميعًا - فيما يبدو - قد استقوا من الشيزري، أو نقلوا منه مباشرة أو بالواسطة، كما أوضح الناشر في مقدمته العلمية.
وقد قرأتُ هذا الكتاب الصغير أوّل مرة مخطوطًا أيام طلبي العلم في انجلترا، واختلافي إلى المتحف البريطاني بلندن، أي منذ خمس وعشرين سنة على وجه التحديد، فعرفتُ له قيمته بين النصوص القديمة، وجعلته في مستودع الآمال، وتمنّيت أن أحد الفرصة المواتية القيام على نشره في صورة علمية نافعة. ثم مضت السنون، وتعاقبت عليّ طبقات من الطلبة بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأولى؛ وما عَتَّمِتُ أن وجدتُ في أحد الممتازين منهم، وهو السيد الباز العريني، استعدادًا غير عاديّ لتحقيق ما أصبو إليه، على الرغم مما يتطلّبه النشر العلمي الصحيح من مجهود صامت وصبر طويل. وإذ يخرج هذا الكتاب اليوم من غيابات المخطوطات إلى عالم المطبوعات الحية، فإني جديرٌ أن أشكر الناشر على جهوده الموفقة في تحقيق أملٍ من آمالى، وفي إتحاف المكتبة العربية بمتن هامٍ له الأسبقية والمنزلة الأولى بين المتون الخاصة بالحسبة.
غير أنّ أهمية الكتاب لا تنحصر في مجرّد أسبقيّته وأفضليته على سائر الكتب المشابهة، كما أنها لا تستند إلى إفاضة مؤلفه في بيان ما ينبغي للمحتسب أن يتحلّى به من الصفات، أو يقوم عليه من مراقبة السوقة والأسواق؛ بل تظهر أهميته كذلك فيما جاء به من ذكر ما كان يقوم به أصحاب الحرف والصناعات من أنواع الغشّ في مبيعاتهم ومعاملاتهم، مما ينبئ ببعض أحوال التجارة والتجار، في عصر المؤلّف على الأقلّ. يضاف إلى ذلك ما بالكتاب من الحقائق الكاشفة عن كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية في القرن الثاني عشر الميلادي، كاستخدام النساء في تنظيف القطن والكتان على أبواب الحوانيت بالطريق العام (ص ٦٩، ٧٠)، وشغف نساء بغداد بالأخفاف التي تصرّ عند المشي لاجتذاب الأنظار (ص ٧٣). وبالكتاب كذلك كثير من الألفاظ العربية الفصيحة والمولَّدة الصحيحة،
المقدمة / 4
مثل الدوّارين ونصاب المبضع والمِلْزَم ونحوها (انظر الفهرس)، ممَّا يغوص أهل العربية في بطون المطوّلات والأمهات لالتقاطه، حرصًا على المرادفات التي يُستغنى بها عن بعض الألفاظ الأعجمية التي حلّت محلّ السليم في الاستعمال. والذين يقيسون الكتب بمقدار بما فيها من تسلية، يجدون كذلك في هذا الكتاب كثيرًا من الأخبار الطريفة، مثل أخبار قلائي السمك وصُنَّاع الزلابية، وحيل الجرائحية والكحّالين، ومثل أنواع الأطعمة التي لم يستطع الناشر أن يتذوّقها أو يصيبها بتعريفه من مراجعه الكثيرة.
على أنّ المزية الكبرى هذا الكتابه، هي ما فيه من أخبار عن حقيقة النظم الإسلامية وخصائص المجتمع الإسلامي، فهذا منصب الحسبة - وهو منصب قام بمصر قياما متّصلا منذ العصور الوسطى إلى زمن محمد على الكبير - قد هيمن متولّيه على أكثر من أربعين ناحية من نواحي الحياة اليومية، حيث شملت ولايته "أن يتردّد إلى مجالس القضاة والحكام، ويمنعهم من الجلوس في الجامع والمسجد للحكم بين الناس" (ص ١١٣)، وأن "يقصد مجالس الأمراء الولاة والأمراء، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويعظهم ويذكّرهم، ويأمرهم بالشفقة على الرعية" (ص ١١٥)؛ وهذا وذالك فضلا عن مراقبة الخبازين والأساكفة، والأطباء والمؤدّبين - حتى السقائين والغسالين. فهل معنى هذا أنّ المجتمع الإسلامي كان في غير حاجة لوازع القانون، بحيث أمكن الجمع بين كثير من جهات الضبط والربط والإدارة في يدٍ واحدة؟ أم معنى هذا أنّ روّاد السوق من المنتجين والمستهلكين كانوا عددًا ضئيلا بالنسبة إلى بقية السكان الذين لم ينعموا يبيع أو شراء إلا في النادر، بحيث استطاع المحتسب أن يسيطر في اليوم الواحد - بمساعدة عيونه وغلمانه وأعوانه - على ما تقوم به عدة إدارات وزارية في العصر الحاضر؟ ثم أسألُ أخيرًا عن سرّ قيام المحتسب بمراقبة كلّ ما جاء بالمتن هنا من نواحي الحياة اليومية، على حين عدم اختصاصه بمراقبة عمل السكر، واستخراج عسل النحل، وأحوال القيان، وشئون المدارس (وهذه غير الكتاتيب طبعًا). هذه أسئلة يوحي بها المتن إلى القارئ باديَ القراءة في هذا الكتاب، ولا إخال المتوفّر على البحث في المجتمع الإسلامي إلا واجدًا جملةً أخرى من الأسئلة.
المقدمة / 5
وبعد فإني أترك المتن يخبر من مزاياه التي بينتُ بعضها فحسب، كما أترك الحواشي تخبر بنفسها عما بذله الناشر من جهد بالغ وعناية مشكورة. وإني لأرجو أن يعمد العاملون إلى استخراج الكثير من أمثال هذا المتن، کي تصبح كتابة التاريخ كما ينبغي أن يكتب التاريخ.
محمد مصطفى زيارة
مصر الجديدة ٢١ رجب ١٣٦٥ هـ
٢١ يونيه ١٩٤٦ م
المقدمة / 6
مقدمة الناشر
أوّلُ من فطن إلى كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيزري هو الدكتور فالتر برناور (Walter Behrnauer)، أمين المكتبة الإمبراطورية بمدينة فينا، وذلك في أثناء دراسته لنظام الشرطة عند العرب والفرس والترك، إذ كتب سنة ١٨٦٠ م في ذلك الموضوع بحثا (^١) تعرّض فيه للحسبة، وأتبعه بترجمة تلخيصية لهذا الكتاب (^٢) الذي تخرجه لجنة التأليف والترجمة والنشر في مطبوعاتها هذا العام.
وترجع أهمية الكتاب - بالقياس إلى غيره من الكتب التي أُلِّفَت في الحسبة - لعدّة ميزات: منها أنّ مؤلفه أسبق المؤلفين في موضوع الحسبة من الناحية العملية في الشرق الإسلامي، إذ عاش في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، ولم يتناول ذلك الموضوع قبله إلَّا أفراد قلائل، مثل الماوردي المتوفى سنة ٤٥٠ هـ (١٠٥٨ م) في كتاب "الأحكام السلطانية" (^٣)، والغزالي المتوفى سنة ٥٠٥ هـ (١١١١ م) في كتابه "إحياء علوم الدّين"، وكلاهما تغلُبُ على كتابته الصفة الفقهية البحتة. ومنها أنّ هذا الكتاب صار فيما بعد أساسا لما كتبه ابن الأخُوّة وابن بسّام وغيرهما في الحسبة؛ أما ابن الأخوّة المتوفى سنة ٧٢٩ هـ (١٣٣٨ م)، فإنه ألّف كتابه المسمى "معالم القربة في أحكام الحسبة" في
_________
(^١) نشر هذا البحث تحت عنوان Behrnauer: Memoire sur les Institutions de Police) Turcs. Jouro. As. Se Série، ١٨٦٠، T، XV، PP.les et Persans Arabes chez les، les ٤٨١ - ٥٠، T، XVI، pp. ١٤٩٣).
وقد تُرجم هذا الكتاب في اللغة العربية بعنوان "نبذة في التنظيمات السياسية المختصّة بالضبطية عند العرب والفرس والترك، ونشر بمجلة روضة المدارس (عدد ١٥ شعبان سنة ١٢٨٩ هـ، ١٨٧٢ م)، ثم نشرت هذه الترجمة في كتاب مستقلّ، توجد منه مخطوطة بدار الكتب المصرية، رقم ٢٣٢٥ تاريخ.
(^٢) اعتمد برناور في هذا التلخيص على مخطوطة المكتبة الإمبراطورية بفينا، وهي إحدى المخطوطات التي اعتمد عليها الناشر في مقارنة المتن وضبطه وتحريره (انظر صفحة ن)، وقد نشر برناور تلخيصه بعنوان:
(Nolice particulière sur la Charge de Mouhtasib par le Scheikh Annabrawi. Journ. ١٦). As a serie، ٤٨٦٠٣، ٤، XVI، pp. ٣٤٧٣، T. XVI، ١٨١، pp.
(^٣) يظهر أنه ما كتبه الماوردي في الحسبة جُمِع في كتابه أطلق عليه اسم "الأحكام في الحسبة
الشريفة"، وتوجد منه مخطوطة بالمكتبة الخالدية بالقدس يرجع تاريخها إلى منتصف القرن التاسع الهجري.
انظر أحمد سامح الخالدي: حول كتاب في الحسبة، (مجلة الثقافة، عدد ٨، سنة ١٩٣٩ م).
المقدمة / 7
سبعين بابا؛ وقد دلّت المقارنة على وجود تشابه كبير بينه وبين كتاب الشيزري، مما بيَّنه المستشرق الإنجليزي روبن ليفي (Reuben Levi) في حواشيه للكتاب ابن الأخوّة (^١). وأما "كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة" لابن بسّام (^٢) الذي عاش في مصر في القرن الثامن الهجري (^٣) (الرابع عشر الميلادي)، فيبدو كذلك، أنّ معظمه منقول من كتاب الشيزري، إذ أنه فضلا عن اتفاقه مع كتاب الشيزرى في العنوان، فإن مقدمتهما واحدة، وذلك باعتراف ابن بسّام نفسه، بل يبدو أنّ ابن بسّام أخذ تأليف الشّيزري فنسبه إلى نفسه عنوانا ومتنًا، بعد أن أضاف إليه أبوابًا متعددة، مما جعلها تبلغ أربعة عشر ومائة باب، على حين أن كتاب الشيزري في أربعين بابا فقط.
ولقد حدا هذا التشابه المادّي بالدكتور برناور إلى القول بأن هذه الكتب الثلاثة ليست إلا كتابا واحدًا، تناوله مؤلفون مختلفون بزيارات وتعديلات، بحسب البلاد والأزمنة التي عاشوا فيها (^٤)، أي أن كتاب الشيزري أصل لكتابي ابن الأخوّة وابن بسّام، أو لأحدهما على الأقلّ، وذلك لأسبقيته الزمنية، ولاتفاق الكتابين المتأخّرين معه إلى درجة كبيرة في الموضوعات والأبواب والفصول، وفي عرضها أيضًا. يضاف إلى ذلك أن معظم الكتب التي أُلِّفَت في وصف المجتمع المصرى مثلًا في عصر سلاطين المماليك استمدّت من الشيزري، مباشرة أو من طريق غير مباشر؛ والبينة على تلك الدعوى واضحة من مقارنة ما جاء بكتاب المدخل لابن الحاج، فيما يتعلق بالقصارين والبزازين ومؤدبي الصبيان (^٥)، بما جاء بالمتن هنا في الباب الحادي والعشرين والرابع والعشرين والثامن والثلاثين (^٦)، مما يرجح أن كتاب
_________
(^١) نشر الدكتور روبن ليفي هذا الكتاب مع ترجمة إنجليزية في مجلد واحد، في مجموعة جب
التذكارية. (١٩٣٨، Gibb Memorial New Series، Vol. Xll، Cambridge
(^٢) يوجد من كتاب ابن بسّام نسخة مخطوطة بالخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية بالقاهرة،
(فهرس الخزانة التيمورية، رقم ٢٥ اجتماع).
(^٣) انظر لويس شيخو: كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة. (مجلة المشرق، المجلد ١٠، العدد
٢١، سنة ١٩٠٧) وكذلك كرد على: الحسبة في الإسلام. (مجلة المقتبس، المجلد ٣، سنة ١٩٠٨).
(^٤) Betrnauer: Mémoire sur les Institutions de Police chez les Arabes، les Persans et les Turcs. (Jouir. As. ١٨٦٠، T. XV، p. ٤٦١).
(^٥) ابن الحاج: المدخل، ج ٢، ص ٣١٤ - ٣١٥، ج ٤، ص ١٦ - ١٧، ص ٢٧ - ٣٦.
(^٦) انظر ما يلي ص ٦١ - ٦٣، ٦٧ - ٦٨، ١٠٣ - ١٠٥.
المقدمة / 8
الشيزري هو الأصل على وجه الإطلاق لجميع ما كتب في الحسبة وما يتعلق بها في الدولة الإسلامية عموما.
وثمَّت ميزة أخرى لهذا الكتاب تميّزه في الواقع عن جميع الكتب التي وضعت في الحسبة، وهي الإسهاب في شرح غشوش العقاقير، ووصف فروع الطب المختلفة، ثم الاهتمام بمراقبة على الذمّة وحركات الباطنية. وربما كانت علّة هذا الاهتمام أنّ عصر المؤلف - وهو القرن السادس الهجري - كان عصر إحياء السنة، وقد تخلَّلته المنازعات بين السنة والشيعة في كثير من جهات العالم الإسلامي (^١)، فضلا عن مصر، ونشبت الحروب الصليبية في أثنائه، فأصبح يخشى من ممالأة الذميين في البلاد الإسلامية للصليبيين، سيما وأنّ أرباب الحرف والصنائع كان أكثرهم من أهل الذمة (^٢). على أنّ الذي يدعو إلى الالتفات هنا أنّ أمور الباطنية وحركاتها كانت داخلة في أعمال المحتسب، وتلك مسألة ذات أهمية في البحث في أصل الحسبه ونشأتها في الدولة الإسلامية.
يضاف إلى ذلك ميزة لا تقلّ عما سبق، وهي كثرة النسخ الخطّية الموجودة من هذا الكتاب، إذ يبلغ عددها أربع عشرة نسخة، اجتمع منها في مصر ثمان (^٣)، والنسخ الأخرى محفوظة بمختلف دور الكتب الأجنبية.
أما المؤلف فقد اضطربت جميع مخطوطات الكتاب في ذكر اسمه ولقبه وكنيته ومذهبه، مما جعل بروكلمان (Brockelmann) يورد معظم الصيغ التي وردت في مؤلّفاته المختلفة عند التعريف به، إذ سَمَّاه "جلال الدين أبو النجيب أبو الفضائل عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيزري التبريزي العدوي الشيرازي (^٤) ". على أن بروكلمان أغفل ذكر ألقاب للمؤلف غير هذه، مع ورودها في بعض النسخ الأخرى من كتاب نهاية الرتبة، فهو في إحدى مخطوطات (^٥) دار الكتب المصرية، وفي مخطوطة برلين "زين الدين"، وفي مخطوطة فينا
_________
(^١) ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج ٩، ص ٩٠ - ٩١؛ ج ١٠، ص ١٤٧،
١٩٨؛ ابن الطقطقي: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٨؛ وكذلك (Ency. Isi، Art، Sinf) .
(^٢) انظر (٢٦٩ - ٢٦٧. precis de l'Histoire d'Egypte، ll. pp) .
(^٣) انظر فهرس دار الكتب المصرية (الجزء السادس - صناعات، أرقام ٢٠، ٢١، ٦٢، ٧٢، ٧٣)، وفهرس الخزانة التيمورية، رقم ٢٦ اجتماع، وفهرس دار الآثار العربية، رقم ٣٢٧٣ (في ملف خاص)، وفهرس مكتبة الأزهر (مكتبة أباظة، رقم ٧٢٧٦).
(^٤) Litteratur. Supplement Brockelmann: Geschichte der Arabischeu Banal ١. p. ٨٣٢ .
(^٥) المخطوطة المرموز لها بالحرف ص من هنا. انظر ما يلي.
المقدمة / 9
"تقي الدين"، وفي مخطوطة الخزانة التيمورية "جمال الدين". ويتّضح من هذه الكثرة أنّ معظم هذه الألقاب مدسوس على المؤلف من الناسخين، ولا سيما أن أغلب النسخ مکتوب في عصور متأخرة، وكثير منها في عصر المماليك، كما يبدو واضحًا من تواريخ کتابتها، وهو عصر أسرف الكتّاب في استعمال الألقاب والكنى بحسب أغراضهم، ولم يتّفقوا فيها على طريقة واحدة، بل قصدوا مخالفة من تقدّمهم في ذلك (^١).
واختلفت النسخ أيضًا في اسم المؤلّف، غير أن الأسهم الأكثر استعمالا هو عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله، وكان شافعي المذهب. وكذلك اختلفت النسخ في نسبته، فهو النبراوي (^٢)، والشيرازي (^٣)، والشيزري (^٤)، والتبريزي (^٥)، والعدوي (^٦)؛ ويظهر أن هذا الاضطراب راجع إلى تقاريب رسم هذه الكلمات (^٧)، أو إلى غفلة الناسخين، وأصحها جميعًا نسبة المؤلف إلى شيزد، لورودها في أكثر من نسخة واحدة، ولأنّ المؤلف بدأ كتابته في الموازين والمثاقيل بالإشارة إلى شيزر (^٨) قبل غيرها من مدن الشام والبلاد الأخرى، كما أشار ابن قاضي شهبة إلى المؤلف منسوبا إلى شيزر (^٩).
ومع أن الناشر لم يستطع أن يعثر المؤلف على ترجمة، فمن الواضح أن الشيزري کان معاصرًا للسلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، إذ أهدى إليه كتابه "النهج المسلوك في سياسة الملوك (^١٠) "، ولعله وضع كتابه في الحسبة بناء على طلب صلاح الدين من طريق غير مباشر، لمساعدة الحكومة الأيوبية في مراقبه أو باب الحرف والصنائع، لما كان
_________
(^١) القلقشندي: صبح الأعشي، ج ٥، ص ٤٨٩.
(^٢) مخطوطة فينا المرموز ها هنا هـ.
(^٣) حاجي خليفة:کشف الظنون، ج ٥، ص ٥٠٧؛ ج ٣، ص ٥١٠؛ النويرى: نهاية الأرب، ج ١٢، ص ١٦٢، ١٨٣، ١٩٠، ٢٠٩، ٢١٧.
(^٤) مخطوطتا دار الكتب المصرية س، ص، وكذلك مخطوطة الأزهر ع.
(^٥) مخطوطة المكتبة التيمورية ت؛ وكذلك حاجي خليفة: کشف الظنون، ج ٦، ص ٤٠١.
(^٦) مخطوطة ليبرج؛ وكذلك حاجي خليفة: كشف الظنون، ج ٦، ص ٤٠١.
(^٧) جاء في مجلة المكتبة الصادرة بالقاهرة - عدد أبريل سنة ١٩٤٦، ص ٩٢٢ - أن نسبته "الشهرزوري"، ولم يستطع الناشر أن يعثر على أصل تلك النسبة.
(^٨) انظر ما يلي ص ١٥، حاشية ٨، وکذلك ص ١٧.
(^٩) ابن قاضي شهبة: الكواكب الدرّية في السيرة النورية، ص ٤٧.
(^١٠) الشيزري: كتاب النهج المسلوك في سياسة الملوك، ص ١٣.
المقدمة / 10
معروفًا من ميولهم للدولة الفاطمية (^١). ويتّضح كذلك من تنوّع المؤلفات المنسوبة للشيزري، ومن كثرة إشاراته للشام وبلادها، أنه قضى فترة من حياته بتلك البلاد -إن لم يكن شامي الأصل-، وربما تولّى وظيفة القضاء بإحدى بلادها، إذ اعتبره حاجي خليفة (^٢) قاضيا لطبرية، وأورد فستنفلد (^٣) (Wustenfeld) اسمه على أنه كان طبيبا بحلب حوالي سنة ٥٦٥ هـ (١١٦٩ م). غير أنه ليس لدينا ما يثبت أن الشيزري تولّى الحسبة سوى معلوماته الضافية عن واجباتها، ومعرفته التامة بدخائل الأسواق وأهلها، والسلع وأنواعها في عصره، مما يحتمل بأنه كان يجمع بين وظيفة القضاء ووظيفة الحسبة في طبرية، إذا صحت إشارة حاجي خليفة السالفة الذکر.
وكيفما كان الأمر قد مات الشيزري حوالي سنة ٥٨٩ هـ (١١٩٣ م)، حسبما قرّر بروکلمان (^٤)، وهي السنة التي توفي فيها صلاح الدين الأيوبي؛ ولكن بروكمان لم يبين المراجع التي اعتمد عليها في تحقيق هذا التاريخ، وليس بالمراجع المتداولة هنا ما يساعد على التأكد من وفاة المؤلف في تلك السنة.
وللشيزري عدا كتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة"، وكتاب "المنهج المسلوك في سياسة الملوك" الذي تقدمت الإشارة إليه، مؤلفات كثيرة في موضوعات مختلفة، وهي "الإيضاح في أسرار النكاح" (^٥) " في مجلدين - الأول خاص بالرجال والآخر خاص بالنساء، و"خلاصة الكلام في تأويل الأحلام (^٦) "، و"روضة القلوب ونزهة المحب والمحبوب (^٧) ".
_________
(^١) انظر. Ency. ١ sl. Arts. Sinf، Shadd»
(^٢) حاجي خليفة: كشف الظنون، ج ٣، ص ٥١٠.
(^٣) Wustenfeld:Geschichte der Arabischen Aerzte und Naturforscher، p. ١٠٠.)
(^٤) انظر. (٨٣٢. Brackelmann: ٠ p، Cit. ١، p
(^٥) حاجي خليفة.کشف الظنون، ج ١، ص ٥٠٧.
(^٦) حاجي خليفة:کشف الظنون، ج ٦، ص ١٦٦. وهذا الکتاب مترجم إلى اللغة الفرنسية
تحت عنوان:
(Vallier: L'Oneirocrite Musulman ou Doctrine de l'Interpretatiou des Songes، par Gabdarxachamian fils de nesar، Paris، ١٦٦٤).
(^٧) حاجي خليفة: کشف الظنون، ج ٣، ص ٥١٠، وتوجد نسخ لهذه المؤلفات في المكتبات
المختلفة. انظر ١١. (Brockelmann: Geschichte der Arabischen Litteratur. l. p. ٤٦١; Supplement Band . p ٨٣٢).
المقدمة / 11
أما مخطوطات "نهاية الرتبة في طلب الحسبة"، فقد تبين من قراءتها ومقابلتها أن نسخة دار الكتب المصرية، وهي المرموز لها هنا س (^١)، هي أحسن النسخ من جميع النواحي، فهي كاملة لم يسقط منها فصول أو أبواب شأن النسخة الأخرى، وتاريخ نسخها - وهو ٢٣ صفر سنة ٧١١ هـ (^٢) - يجعلها أقرب إلى عصر المؤلف من تواريخ المخطوطات الأخرى، باستثناء مخطوطة الأزهر إذا سلَّمنا بصحة تاريخها؛ ولكلّ هذه الأسباب اتخذ الناشر مخطوطة دار الكتب المصرية المرموز لها س أصلا للنشر.
وهذه المخطوطة س في مجلّد صغير الحجم، غلافه من الورق المقوّى، وعدد أوراقه ثلاث وخمسون، لونها أبيض ضارب إلى الصفرة، وفي بعضها آثار القدم، مما استلزم لصق ورق شفاف على بعض أجزائها. وأبعاد الورقة ١٧ × ١١ سنتمترا، وفي كلّ صفحة سبعة عشر سطرًا، وفي الصفحة الأولى عنوان الكتاب في حرد (Colophon) نصّه: "كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة تأليف الشيخ الإمام العالم عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيزري، ﵁، آمين"، وفي أسفل هذه الصفحة أبيات من الشعر مكتوبة بخط أقل جودة من خط المتن، ولم يظهر منها إلا صدورها، وليس لها فيما يبدو علاقة بالكتاب أو موضوعه (^٣). وفي الصفحة السابقة الأخيرة أبيات من الشعر لشيخ اسمه أسعد الدين الدميري الحنفي بخط مخالف أيضًا، وليس لها علاقة بالمتن (^٤)، كما توجد بالصفحة
_________
(^١) فهرس الكتب العربية بدار الكتب المصرية، ج ٦، رقم ٢٠ صناعات.
(^٢) انظر ص ١١٩، وبها صورة شمسية الصفحة السابقة الأخيرة من س.
(^٣) انظر صفحة ف، وبها صورة شمسية لصفحة العنوان، حيث يمكن قراءة هذه الأبيات كالآتي:
ولي صاحب من أعظم النا … س في البخل وأبدعهم فيه
دعاني كما يدعو الخليل خليله. . … . . . . . . . . . . . . .
فلما جلسنا الغداء رأيته … . . . . . . . . . . . . .
فيغضب أحيانا ويشتم … . . . . . . . . . . . . .
أمدّ يدي سرًّا لآكل لقمة … . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . … . . . . . . . . . . . . .
وأهوت يميني نحو رجلي … . . . . . . . . . . . . .
(^٤) انظر ص ١١٩، حيث يمكن قراءة هذه الأبيات كالآتي:
يا قوم قد عجبت لما نظرت … شمسان قد غابتا في منزل أنف
في يوم بين شمس الأفق غيبتها … حين والأخرى بدمع سدسه قتف
فهل لثاقب فهم أن يصوّرها … في مؤتلف من كل مختلف
المقدمة / 12
الأخيرة عبارة بخط مخالف كذلك، ونصها "طالع في هذا الكتاب المبارك التلميذ الفقير إلى عفو ربه المعترف .... (^١) " ويلي ذلك لفظ مكرَّر عدّة مرات، وهو لفظ غير مفهوم الناشر على أي حال.
أما ناسخ هذه المخطوطة س، وهو أبو بكر على البهنسي، فيظهر من نسبته أنه مصري من إقليم البهنسا، مما يرجح أن هذه النسخة كُتبت في مصر، ودخلت في حوزة بعض القارئين الذين خطّوا هذه الأبيات والعبارات. والمتن مكتوب بالخط النسخي الجيد بمداد أسود، والأبواب والفصول ورءوس الموضوعات مكتوبة بالمداد الأحمر؛ ويبدأ المتن بالصفحة أ ب، وينتهي عند الورقة ٥٣ أ.
وقد تبين من مقارنة هذه المخطوطة س بالمخطوطات الأخرى أن جميع النسخ التي توفّرت للناشر تتفق في عدد الأبواب وترتيبها، وإن اختلفت معها "س" أحيانًا في ترتيب بعض الفصول، وفي بعض العبارات؛ وقد أشير إلى ذلك كله بالحواشي. ويلاحظ أن الرسم الإملائي في جميع النسخ يهمل الهمزات، ويبدلها بحروف ممدودة مناسبة في أواسط الكلمات، ويحذفها في أواخرها، وأمثال ذلك الرايحة (الرائحة)، وساير (وسائر)، ويومرون (يؤمرون)، واشيا (أشياء)، وليلا (لئلا)؛ وقد أصلح كلُّ ذلك بغير تعليق، إلا إذا كان هناك ما يدعو إليه؛ غير أنه يوجد في معظم النسخ أخطاء جوهرية نتيجة لخطأ الناسخين وإهمالهم نقط الكلمات وعدم الدقة في رسمها، مما أخرج كثيرا منها عن المعنى المقصود.
أما النسخ الأخرى التي اعتمد عليها الناشر في مقابلة النسخة س فهي:
١ - مخطوطة المتحف البريطاني بلندن (^٢) ورمزها هنا "ل"، وهي غير مؤرّخة، وعدد أوراقها ٧٩، وخطها نسخ جيد، سقط منها بعض الفصول، لكنها انفردت ببعض زياداته مكملة للمتن، وقد أضيفت إليه في مواضعها. وبالصفحة الأولى من هذه المخطوطة اسم محمد بن عبد الله الصفدي المحتسب (^٣).
_________
(^١) النقط إشارة إلى اسم لم يستطع الناشر استجلاءه.
(^٢) توجد من هذه المخطوطة صورة شمسية بمكتبة جامعة فؤاد الأول، وهي مأخوذة من (British Museum، Ms، Or ٩٢٢١)
(^٣) لم يتيسر الوقوف على ترجمة لهذا المحتسب، ولعلّه من أسرة خليل بن أيبك الصفدي مؤلف كتابه =
المقدمة / 13
٢ - مخطوطة ليبزج (^١)، ورمزها هنا "م"، وتقع في ٥٤ ورقة، وعنوانها مكتوب بخط مخالف لخط المتن. وقد كتبت هذه النسخة بحلب في ٣ جمادى الآخرة سنة ١٢٢٢ هـ، وهي كاملة النقط، إلَّا أنها كثيرة الأخطاء في رسم الكلمات؛ وقد اعتمد عليها الناشر في إضافة بعض الزيادات.
٣ - مخطوطة فينا (^٢)، ورمزها هنا "هـ"، وهي في ٥٤ ورقة، وغير مؤرخة، وقد انفردت بعض زيادات أثبتت في مواضعها.
٤ - مخطوطة أخرى (^٣) بدار الكتب المصرية، ورمزها هنا "ص"، وتاريخ کتابتها ربيع الأولى سنة ١٠٨٩ م، وتتفق مع النسخة "م" من حيث الزيادة والنقص؛ وقد استخدمت في تصويب بعض الألفاظ، وأثبتت زياداتها أيضا عند الحاجة.
٥ - مخطوطة مكتبة الأزهر (^٤)، ورمزها هنا "ع"، وتقع في خمسين ورقة، وقد سقط منها كثير من الأوراق التي تشمل الأبواب ٣٦، ٣٧، ٣٨، ٣٩ وبعض فصول الباب الأربعين، وفي الصفحة الأخيرة منها توجد العبارة الآتية: "تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه سنة ٦٧٥"، مما يجعل هذه المخطوطة أقدم النسخ إطلاقا، غير أن هذا التاريخ موضع لبعض الشك، لأن العبارة مكتوبة بخط مخالف خط المتن. وتوجد بهذه النسخة زيادات أشير إليها في مواضعها، وبالصفحة الأخيرة منها اسم القاضي محيي الدين بن عتيق (^٥).
_________
= الوافي بالوفيات. على أن الذي يدعو إلى الالتفات هنا أن محتسبا قد استخدم هذا الكتاب لدراسة نواحي عمله، ويظهر أن كثيرا من المحتسبين استعان به في معرفة واجبات منصبهم، والدليل على ذلك تعدد النسخ واختلاف تواريخها وأماكن نسخها.
(^١) انظر (Vollers: Katalog der Islamischen Christlich - JudischeK، Orientalischen، und Samaritanischen Handschriften der universitats --Bibliothek zu Leipzig. ١٩٠٦، N، ٣٦٨﴾ .
وصورتها الشمسية في مكتبة جامعة فؤاد الأول.
(^٢) Flugel.: Dic Arabischen، Persischen und Tyrkischen Handschriften vil (Y) der Caiserlich-Koniglichen Hofbibliothek zu Wien، (Band Ill No. ٨٣١، Wien ١٨٧).
وصورتها الشمسية في مكتبة جامعة فؤاد الأول.
(^٣) انظر فهرست المكتب العربية بدار الكتب المصرية، ج ٦، رقم ٧٢ صناعات.
(^٤) انظر فهرس مكتبة الجامع الأزهر. (المكتبة أباظة: رقم ٧٢٧٦).
(^٥) لم يتيسر للناشر العثور على ترجمة لهذا القاضي في كتب التراجم المختلفة.
المقدمة / 14
أما النسخ الأخرى التي لم يتيسر الحصول عليها، فهي: نسخة مكتبة جوتا (^١) بألمانيا، ونسخة مكتبة برلين (^٢)، ونسخة مكتبة الجزائر (^٣).
على أني استطعت أن أقوم على نشر هذا المتن في كثير من الاطمئنان، وذلك لاتفاق المخطوطات التي توافرت لديّ، بفضل العناية المشكورة التي بذلتها المكتبة العامة لجامعة فؤاد الأولى بالقاهرة للحصول على صور شمسية منها، فضلا عن النسخ الموجودة بدار الكتب المصرية والخزانة التيمورية ومكتبة الجامع الأزهر.
وإني لأشكر أستاذي محمد شفيق غبريال بك، وكيل وزارة المعارف العمومية، لما شملنى به من رعاية وتشجيع منذ بدأت العمل في هذا الكتاب. وأشكر كذلك أستاذي الدكتور محمد مصطفى زيادة، أستاذ تاريخ العصور الوسطى بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، فهو الذي دلّني على هذا الكتاب، وأوصي بجعله جزءا من رسالتي للماجستير، ودأب على معاونتي وإرشادي في تحرير متنه وتعديل حواشيه بالحذف والإضافة، كما أنه هو الذي أوصى لجنة التأليف والترجمة والنشر بطبعه، وأشرف بنفسه على مراجعته وحبکهـ. وليس في استطاعتي أن أنسى هنا فضل الأستاذ أحمد أمين بك، رئيس اللجنة، في الموافقة على نشر هذا الكتاب، كما أني لا استطيع أن أنسى فضل المستشرقين فولتون (Fulton) أمين قسم المخطوطات العربية بالمتحف البريطاني، وبروکلمان (Brockelmann) وأوربن (Aubin) بجامعة برسلاو، لتشجيعهم لي على المضيّ في هذا العمل.
وبعد فإني أرجو أن يكون الكتاب في صورته المخدومة جديرا بانتباه الباحثين في أصول المجتمع الإسلامية في العصور الوسطى عامّة، والمجتمع المصري خاصّة، كما أرجو أن يكون كذلك قمينًا برضى القَوَمة والعاملين على إحياء المنابع من تراث العرب، خليقا بالمكتبة العربية، والقارئ العربي الجديد؛
السيد الباز العريني
القاهرة
٥ رجب سنة ١٣٦٥ هـ.
٥ يونيه سنة ١٩٤٦ م.
_________
(^١) انظر (Pertsch: Die Orentalischen Handschriften der Herzoglichen Bibliothek zu Goth، Die Arabischen Handschriften. Band ١١١. No ١٨٨٨. Gotha ١٨٨١)،
(^٢) انظر (Ahlwardt. W: Die Handschriften Verzeichnisse der Koniglichen Bibliothek zu Berlin. Verzeichnisse der Arabischen Handschriften. Band iv. No ٤٨٠٤. Berlin، ١٨٩٢)،
(^٣) انظر (Fagnan، F. Catalogue Génerale des Manuscrits des Biblothèques Publiques de France. Departments. T. XVIlI. Alger. No. ١٣٧٣. Paris، ١٨٩٣).
المقدمة / 15
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (^١)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَوْحَدُ الْعَالِمُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَأَسْتَعِينُهُ فِيمَا أَلْزَمَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْظَمُ (^٢)، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ [النَّبِيُّ] (^٣) الْأَكْرَمُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ.
وَبَعْدُ، فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ اسْتَنَدَ لِمَنْصِبِ الْحِسْبَةِ، وَقُلِّدَ النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ، وَكَشْفِ أَحْوَالِ السُّوقَةِ، وَأُمُورِ الْمُتَعَيِّشِينَ (^٤)، أَنْ أَجْمَعَ لَهُ مُخْتَصَرًا كَافِيًا، فِي سُلُوكِ مَنْهَجِ الْحِسْبَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، لِيَكُونَ عِمَادًا لِسِيَاسَتِهِ، وَقِوَامًا لِرِيَاسَتِهِ، فَأَجَبْته إلَى مُلْتَمَسِهِ، ذَاهِبًا إلَى الْوَجَازَةِ، لَا إلَى الْإِطَالَةِ، وَضَمَّنْته طُرَفًا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَطَرَّزْته بِحِكَايَاتٍ، وَآثَارٍ (^٥)، وَنَبَّهْت فِيهِ عَلَى غِشِّ [الْمُتَعَيِّشِينَ فِي] (^٦) الْمَبِيعَاتِ، وَتَدْلِيسِ أَرْبَابِ الصِّنَاعَاتِ، وَكَشْفِ سِرِّهِمْ الْمَدْفُونِ، وَهَتْكِ (^٧) سِتْرِهِمْ الْمَصُونِ، رَاجِيًا بِذَلِكَ ثَوَابَ الْمُنْعِمِ لِيَوْمِ الْحِسَابِ.
وَاقْتَصَرْت فِيهِ عَلَى ذِكْرِ الْحِرَفِ الْمَشْهُورَةِ دُونَ غَيْرِهَا، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَجَعَلْته أَرْبَعِينَ بَابًا، يَحْتَذِي الْمُحْتَسِبُ عَلَى مِثَالِهَا، وَيَنْسُجُ عَلَى مِنْوَالِهَا، وَسَمَّيْته نِهَايَةَ الرُّتْبَةِ فِي طَلَبِ الْحِسْبَةِ "، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْت، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
_________
(^١) الإضافة من ع، هـ فقط.
(^٢) في س "العظيم"، وما هذا من ل، م، هـ، وبه يستقيم السجع.
(^٣) الإضافة من هـ فقط.
(^٤) في س "المتمعشين"، وما هنا من ص، م، ل، هـ، ع، وهو الصواب لغويا.
(^٥) في س "وانتثار"، وما هنا من ص، م، ل.
(^٦) الإضافة من ع.
(^٧) في س "وهتكت"، والتصويب من ص، م، ل، م، ع، وبه تستقيم العبارة، على قاعدة أن كلمة "هتك" معطوفة على المصدر السابق.
1 / 3
ترجمة الأبواب
الباب الأول فيما يجب على المحتسب من شروط الحسبة ولزوم مستحباتها
الباب الثاني في النظر في الأسواق (^١) والطرقات
الباب الثالث في معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم
الباب الرابع في معرفة الموازين والمكاييل وعيار الأرطال والمثاقيل
الباب الخامس في الحسبة على الحبوبيين والدقاقين
الباب السادس في الحسبة على الخبازين
الباب السابع في الحسبة على الفرانين
الباب الثامن في الحسبة على صناع الزلابية
الباب التاسع في الحسبة على الجزارين والقصابين
الباب العاشر في الحسبة على الشوائين
الباب الحادي عشر في الحسبة على الرواسين
الباب الثاني عشر الحسبة على قلائي السمك (^٢)
الباب الثالث عشر في الحسبة على الطباخين
الباب الرابع عشر في الحسبة على الهرائسيين
الباب الخامس عشر في الحسبة على النقانقيين
الباب السادس عشر في الحسبة على الحلوانيين
الباب السابع عشر في الحسبة على الصيادلة
الباب الثامن عشر في الحسبة على العطارين
الباب التاسع عشر في الحسبة على الشرابيين
الباب العشرون في الحسبة على السمانين
الباب الحادي والعشرون في الحسبة على البزازين
_________
(^١) في س "سوقات"، وجميع النسخ الأخرى كما هنا وهو الصواب، إذ تجمع "سوق" على "أسواق" فقط. (لسان العرب).
(^٢) في س "السماكين"، وما هنا من ص، م، ع، ل، هـ.
1 / 4
الباب الثاني والعشرون في الحسبة على الدلالين
الباب الثالث والعشرون في الحسبة على الحاكة
الباب الرابع والعشرون في الحسبة على الخياطين
الباب الخامس والعشرون في الحسبة على القطانين
الباب السادس والعشرون في الحسبة على الكتانين
الباب السابع والعشرون في الحسبة على الحريريين
الباب الثامن والعشرون في الحسبة على الصباغين
الباب التاسع والعشرون في الحسبة على الأساكفة
الباب الثلاثون في الحسبة على الصيارف
الباب الحادي والثلاثون في الحسبة على الصاغة
الباب الثاني والثلاثون في الحسبة على النحاسين والحدادين
الباب الثالث والثلاثون في الحسبة على البياطرة
الباب الرابع والثلاثون في الحسبة على نخاسي العبيد والدواب
الباب الخامس والثلاثون في الحسبة على الحمامات وقومتها
الباب السادس والثلاثون في الحسبة على الفصادين والحجامين (^١)
الباب السابع والثلاثون في الحسبة على الأطباء والكحالين والمجبرين والجرائحيين
الباب الثامن والثلاثون في الحسبة على مؤدبي الصبيان
الباب التاسع والثلاثون في الحسبة على أهل الذمة
الباب الأربعون يشتمل على جمل وتفاصيل في أمور الحسبة
_________
(^١) في س "الحجاميين"، وما هنا من ص، م، ل، هـ، ع، وهو الصواب، لأن المفرد حجام وليس حجامي (لسان العرب). أما التعريف بهذا اللفظ وغيره من الاصطلاحات الفنية، فإنه يأتي في مواضعه من المتن.
1 / 5
الْبَابُ الْأَوَّلُ
فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ مِنْ شُرُوطِ الْحِسْبَةِ، وَلُزُومِ مُسْتَحَبَّاتِهَا
لَمَّا كَانَتْ الْحِسْبَةُ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، وَإِصْلَاحًا بَيْنَ النَّاسِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ فَقِيهًا، عَارِفًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، لِيَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ.
فَإِنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ [الشَّرْعُ] (^١)، وَلَا مَدْخَلَ [لِلْعُقُولِ] (^٢) فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ، وَالْمُنْكَرِ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ ﷿، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ وَرُبَّ جَاهِلٍ يَسْتَحْسِنُ بِعَقْلِهِ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ، فَيَرْتَكِبُ الْمَحْظُورَ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ
فَصْلٌ
وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَعْلَمُ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِفِعْلِهِ، فَقَدْ قَالَ [اللَّهُ] (^٣) ﷿ فِي ذَمِّ عُلَمَاءِ بَنْيِ إسْرَائِيلَ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ (^٤)، فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؛ قَالَ: هَؤُلَاءِ (^٥) خُطَبَاءُ أُمَّتِك الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ».
وَقَالَ اللَّهُ ﷿ مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ ﵇ لَمَّا نَهَى قَوْمَهُ عَنْ بَخْسِ الْمَوَازِينِ، وَنَقْصِ الْمَكَايِيلِ: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾، وَلَا يَكُونُ [الْمُحْتَسِبُ] (^٦) كَمَا قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ (^٧):
_________
(^١) الإضافة من ع فقط.
(^٢) أغفل كاتب س هذا اللفظ، وهو وارد في جميع النسخ الأخرى.
(^٣) الإضافة من ل، هـ فقط.
(^٤) كذا في س، وفي ل "بمقاريض من النار".
(^٥) الإضافة من ص، م.
(^٦) الإضافة يقتضيها الأسلوب، وسيجد القارئ إضافات أخرى بدون تعليق عليها، إلا إذا كان للتعليق أهمية خاصة.
(^٧) في س، ص، ع، ل، هـ "أبو همام الشاذلى"، وما هنا من "لسان العرب" في شرح كلمة =
1 / 6
إذَا نُصِبُوا لِلْقَوْلِ قَالُوا فَأَحْسَنُوا … وَلَكِنَّ حُسْنَ الْقَوْلِ خَالَفَهُ الْفِعْلُ
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا، وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا … أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا يَدُرُّ لَهَا ثَعْلُ (^١)
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ، وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ … عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ (^٢)
فَصْلٌ
وَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ، وَفِعْلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبَ مَرْضَاتِهِ، خَالِصُ النِّيَّةِ لَا يَشُوبُهُ فِي طَوِيَّتِهِ رِيَاءٌ، وَلَا مِرَاءٌ، وَيَجْتَنِبُ فِي رِيَاسَتِهِ مُنَافَسَةَ (^٣) الْخَلْقِ، وَمُفَاخَرَةَ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ، لِيَنْشُرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رِدَاءَ الْقَبُولِ وَعِلْمَ التَّوْفِيقِ، وَيَقْذِفَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ مَهَابَةً، وَجَلَالًا، وَمُبَادَرَةً إلَى قَبُولِ قَوْلِهِ بِالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ شَرَّهُمْ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ إلَيْهِمْ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ أَحْسَنَ اللَّهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ».
وَذَكَرُوا أَنَّ أَتَابِكَ طُغْتِكِينَ (^٤)،
_________
= "ثعل". وفي كتاب الأمالى لأبي على القالى، جـ ٢ ص ٤٦ (طبعة دار الكتب المصرية، سنة ١٩٢٦ م)، أن ابن همام هذا كان معاصرا لزياد بن أبيه في أوائل الدولة الأموية.
(^١) في س "بدرها بعل"، وما هنا من (لسان العرب). والأفاويق جمع الجمع للفظ "فيقة"، وهي اللبن الذي يتجمع في الضرع (القاموس المحيط). أما الثعل فهو الزيادة في ضرع الناقة، ويقصد به هنا المبالغة في الارتضاع. (لسان العرب).
(^٢) انفردت "ص" بإضافة الأبيات الآتية إلى هذا البيت:
يا أيها الرجل المعلم غيره … هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام … وذى الضنا كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تلقح بالرشاد عقولنا … أبدا وأنت من الرشاد عديم
فهناك ينفع ما تقول ويقتدى … بالوعد منك وينفع التعليم
(^٣) في س"مناقشة"، وما هنا من النسخ الأخرى.
(^٤) في س والنسخ الأخرى "طغدكين"، والصواب ما هنا. وهو طغتكين بن عبد الله أمين الدولة ظاهر الدين أبو منصور، ملوك السلطان طُطش السلجوقي بدمشق. وقد ترقي طغتكين في خدمة سيده حتَّى صار مربيا لولده دقاق، فلما تولى دقاق سلطنة دمشق بعد وفاة أبيه ططش سنة ٤٨٨ هـ (١٠٩٥ م) صار طغتكين أتابكا له وبيده جميع السلطة. ثم مات دقاق وترك أولادا صغارا، فتمكن طغتكين من إعلان نفسه سلطانا بدمشق، ونال رضى السلطان السلجوقي الأعظم بغداد؛ ووقعت بينه وبين الصليبيين، حروب كثيرة، ومات سنة ٥٢٢ هـ (١١٢٨ م). وتولى الحكم من بعده ابنه الأكبر تاج الملوك بوري، =
1 / 7
سُلْطَانَ دِمَشْقَ، طَلَبَ لَهُ مُحْتَسِبًا، فَذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا بَصَرَ بِهِ قَالَ: " إنِّي وَلَّيْتُك أَمْرَ الْحِسْبَةِ عَلَى النَّاسِ، بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ". قَالَ: " إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقُمْ عَنْ هَذِهِ الطَّرَّاحَةِ (^١)، وَارْفَعْ هَذَا الْمَسْنَدَ، فَإِنَّهُمَا حَرِيرٌ وَاخْلَعْ هَذَا الْخَاتَمَ، فَإِنَّهُ ذَهَبٌ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ: " إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهَا ". قَالَ فَنَهَضَ السُّلْطَانُ عَنْ طَرَّاحَتِهِ، وَأَمَرَ بِرَفْعِ مَسْنَدِهِ، وَخَلَعَ الْخَاتَمَ مِنْ أُصْبُعِهِ، وَقَالَ: " قَدْ ضَمَمْت إلَيْك النَّظَرَ فِي أُمُورِ الشُّرْطَةِ "، فَمَا رَأَى النَّاسُ مُحْتَسِبًا أَهْيَبَ مِنْهُ.
فَصْلٌ
وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مِنْ قَصِّ الشَّارِبِ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَظَافَةِ (^٢) الثِّيَابِ وَتَقْصِيرِهَا، وَالتَّعَطُّرِ بِالْمِسْكِ وَنَحْوِهِ، وَجَمِيعِ سُنَنِ الشَّرْعِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ. هَذَا مَعَ الْقِيَامِ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَزْيَدُ فِي تَوْقِيرِهِ، وَأَنْفَى لِلطَّعْنِ فِي دِينِهِ.
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ (^٣) يَطْلُبُ الْحِسْبَةَ بِمَدِينَةِ غَزْنَةَ (^٤)، فَنَظَرَ السُّلْطَانُ فَرَأَى شَارِبَهُ قَدْ غَطَّى فَاهُ
_________
= وما زالت سلطنة دمشق بيد سلالة طغتكين حتَّى استولى عليها نور الدين محمود بن زنكى سنة ١١٥٣ م، ثم أصبحت من ممتلكات صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام. انظر. Ency، Isl. Arts) (Tughtakin، Damascus
(^١) الطرَّاحة - وجمعها طراريح - مرتبة يفترشها السلطان إذا جلس. (المقريزى: السلوك في معرفة دول الملوك، جـ ١، ص ٤٤٩، حاشية ٣).
(^٢) في س "نضافة"، والتصويب من النسخ الأخرى. ويلاحظ أن النسخ كلها تحتوي على أخطاء نحوية وإملائية، وبعض الألفاظ وارد بصيغة عامية، وسيعني الناشر بتصحيح ذلك من غير تعليق، إلا إذا كان للتعليق أهمية خاصة.
(^٣) المقصود هنا محمود بن سبکتكين الذي أسس الدولة الغزنويه بأفغانستان سنة ٣٨٩ هـ (٩٩٩ م)، وكان قد حصل من الخليفة العباسي القادر بالله على تقليد بالسلطنة، واستولى على الجزء الأكبر من أملاك السامانيين، واتخذ غزنة عاصمة له. ثم انتصر سبكتكين على السلاجقة والبويهين، وضم إليه العراق العجمي، وجعل ابنه مسعودا حاكما على أصفهان والري؛ ومات بغزنة سنة ٤٢١ هـ (١٠٣٠ م). انظر: (Ency. Isi. Art. Mahmud) .
(^٤) غزنة مدينة بأفغانستان، تقع فوق هضبة تشرف على سهول الهند، وتتصل بها عن طريق عدة وديان؛ وقد اتخذها سبکتکين قاعدة لملكه، وتعاقب على حكمها السلاجقة وخوارزمشاه، ثم هدمها المغول سنة ٦١٨ هـ (١٢٢١ م)، فلم تقم لها قائمة من بعد ذلك. انظر: Ency، Isl. Arts Mahmud) (Ghazna.
1 / 8