وأنه أزلي واحد متعلق بجميع المعلومات على التفصيل كلياتها وجزئياتها وذهب جهم بن صفوان وهشام بن الحكم إلى إثبات علوم حادثة للرب تعالى بعدد المعلومات التي تجددت وكلها لا في محل بعد الاتفاق على أنه عالم لم يزل بما سيكون والعلم بما سيكون غير والعلم بالكائن غير.
وذهبت قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات وهي غير معلومة عنده أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال.
وذهب قوم منهم إلى أنه يعلم الكليات دون الجزئيات وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعا على وجه لا يتطرق إلى علمه تعالى نقص وقصور.
أما الرد على الجهمية هو أنا نقول لو أحدث الباري لنفسه علما فإما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في ذاته ولا في محل والحدوث في ذاته يوجب التغيير والحدوث في محل يوجب وصف المحل به والحدوث لا في محل يوجب نفي الاختصاص بالباري تعالى وبمثل هذا نرد على المعتزلة في إثبات إرادات لا في محل.
وبرهان آخر نقول لو قدر معنى من المعاني لا في محل كان قائما بذاته غير محتاج إلى محل يقوم به ففي احتياج العلم إلى محل إما أن يكون معنى يرجع إلى ذات كونه علما فيجب أن يكون كل علم غير محتاج إلى محل وإما أن يكون لأمر زائد على ذات كونه علما فيجب أن يكون فعلا لفاعل فوجب أن يكون فعل الفاعل يوجب نفي الاحتياج في كل عرض وكل معنى وليس الأمر كذلك ثم فعل الفاعل لا يوجب أن ينتسب إليه المفعول بأخص وصفه الذاتي بل إنما ينتسب إليه من حيث كونه فعلا فقط حتى يسمى فاعلا صانعا إما أن يصاف إليه حكم العلمية حتى يصير عالما فمحال وأيضا فإن فعل الفاعل لا يخرج الشيء عن حقيقته فلا يجوز أن يقلب الجوهر عرضا والعرض جوهرا فإن القدرة إنما تتعلق بما يمكن وجوده وهذا من المستحيل فنفي الاحتياج إلى محل في حق الجوهر لا يجوز أن يثبت بالقدرة كما أن إثبات الاحتياج إلى المحل في حق العرض لا يجوز أن يثبت بالقدرة وما ليس يمكن لا يكون مقدورا وما ليس بمقدور يستحيل أن يوجد.
قال هشام فقد قام الدليل على أن الباري سبحانه وتعالى عالم في الأزل بما سيكون من العالم فإذا وجد العالم هل بقي علمه علما بما سيكون أم لا فإن لم يكن علما بما سيكون فإذا قد تجدد له حكم أو علم فلا يخلو أن يحدث ذلك المتجدد في ذاته كما سبق من استحالة كونه محلا للحوادث ولا يجوز أن يحدثه في محل لأن المعنى إذا قام بمحل رجع حكمه إليه فبقي أنه يحدثه لا في محل وإن كان علمه بما سيكون باقيا على تعلقه الأول فكان جهلا ولم يكن علما وأيضا فإنه قد تجدد له حكم بالاتفاق وهو كونه عالما بوجود العالم وحصوله في الوقت الذي حصل وتجدد الحكم يستدعي تجدد الصفة كما أن تحقق الحكم يستدعي تحقق الصفة ألستم تلقيتم كونه ذا علم من كونه عالما فلذلك نتلقى تجدد العلم من تجدد كونه عالما حتى لو قيل كان عالما في الأزل بكون العالم كان محالا وكان العلم جهلا بل لو لم يكن العالم معلوم الكون في الأزل فصار معلوم الكون في الوقت الذي حصل فلم يكن الباري عالما بالكون في الأزل ثم صار عالم الكون في الوقت المحصل فدل ذلك على تجدد العلم.
قال ولا نشك بأن علمنا بأن سيقدم زيد غدا ليس علما بقدومه بل العلم بأن سيقدم غير والعلم بقدومه غير ويجد الإنسان تفرقة ضرورية بين حالتي علميه وهذه التفرقة راجعة إلى تجدد علم في حال القدوم ولم تكن قبل ذلك.
وأما قولكم أن العلم من جملة المعاني وهي لذواتها محتاجة إلى محل وأنها في ذواتها مختصة بمن له أحكامها فصحيح إلا أنا بضرورة التقسيم التزمنا كونه لا في محل إذ لا محل لنفي التفرقة بين الحالتين ولا وجه لتجدد المعنى في الأزلي القديم ولا في الجسم الحادث فبالضرورة قلنا هو معنى لا في محل له ولا ينحا به نحو الجوهر من كل وجه حتى يقال هو قائم بالنفس ومتحيز أو قابل للعرض وإنما يختص حكمه بالفاعل لأن الفاعل هو الذي أوجده علما لنفسه فصار علما به ولأن الباري تعالى لا في محل والعلم لا في محل فاختصاص ما لا محل له بما لا محل له أولى من اختصاص بما له مكان ومحل.
Shafi 73