أول ما نلاحظه أن إضفاء معنى إنساني على الكون هو في واقع الأمر سلاح ذو حدين، فهو يلحق بالإنسان من الضرر بقدر ما يجلب له من النفع؛ ذلك لأنه إذا مرت الأحداث كما يشتهي الإنسان، فسوف يعزو ذلك إلى ما هنالك من تجاوب بين المسار العام للكون وبين رغباته، نظرا إلى أن القوة الموجهة للكون هي في نفس الوقت قوة خيرة. أما إذا حدث ما يسيء إليه أو يجلب له الأذى، فسوف يعجز عن التفسير، ويقف حائرا وقد أحس بالجزع أمام ذلك العالم الذي لم يعد يفهمه. فكيف يفسر أفلاطون - في حدود قوله بالهوية بين الخير وبين القوة الخالقة للعالم - كارثة طبيعية، كزلزال يروح الألوف ضحيته؟ لا شك أن أي تفسير لهذه الظاهرة من خلال القول بخيرية العالم سيكون متعسفا، مهما كانت الوسائل التي تتبع في التوفيق بين هذين الجانبين المتعارضين. وهكذا لا يستطيع المرء أن يفهم كل ظاهرة لا توافق غاياته طالما كان يفهم العالم فهما غائيا. أما إذا لم يكن قد طبع ذلك المعنى الإنساني على الكون، فعندئذ سيكون الأمر هينا؛ إذ إن تفسير مثل هذه الظاهرة هو أنه ليس لها تفسير؛ أي إنها تحدث كما تحدث فحسب، دون أن يكون قد قصد منها موافقة غايات الإنسان أو معاندتها.
وفضلا عن ذلك، فإن من شأن تلك النظرة التي تدعي أن للكون في الأصل معنى إنسانيا، وأننا «نهتدي» إلى ذلك المعنى فحسب، أن تقعد الإنسان عن العمل المتواصل من أجل إخضاع ذلك الكون لحاجاته؛ ذلك لأن الطريق الذي يسير فيه الكون يتفق أصلا وغايات الإنسان، فما عليه إلا أن ينتظر، وسيحدث كل شيء كما ينبغي. وتلك هي فلسفة التواكل التي ترجع في نهاية الأمر إلى هذا الاعتقاد الخرافي بأن مسار الحوادث يستهدف معنى إنسانيا، وأن غايات البشر هي القطب الذي تنجذب إليه كل الظواهر. أما إذا أدركنا أن الكون قد خلا من كل معنى إنساني، فعندئذ يتسع أمامنا المجال لكي نحاول نحن إضفاء ذلك المعنى عليه، لا بطريقة تخيلية تصورية كما فعلها الأقدمون، ولكن بالعمل الدائب الذي يرمي إلى إخضاع الكون وتسخيره لغايات البشر.
وهنا نعود مرة أخرى إلى ما قلناه في مستهل هذا الفصل، من أن الفارق الأساسي بين العقلية الخرافية والعقلية العلمية هو اعتقاد الأولى بأن الكون يسير بالفعل وفق غايات الإنسان. وما نهضت الروح العلمية إلا منذ اللحظة التي نفض فيها العقل عن نفسه هذا الاعتقاد الواهم، ووضع فيها الإنسان لنفسه شعارا جديدا هو: إذ لم يكن العالم يسير وفقا لغاياتي، فلأجعله يسير وفقا لها، بالعمل والجهد، لا بالأسطورة والخيال! في هذه اللحظة وحدها نستطيع أن نقول إن العلم الحقيقي قد بدأ؛ فما العلم إلا محاولة منظمة لتسخير الكون لخدمة الإنسان، وللتحكم في تلك الظواهر التي كانت تبدو من قبل مستقلة تماما عن سيطرته.
وإذا كان التقدم العلمي الحديث قد عبر ضمنيا عن هذه النظرة الجديدة إلى العالم، فإن الفلسفة قد تأخرت في المجاهرة بها، وفي التعبير الواعي عنها. فإذا أدركنا مدى خطورة هذه النظرة الجديدة إلى القيم، وكيف أنها هي التي تميز العقلية المتحضرة من العقلية البدائية بوجه عام، فعندئذ يتضح لنا إلى أي حد كان التنبيه إليها عملا جليل الشأن، وإلى أي مدى يعد ذلك انقلابا حقيقيا في التفكير الإنساني. ونستطيع أن نقول إن أول محاولة فلسفية جدية في هذا الشأن كانت هي محاولة نيتشه؛ فالفضل الأكبر لنيتشه - في رأينا - ليس في السبق إلى هذا المبحث الفلسفي الجديد، مبحث القيم (ولو أن هذا وحده فضل لا يمكن الحط من قيمته)، بقدر ما هو في التصريح بما كانت تنطوي عليه النهضة العلمية الحديثة ضمنا، وفي التعبير عن الفلسفة الكامنة في كل تقدم أحرزه العقل البشري؛ أعني في تأكيده خلو العالم من القيم، التي لا يخلقها إلا الإنسان ذاته، ولا تضفيها على العالم إلا مطالبه وحاجاته.
بمعزل عن التفاؤل والتشاؤم
ومن الناس من يفهم فكرة خلو العالم من كل معنى إنساني فهما متحيزا، فيظن أن معناها هو أن العالم يسير في اتجاه مضاد لغايات الإنسان. أولئك هم المتشائمون، الذين يتوهمون أن العالم إما أن يكون له معنى إنساني، وإما أن يكون له معنى غير إنساني، فينتهي بهم الأمر، حين لا يجدون المعنى الأول، إلى القول بأن في الكون قوة مضادة للإنسان، تعمل على إلحاق الضرر به، ويصورون الحياة في صورة قاتمة، ما دامت الوجهة التي يتخذها العالم مخالفة لتلك التي يريده الإنسان أن يسير فيها. ومن هنا كانت دعوتهم تتجه إلى إنكار الحياة والعزوف عنها، وأقصى غاياتهم أن يحلوا روابطهم بهذا العالم بقدر ما في مكنتهم. ودعاة التشاؤم هؤلاء ليسوا أقل وهما من إخوانهم دعاة التفاؤل، فهم يعتقدون بأنه كان يجب أن يكون للعالم في الأصل معنى إنساني، ولكنه غير موجود، وإنما الذي يوجد معنى يمكن أن يفهم بدوره من خلال مقولات الإنسان؛ أعني أن العالم يتركز هنا أيضا حول الإنسان، وإن يكن ذلك على نحو عكسي لا طردي. والموقف الصحيح، الذي يدعو إليه نيتشه في هذا الصدد، هو أن ينظر إلى القيم على أنها بمعزل تماما عن طبيعة الأشياء؛ فمكانها الحقيقي في ذهن الإنسان الذي خلقها. أما العالم، فليس موافقا أو مخالفا لها، وإنما هو مستقل عنها فحسب. وهكذا نرى القيم لا تؤثر في الواقع الطبيعي أي تأثير، ولا الواقع يؤثر في القيم. وبعبارة أخرى، فلن يزيده الشيء صفة جديدة إذا اكتسب قيمة، وستظل جميع صفاته العقلية في صلة ببقية الأشياء وبالنظام العام للكون كما هي دون أدنى تغيير، وكل تغير يحدث في هذه الحالة إنما يطرأ على الذهن؛ أعني على «المعنى» الذي يضفيه العقل البشري على الشيء. والحق أن كنت
Kant
قد عبر عن هذه الفكرة ذاتها تعبيرا ضمنيا في نقده المشهور للحجة الأنتولوجية في إثبات وجود الله؛ إذ قال إن قرشا في الخيال لا يختلف عن قرش في الواقع على الإطلاق؛ أعني أن واقعية الشيء لا تزيد من قيمته. والنتيجة المباشرة لفكرة كنت هذه هي أن القيمة مستقلة تماما عن التحقق الواقعي. وليست مرتبطة بالبناء الفعلي للعالم، ما دام تحقق القيمة في الوجود لا يرفع مرتبتها فوق ما لم يتحقق بالفعل.
الإنسان خالق القيم
فمن أين أتت القيم إذن؟ إن خالق القيم هو الإنسان. وليس لها خارج الفاعلية الإنسانية أي كيان واقعي؛ فالإنسان هو الذي أضفى على الكون كل ما فيه من معنى، ويظن مع ذلك أنه قد «اهتدى» إلى ذلك المعنى فحسب: «الحق أن الناس قد أعطوا أنفسهم كل خيرهم وشرهم. والحق أنهم لم يتلقوه، ولم يجدوه، ولم يهبط إليهم من السماء!»
Shafi da ba'a sani ba