المعرفة والحياة
إذا كانت فلسفة نيتشه تعترف بنوع من المطلق، فهذا المطلق هو الحياة. وفكرة الحياة عند نيتشه، هي فكرة بلغت حدا بعيدا من العمومية والاتساع، يكاد يعجز معه المرء عن فهم المقصود منها في كثير من الأحيان. ويبدو أن نيتشه ذاته لم يحرص على شرح معناها، أو لم تكن لها في ذهنه صورة محددة واضحة المعالم. وإذا كان أقرب المعاني إلى فهمها هو المعنى البيولوجي، فإن تفكير نيتشه كثيرا ما يبتعد عن هذا المعنى، ويتخذ اتجاها صوفيا لا صلة له بالمعنى العلمي للحياة على الإطلاق. وعلى أية حال، فالفكرة لم يكن يقصد منها إلا أن تكون نواة تتبلور حولها كل خيوط الثورة العاتية التي واجه بها نيتشه عصره. فهو يلخص نقائص العصر - في مختلف المجالات - بكلمة واحدة، هي إنكار الحياة، ويلخص هدف حملته النقدية الهائلة بكلمة واحدة، هي الإقبال على الحياة. أما المقصود بالحياة ذاتها فيفهم ضمنا من خلال هذا النقد خيرا مما يفهم من أي تعريف أو توضيح.
فالحياة عند نيتشه تتحكم في خلق كل القيم؛ فهي أصل القيم العقلية والأخلاقية؛ أعني أنها هي المبدأ الكامن وراء كل معرفة وكل سلوك. ولن نعرض في هذا القسم إلا لتعبير نيتشه عن الحياة من حيث هي أصل القيم العقلية. أما القيم الأخلاقية فموضع بحثها هو القسم التالي.
فكرة الحقيقة
من الأفكار التي لم يحاول فيلسوف قبل نيتشه أن يناقشها، أو يتساءل عن قيمتها، وعن فائدة تمسك الناس بها، فكرة الحقيقة؛ ذلك لأن الحقيقة كانت تعد دائما بمنأى عن كل شك، وعن كل سؤال؛ إنها الهدف الأعلى الذي تتجه إلى تحقيقه المعرفة الإنسانية، وقد نخطئ نحن في اتخاذ الوسائل التي تقربنا إلى ذلك الهدف، ولكن الهدف ذاته يظل منزها رفيعا. وهكذا ارتفعت الحقيقة فوق عالم التغير والصيرورة الذي نعيش فيه، واستقلت عن شروط الحياة المتحكمة فينا، واصطبغت بصبغة أزلية، فكونت عالما قائما بذاته، هو عالم المطلق. وفي هذا العالم تستقر كل الأزليات الأخرى التي عرفها العقل البشري، من مثل أفلاطونية وأشياء في ذاتها، ومبادئ مطلقة، وعلل أولى.
ولكن نيتشه لا يقبل أن يترك فكرة توصف بالأزلية دون أن يتساءل عن علة هذا الوصف، ومدى صحته. وهو لا يكتفي بهذا التساؤل بالنسبة إلى الأزليات الأخرى التي تستقر في عالم الحقيقة، بل يمتد في بحثه إلى المقر الأول لها جميعا؛ ذلك المقر الذي لم يحاول أحد من قبل أن يقترب منه، ولهذا لم يفلح أحد في نقد ما هو مستمد منه نقدا حاسما. أما نيتشه، الذي لا يقف تساؤله عند حد، فإنه يبدأ بأن يهاجم الأصل، مهما كانت قداسته، فتكون مهاجمة الفروع بعد ذلك أمرا هينا.
فهل كان الفلاسفة على صواب، حين أجمعوا على فصل الحقيقة عن الحياة؟ إن الحياة هي الأصل الذي يتحكم في كل فعل أو فكر إنساني، فلا بد أنها تتحكم في الحقيقة بدورها. وفي هذه الحالة؛ أعني حين نخضع الحقيقة لأصل سابق يتحكم فيها، هو الحياة، يكون علينا أن نغير نظرتنا إلى الحقيقة تغييرا شاملا؛ فالشائع أن الحقيقة ثابتة؛ غير أن هذا الثبات إنما يرجع إلى فصلها عن الحياة. فإذا ما أعيد ارتباطها بها، أصبحت متقلبة مع الحياة في تغيرها وصيرورتها. والشائع أن الحقيقة مطلقة؛ أعني أن العوامل التي تتحكم فيها لا يمكن أن تكون عوامل حيوية أو نفعية، بل تقصد الحقيقة لذاتها دائما؛ غير أن ربط الحقيقة بالحياة يؤدي إلى نتيجة تخالف ذلك كل المخالفة؛ فنيتشه يضع أمام أنظارنا دائما هذا الاحتمال، وهو أن تكون الحقيقة ناشئة عن النفع الحيوي ، وهو لا يتصور أن تقوم الحقيقة من أجل الحقيقة ذاتها، فتلك في رأيه ألفاظ فارغة لا تنطوي على معنى أو محتوى. ومن المحال أن تفلت الحقيقة من تأثير الحياة، الذي يمتد إلى كل ما له بالبشر صلة. ولكن، عم تبحث الحياة؟ إنها لا تبحث إلا عن نفعها الخاص؛ أعني عن تلك الشروط التي تعين على استمرارها ونموها المطرد. وعلى ذلك، فالأصل في الحقيقة نفع الحياة، وتقديم الشروط اللازمة لنموها.
1
ولكن هذا معناه أن الحقيقة لن تكون خالصة، ولن يكون هدفها كامنا فيها هي ذاتها، بل في شيء آخر سابق عليها، وأقل منها «نقاء» و«تجريدا». إن الغرض من كل حقائقنا هو استمرار حياتنا ونموها، فهي إذن ليست حقائق أزلية، خالصة، بل هي وسائل لغاية لا تربطها بالعالم العقلي الخالص صلة؛ أعني الغاية الحيوية.
وهنا يسارع نيتشه إلى استخلاص النتيجة الضرورية لهذا التسلسل في التفكير، فيؤكد أن أصل الحقيقة هو البطلان، ما دامت الحقائق تدوم بقدر ما تنفع الحياة. «إن بطلان الحكم ليس في رأينا أمرا يعترض به على الحكم، وهنا يصل وقع لغتنا الجديدة على الآذان إلى أقصى درجات الغرابة. وإنما المشكلة هي: إلى أي حد يكون الحكم عاملا على تقدم الحياة وحفظها، وعلى حفظ النوع، وربما على إنجاب النوع؛ وإنا لنميل أساسا إلى أن نؤكد أن أكثر الأحكام بطلانا (وإليها تنتمي الأحكام التركيبية الأولية) هي أكثرها ضرورة لنا، وأن الإنسان ما كان يمكنه أن يعيش بدون أن يدع الأوهام المنطقية تسود، وبدون أن يقيس الواقع بمقياس ذلك العالم الخيالي البحت، عالم المطلق، والمماثل لذاته، وبدون تزييف كامل للعالم عن طريق العدد. وإنا لنؤكد أن الانصراف عن الأحكام الباطلة معناه الانصراف عن الحياة وإنكارها ...»
Shafi da ba'a sani ba