وسوف تتاح لنا في خلال هذا الكتاب فرص مختلفة لإبداء أوجه الشبه بين آراء نيتشه وبين الآراء الوضعية الحديثة في مشاكل عديدة، وخاصة في أصل القيم والنسبية الأخلاقية، ولكن الوضعية السائدة في عصر نيتشه لم تكن لترضيه على الإطلاق؛ فمبدأ «الغيرية» الذي وضعه «كونت» قد تعرض لنقد شديد من جانب نيتشه. ويمكن أن يقال إن تلك الوضعية كانت تحاول أن تعطي صورة علمية للمبادئ الأخلاقية العامة الشائعة، التي كرس نيتشه حياته للحملة عليها. وفضلا عن ذلك، فإن تفكير نيتشه لا يمكن أن تستوعبه كلمة الوضعية؛ إذ إن النزعة الصوفية الواضحة فيه تتجاوز نطاق الوضعية تماما. وإن الجانب الشعري والفني، الذي سيطر على أروع كتب نيتشه؛ أعني كتاب زرادشت، ليبعد تماما عن كل ما هو وضعي؛ فأقصى ما يمكننا أن نقوله هو أن نيتشه قد اعترف للوضعية بالفضل، ولكن في مجالها الخاص الذي تعداه هو في أهم أفكاره ومؤلفاته.
البرجماتية
رأى بعض الباحثين في فلسفة نيتشه استباقا للبرجماتية؛ إذ هما يشتركان في الحملة على العقل الخالص ورده إلى المقتضيات الحيوية للإنسان، ويعبر «مارسيل بول»
M. Boll
عن هذا التقارب فيقول: «في نهاية القرن الماضي، نادى فلاسفة معينون من القارتين بأن العقل خاضع لحاجاتنا النفعية، وبأن عليه أن يخلي مكانه لمشاعرنا الباطنة، ولمثلنا الأخلاقية، أو لعقائدنا الدينية، ولقد كانت ألمانيا - وهي لم تزل عندئذ واقعة تحت تأثير شلنج وشوبنهور - هي البادئة بهذه الحركة، وذلك بظهور فلسفة نيتشه، ثم ظهر بعده مذهب البرجماتية في أمريكا عند بيرس أولا، وعند وليم جيمس من بعده.»
4
والواقع أن الوجه السلبي للبرجماتية؛ وأعني به نقد الأسس الميتافيزيقية القديمة، يكاد في كثير من الأحيان يكون ترديدا مباشرا لآراء سبق ظهورها عند نيتشه؛ فالاتجاه نحو العينية، ونقد فكرة الجوهر القديمة، وإخضاع القيم للوجود، كل هذا يمثل عاملا مشتركا بين الطرفين. بل إن التشابه ليمتد أيضا إلى الوجه الإيجابي في تفكير البرجماتية؛ فنظرية الحقيقة عند نيتشه تحمل شبها واضحا للنظرية البرجماتية. وقد لخص «جان فال» هذه النظرية بقوله: «إن المرء يحكم على الشيء بأنه حقيقي، ويكون في مسلكه سائرا في الاتجاه الصحيح، حينما يقول أو يفعل - بإزاء موقف خارجي ما - شيئا لا يتعارض مع ذلك الموقف، ويكون بينه وبين الموقف صلة معينة. فغياب البطلان والزيف، ووجود علاقة معينة مع الشيء، قوام الحقيقة.»
5
فالحقائق من خلق الإنسان، ومقياس صحة الأفكار هو نفعها أو صلاحيتها للعمل، ومن هنا تغيرت الحقائق بتغير المواقف وما يصلح لكل منها، واختفت الحقيقة الثابتة. فإذا أدركنا مدى تحمس نيتشه في الدفاع عن الحقيقة النسبية، وتأكيده أن الحقيقة هي ما ينفع الحياة، بل هي خطأ وبطلان ثبت نفعه، وبأن الحياة هي أساس الحقيقة ومصدرها الوحيد، فعندئذ يتبين لنا مدى التشابه بين آراء نيتشه وبين المذهب الذي عرف من بعده باسم البرجماتية.
ومع ذلك، فقد تطرف كثير من فلاسفة البرجماتية في النزعة اللاعقلية، إلى حد مهاجمة العلم واتخاذ منهج غير علمي تماما. وفي هذا ما يباعد بينهم وبين نيتشه، الذي ظل على احترامه للعلم - بالصورة التي كانت سائدة في عصره - إلى النهاية. بل لقد كان نقده للنزعة العقلية التجريدية راجعا، في رأيه، إلى تمسكه بالروح العلمية الصحيحة، التي تأبى أن تجعل من المجردات الخالصة أساسا لفهم الواقع الحي المتغير، ولنضف إلى ذلك ما لاحظناه عن بعض المذاهب الأخرى، فالبرجماتية بدورها لا تستنفد كل الميادين التي تناولها تفكير نيتشه، الذي كان أوسع من أن ينحصر في الحدود التي اقتصر عليها هذا المذهب.
Shafi da ba'a sani ba