نيتشه الفيلسوف
هل كان نيتشه فيلسوفا بالمعنى المألوف لهذه الكلمة؟ إن الفلاسفة عادة يأتون بمذاهب شاملة، تقدم حلولا متحدة الهدف لمختلف المشاكل التي تواجه العقل البشري. فإذا كنا نعني بالفيلسوف أنه صاحب مذهب، فعندئذ سوف نلقى معارضة شديدة من جانب نيتشه، ومن معظم من كتبوا عنه، في أن يعد فيلسوفا بهذا المعنى؛ ذلك لأن المذهب في هذه الحالة إنما هو تعبير عن نظرة جامدة متحجرة إلى العالم، وفهم ثابت لا يريد أن يتحرك عن الموضع الذي وقف فيه؛ لأن في الحركة عناء للذهن، وفيها مسئولية وخطورة لا تقوى عليها تلك العقول التي تنشد الراحة والهدوء. وهكذا وجه نيتشه حملته إلى أصحاب المذاهب، وكان أخشى ما يخشاه أن يعد واحدا منهم، وسايره في ذلك من كتبوا عنه، فتفنن كل منهم في كشف مواقف متناقضة له، وأكدوا أنهم إنما يعلون بذلك من قدره، وينزهونه عن كل تحجر وجمود.
ومن الرائع حقا أن يدعو مفكر إلى الابتعاد عن الجمود الفكري، وأن يترك المجال متسعا دائما لمزيد من التطور والتجديد الذي يساير الحياة في نموها الدائم. ولكن ما صفة هذه الحياة النامية عند نيتشه؟ لقد بينا أنها كانت فكرية صرف، خلت من التجارب الواقعية المثيرة، وإنما المثير فيها أفكار فحسب. وعلى ذلك. فإذا قلنا إن فلسفة نيتشه تخضع لحياته، فمعنى هذا القول في حقيقة الأمر تحصيل حاصل؛ إذ لن تخضع هذه الفلسفة في نهاية الأمر إلا لمنطقها الداخلي فحسب، ما دام عالم الأفكار لديه متماسكا، لا ينفذ إليه من الخارج ما يؤثر فيه.
ولنتساءل بعد ذلك عن المعنى الحقيقي لهذه «الفلسفة النامية مع الحياة»، أيعني هذا النمو والحركة تناقضها بالضرورة؟ إن الباحثين عادة يجدون في هذا الخضوع للحياة مبررا لتناقض أفكار الفيلسوف. ولكن مهما تقلبت هذه الأفكار وتنوعت، ألن تظل دائما «خاضعة للحياة»؟ ألن تكون هذه صفة مشتركة لكل هذه الأفكار، وهلا تكون هذه هي البادرة الأولى التي يمكننا منها أن نصل إلى خيط واحد ينتظم تفكير الفيلسوف في كل تطوراته؟
الحق إننا لا نستطيع أن نستسيغ تلك الصورة التي يصور بها نيتشه، والتي يتمثل فيها مفكرا لا يخضع لمنطق أو نظام، ويظل تفكيره يلهو بين المتناقضات دون مبالاة، ثم يقال لنا بعد ذلك إن نيتشه في هذه الصورة يسمو على الفلاسفة «التجريديين»! فنحن لا نكاد نتصور أن يتصف مفكر عميق - ولا جدال في أن نيتشه كان عميقا - بمثل هذه الصفات التي يأبى أي إنسان عاقل أن تنسب إليه . وإن أبسط فهم للنفس البشرية ليؤدي بنا إلى القول بضرورة وجود وحدة للشخصية الإنسانية، مهما تباينت الأحوال التي تمر بها. وليس معنى ذلك أن لهذه الشخصية طابعا جامدا؛ فالتطور والنمو حقيقة لا شك فيها، ولكنه لا يمكن أن يتم في فراغ مطلق، وأن يشكل الشخصية تشكيلا كاملا بحيث تتباين طبيعتها تماما تبعا لتقلبات هذا التطور. وإن تحليل التشبيه الذي يقدمه أولئك المفكرون؛ أعني تشبيه النمو العضوي، ليثبت ما نريد نحن أن نبرهن عليه؛ ذلك لأن النمو العضوي ليس إضافة من الخارج. وليس زيادة تطرأ على أصل معين دون أن تؤثر فيه أو تتأثر به، بل إن النمو العضوي هو قبل كل شيء نمو من الداخل، وكل زيادة فيه إنما تتم عن طريق «الأصل» الباطن، الذي يؤثر في كل ما يضاف إليه. وإن مجرد وجود نمو، أو تطور، ليستلزم وجود نوع من الثبات، وإلا لكان كثرة وتغايرا، لا نموا وتطورا. وما كان من طبيعة العقل البشري أن يتخذ مواقف متضادة على النحو الذي ينسبونه إلى نيتشه؛ إذ إن الوحدة هي أبرز صفات الشخصية الإنسانية، والاتساق في المسلك هو أول ما يميزها عن الحيوان، فلا بد إذن من نوع من الثبات حتى يسمو الإنسان على المرتبة الحيوانية، ولكن هذا الثبات لا ينبغي أن يصل إلى حد التحجر، وإلا وقع فيما هو شر من الحيوانية؛ أعني في الجمادية!
وعلى ذلك. فإذا كان المقصود بكلمة «المذهب» هو الجمود المطلق، والتوقف التام عن النمو والحياة، فلا شك أن نيتشه لم يكن من أصحاب المذاهب، ولا جدال عندي في أن هذا هو المعنى الذي كان في ذهن نيتشه حين نقد المذهبية وأصحابها من الفلاسفة، ولكن إذا فهمت كلمة المذهب بمعناها الواسع، من حيث إنها هي اللون الغالب على الشخصية، وهي مظهر وحدتها واتساقها مع ذاتها، فلا شك في أن نيتشه - في الفترة العاقلة من حياته على الأقل - كان ذا مذهب، شأنه شأن أي عاقل آخر! ومهما قرأت له من عبارات تدعوك إلى نبذ النظرة الموحدة إلى العالم، وإلى تغيير المنظور الذي تتأمل من خلاله كل مشكلة، فلتعلم أن هذه الدعوة إلى التجديد وتغيير المنظور هي ذاتها مذهبه، وهي الوحدة الجامعة بين أطراف شخصيته.
ولكن، أيصلح مذهب من المذاهب المعروفة في تاريخ الفلسفة للتعبير عن هذا العنصر المشترك بين مختلف اتجاهات نيتشه في تفكيره؟ علينا إذا شئنا أن نجيب عن هذا السؤال، أن نقارن بين تفكير نيتشه وبين مختلف المذاهب التي قد تقترب منه، لنرى مدى صلاحية كل منها للتعبير عن أطراف هذا التفكير.
الواقعية
الواقعية، بوجه عام، مذهب يرى أن الوجود مستقل عن المعرفة الحالية التي تعرفه بها الذوات المدركة؛ فهو لا يستمد من هذا الإدراك، ولا يعبر عنه تعبيرا شاملا بالفكر؛ لأن فيه شيئا يتجاوز الفكر. فإذا استخلصت من هذا الرأي الذي ينطبق أصلا على مجال المعرفة، نتائجه الأخلاقية، فلا شك أن الأخلاق الواقعية ستكون متعلقة بهذه الأرض، وسوف تتخلى عن كل تطرف مثالي يربط الأخلاق بعالم آخر، بالمعنى اللاهوتي أو المثالي لهذه الكلمة. وتلك هي أبرز صفات الأخلاق عند نيتشه. ولكن إذا كانت الواقعية تقترب من تفكير نيتشه في ميدان الأخلاق، فقد كانت بعيدة عنه كل البعد في ميدان المعرفة. فهو ينقد الواقعيين لاعتقادهم بأن العالم كما يظهر لنا هو العالم الحقيقي، وأن العالم في ذاته لا يختلف عما نراه.
1
Shafi da ba'a sani ba