وعن هذه المطالبة الحاقة يلوح الحق ولا نبوح به لأنا بعد في مدارج أقوال الفريقين فيقول النافي كيف يتصور وجود على الحقيقة التي لا تتبدل ولا تتغير وإنما تتغير أنواعه بعضها إلى بعض فيصير الجوهر عرضا والعرض جوهرا والوجود لا يختلف وذلك تجويز قلب الأجناس فالأول سريان الوجود الواحد في أجناس وأنواع مختلفة والثاني اتحاد أنواع وأجناس مختلفة في وجود واحد.
وقال المثبتون إلزام الحال علينا نقضا غير متوجه فإن العموم والخصوص في الحال كالجنسية والنوعية في الأجناس والأنواع فإن الجنسية في الأجناس ليس جنسا حتى يستدعي كل جنس جنسا ويودي إلى التسلسل وكذلك النوعية في الأنواع ليست نوعا حتى يستدعي كل نوع نوعا فكذلك الحالية للأحوال لا تستدعي حالا فيؤدي إلى التسلسل وليس يلزم على من يقول الوجود عام أن يقول للعام عام وكذلك لو قال العرضية جنس فلا يلزمه أن يقول للجنس جنس وكذلك لو فرق فارق بين حقيقة الجنس والنوع وفصل أحدهما عن الثاني بأخص وصف لم يلزمه أن يثبت اعتبارا عقليا في الجنس هو كالجنس ووجها عقليا هو كالنوع فلا يلزم الحال علينا بوجه لا من حيث العموم والخصوص ولا من حيث الاعتبار والوجه وأنتم معاشر النفاة لا يمكنكم أن تتكلموا بكلمة واحدة إلا وإن تدرجوا فيها عموما وخصوصا ألستم تنفون الحال ولم تعينوا حالا بعينها هي صفة مخصوصة مشار إليها بل أطلقتم القول وعممتم النفي وأقمتم الدليل على جنس شمل أنواعا أ، على نوع عم أشخاصا حتى استمر دليلكم ومن نفى الحال لا يمكنه إثبات التماثل في المتماثلات وإجراء حكم واحد فيها جميعا فلو كانت الأشياء تتمايز بذواتها المعينة بطل التماثل وبطل الاختلاف وذلك خروج عن قضايا العقول.
وأما قولكم الوجود لو كان واحدا متشابها في جميع الموجودات لزم حصول شيء في شيئين أو شيئين في شيء.
فنقول يلزمكم في الاعتبارات والوجوه العقلية ما لزمنا في الوجود والحال فإن الوجه كالحال والحال كالوجه ولا ينكر منكر أن الوجود يعم الجوهر والعرض لا لفظا مجردا بل معنى معقولا ومن قال كل موجود إنما يمايز موجودا آخر بوجوده لم يمكنه أن يجري حكم موجود في موجود آخر حتى أن من أثبت الحدوث لجوهر معين لم يتيسر له إثبات الحدوث لجوهر آخر بذلك الدليل بعينه بل لزمه أن يفهم على كل جوهر دليلا خاصا وعلى كل عرض دليلا خاصا ولا يمكنه أن يقسم تقسيما في المعقولات أصلا لأن التقسيم إنما يتحقق بعد الاشتراك في شيء والاشتراك إنما يتصور بعد الاختصاص بشيء ومن قال هذا جسم مؤلف فقد حكم على جسم معين بالتأليف لم يلزمه جريان هذا الحكم في كل جسم ما لم يقل كل جسم مؤلف ولو اقتصر على هذا أيضا لم يفض إلى العلم بحدوث كل جسم ما لم يقل وكل مؤلف محدث حتى يحصل العلم بأن كل جسم محدث فأخذ الجسمية عامة والتأليف عاما واستدعا التأليف للحدوث عاما حتى لزمه الحكم بحدوث كل جسم مؤلف عاما فمن قال الأشياء تتمايز بذواتها المعينة كيف يمكنه أن يجري حكما في محكوم خاص فألزمتمونا قلب الأجناس وألزمناكم رفع الأجناس ودعوتمونا إلى المحسوس ودعوناكم إلى المعقول وأفحتمونا بإثبات واحد في اثنين واثنين في واحد وأفحمناكم بنفي الواحد في الاثنين والدليل متعارض والدست قائم فمن الحاكم.
قال الحاكم المشرف على نهاية إقدام الفريقين أنتم معاشر النفاة أخطأتم من وجهين من حيث رددتم العموم والخصوص إلى الألفاظ المجردة وحكمتم بأن الموجودات المختلفة تختلف بذواتها ووجودها فكلامكم هذا ينقض بعضه بعضا ويدفع آخره أوله وهذا إنكار لأخص أوصاف العقل أليس هذا الرد حكما عاما على كل عام وخاص بأنه راجع إلى اللفظ المجرد أليست الألفاظ لو رفعت من البين لم ترتفع القضايا العقلية حتى البهائم التي لا نطق لها ولا عقل لم تعدم هذه الهداية فإنها تعلم بالفطرة ما ينفعها من العشب فتأكل ثم إذا رأت عشبا آخر يماثل ذلك الأول ما اعتراها ريب في أنه مأكول كالأول فلولا أنها تخيلت من الثاني عين حكم الأول وهو كونه مأكولا وإلا لما أكلت وتعرف جنسها فتألف به وتعرف ضدها فتهرب منه ولقد صدق المثبتون عليكم أنكم حسمتم على أنفسكم باب الحد وشموله للمحدودات وباب النظر وتضمنه للعلم.
Shafi 48