Newton: Gabatarwa Ta Gajeruwa
نيوتن: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
شكر وتقدير
تمهيد
1 - شخصية قومية
2 - التعامل مع الأمور فلسفيا
3 - السنوات الرائعة
4 - الجماهير المولعة بالنقد
5 - فيلسوف هرمسي حقيقي
6 - أحد القلة المختارة من الله
7 - الكتاب المقدس
8 - في المدينة
Shafi da ba'a sani ba
9 - رب الجميع وسيدهم
10 - القناطير وحيوانات أخرى
قراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد
1 - شخصية قومية
2 - التعامل مع الأمور فلسفيا
3 - السنوات الرائعة
4 - الجماهير المولعة بالنقد
5 - فيلسوف هرمسي حقيقي
Shafi da ba'a sani ba
6 - أحد القلة المختارة من الله
7 - الكتاب المقدس
8 - في المدينة
9 - رب الجميع وسيدهم
10 - القناطير وحيوانات أخرى
قراءات إضافية
نيوتن
نيوتن
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
Shafi da ba'a sani ba
روب أيلف
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر إلى مارتن بيجلز، وجون يونج، ولوتشيانا أوفلاهرتي، ولاري ستيوارت، وسارة دراي للتعليق على النسخ الأولية من هذا الكتاب، وأيضا لاقتراح إضفاء تحسينات.
تمهيد
في بريطانيا إبان العصر الفيكتوري، كان كل طالب يعرف أن السير إسحاق نيوتن نابغة رياضية وعلمية منقطعة النظير، وكان باستطاعة غالبيتهم أن يقدم بيانا مبسطا لأهم اكتشافاته. ففي علم البصريات، اكتشف نيوتن أن الضوء الأبيض لم يكن عنصرا أساسيا في الطبيعة، بل يتألف من أشعة أولية ممتزجة معا، وكانت الأجسام تبدو بلون معين لأنها تميل لعكس أو امتصاص ألوان بعينها دون غيرها. وفي مجال الرياضيات، اكتشف نيوتن نظرية ذات الحدين لفك مجموع متغيرين مرفوع لأي قوة، وكذلك القوانين الأساسية لحساب التفاضل والتكامل. فتعامل ذلك مع معدل التغيير الذي يطرأ على أي متغير (شكل منحنى أو سرعة جسم متحرك) في أي لحظة، وكذلك أتاح تقنيات لقياس المساحات والأحجام أسفل المنحنيات (وغيرها من الأشياء الأخرى). وقد استغرق عمله في كل من مجالي الرياضيات والبصريات عقودا عديدة ليحوز القبول التام من جانب معاصريه، ويعود ذلك فيما يتعلق بالمجال الأول إلى أن عمله لم يعرض إلا على مجموعة محدودة من العلماء المعاصرين، وبالنسبة للمجال الثاني فيرجع إلى أن كثيرين وجدوا صعوبة في إعادة إنتاج إنجازاته، التي تعد ثورية للحد الذي يتعذر معه فهمها بسهولة.
أما المجد الذي توج طريقة نيوتن، فقد كان مصدره كتابه الذي ألفه تحت عنوان «المبادئ الرياضية » والصادر عام 1687، والذي قدم فيه قوانين الحركة الثلاثة، وذلك المفهوم الرائع الخاص بالجاذبية الكونية، والمتمثل في أن جميع الأجسام الضخمة دائما ما تجذب جميع الأجسام الأخرى وفقا لقانون رياضي. وباستخدام مفاهيم جديدة تماما مثل «الكتلة» و«الجذب»، أعلن نيوتن في قوانينه للحركة: (1) أن جميع الأجسام تظل على حالتها من الحركة أو السكون ما لم تتأثر بقوة خارجية، (2) أن التغيير في حالة جميع الأجسام يتناسب طرديا مع القوة التي تسببت في هذا التغيير، وأنه يحدث في اتجاه تلك القوة المؤثرة، (3) أن لكل فعل رد فعل مساويا له في المقدار ومضادا له في الاتجاه. وقد شكلت دراسة نتائج عمله في هذا المجال الأساس للميكانيكا السماوية خلال القرن الثامن عشر، وأتاحت المجال لظهور فيزياء جديدة - نعتبرها هي الفيزياء الصحيحة - للأرض والسماء (باستثناء تأثيرات النسبية العامة والخاصة). وبذلك، لم يكن من فراغ أن الغالبية العظمى من المتعلمين منحته لقب «مؤسس الفكر».
Shafi da ba'a sani ba
بخلاف ذلك، عانت نخب بريطانيا في العصر الفيكتوري في التعامل مع جوانب أصعب من حياة نيوتن وأعماله؛ لما كان معروفا عنه أيضا أنه خيميائي متفان ومهرطق متطرف. كذلك أظهرت أدلة لا تقبل الجدل أنه انتهج سلوكا ذميما نحو مجموعة من معاصريه. ومنذ ذلك الحين، ظل تفسير شخصيته ومواجهة مشكلة التوفيق بين الجوانب «العقلانية» و«غير العقلانية» من عمله بمنزلة تحد أمام المؤرخين. إضافة إلى ذلك، أن حقيقة أن الكثير من أوراقه البحثية المهمة لم تصبح متاحة للدراسة والفحص الجاد إلا في سبعينيات القرن العشرين تعني أنه لم يكن من الممكن تكوين صورة متوازنة لأعماله إلا في العقود القليلة الماضية.
وعلى الرغم مما كان معروفا منذ زمن؛ أن نيوتن كان لديه هذه الاهتمامات الشاذة فيما يبدو - والتي كان يدرك بلا شك أنها أهم من مساعيه الأكثر «احتراما» - فقد ظلت التراجم الذاتية الحديثة الشهيرة له تظهر تلك العناصر الشاذة وكأنها توصف لأول مرة. غير أن هذه الكتب لم تقدم رؤى جديدة، وكذلك لم تنهل من المواد المذهلة التي أصبحت متاحة عبر الإنترنت في السنوات القليلة الماضية. وتطلق معظم هذه الأعمال أيضا ادعاءات مبالغا فيها عن الروابط والصلات بين الجوانب المتعددة لنشاط نيوتن الفكري. وتهدف هذه المقدمة إلى تدارك هذه المشكلات مع الأخذ في الاعتبار المؤلفات العلمية الحديثة، والنسخ التي أتيحت مؤخرا عبر الإنترنت من المؤلفات والكتابات. والواقع أن نيوتن الذي يبرز من خلال تلك المصادر أغرب بكثير مما كان يبدو في التراجم الحديثة.
الفصل الأول
شخصية قومية
فقد سير إسحاق نيوتن وعيه في وقت متأخر من مساء السبت، وتوفي مباشرة بعد دقات الساعة الواحدة صباحا من يوم الإثنين الموافق العشرين من مارس عام 1727 عن عمر يناهز 84 عاما. كان يحضره لحظة الوفاة طبيبه ريتشارد ميد، الذي أخبر الفيلسوف الفرنسي الكبير فولتير فيما بعد أن نيوتن أخبره وهو على فراش الموت أنه لم يضاجع امرأة قط. وكان يقوم على رعاية نيوتن أيضا في ساعاته الأخيرة ابنة أخته غير الشقيقة كاثرين وزوجها جون كوندويت، الذي كان أشبه بمساعد شخصي لنيوتن في سنواته الأخيرة. وعلى الرغم من انشغاله وكثرة أعبائه، تولى كوندويت وحده تقريبا تنظيم حفل التأبين لهذا الرجل العظيم الذي عرفه عن قرب، ونجح نجاحا بطوليا في الإشراف على جمع كل المعلومات المهمة المتوافرة لدينا تقريبا فيما يتعلق بحياة نيوتن الخاصة. وكان مسئولا عن ترتيبات جنازة نيوتن في كنيسة ويستمنستر آبي في نهاية مارس من عام 1727، واتفق مع ألكسندر بوب لتأليف الكلمة التي نقشت على قبر نيوتن. وفي السنوات اللاحقة، كلف أعظم فناني العصر من البريطانيين والأجانب برسم عدد كبير من اللوحات ونحت التماثيل النصفية لبطله.
حاول كوندويت على مدار عدة سنوات أن يكتب «حياة» نيوتن على وجه الدقة، وإن لم يتمكن مطلقا من إتمام المهمة. كان قد سجل تفاصيل بعض الحوارات التي دارت بينه وبين نيوتن، ولكنه أرسل لعدد من الأشخاص ليرسلوا له ذكرياتهم معه من أجل الحصول على المزيد من التفاصيل عن أعمال نيوتن العلمية. وبعد وفاة نيوتن بأسبوع، كتب كوندويت إلى برنارد دي فونتنيل الفرنسي، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم الملكية بباريس، عارضا عليه تقديم مادة يستطيع استخدامها في «رثائه» لنيوتن. فرأى كوندويت في ذلك فرصة لتحصين سمعة قريبه في الدولة التي كانت من أكثر الدول معارضة للاعتراف بتفوق نيوتن وتميزه في العلوم والرياضيات. ولم تسلم سمعة نيوتن من النيل منها في فرنسا حتى نهاية ثلاثينيات القرن الثامن عشر، وفي أعقاب وفاته، حرص كوندويت على أن يعي العلماء الفرنسيون وغيرهم من غير البريطانيين على ريادة نيوتن وأسبقيته في ابتكار علم التفاضل والتكامل، وهو شرف ظل معظم العلماء الفرنسيين ينسبونه للعالم الألماني متعدد المعارف جوتفريد لايبنتز. وعلى مدار صيف عام 1727، عكف كوندويت على كتابة «مذكرات» نيوتن، والتي أرسلها إلى فونتنيل في شهر يوليو.
شكل 1-1: تمثال كوندويت النصفي لنيوتن، تنفيذ جيه إم ريسبراك.
1
قدمت «مذكرات» نيوتن بقلم كوندويت سجلا تاريخيا واقعيا - وإن كان يشوبه التملق - لحياة نيوتن الفكرية والأخلاقية، ووصفت فيه حياته الأخلاقية بأنها «نقية وطاهرة فكرا، وقولا، وفعلا». فقد كان متواضعا إلى حد يثير الدهشة، وأظهر قدرا رائعا من الجود والعطاء، إلى جانب شفقة وعطف ووداعة وصلت إلى حد أنه غالبا ما كان يذرف الدموع عند سماع قصة حزينة. وكان عاشقا للحرية، ومحبا لحكم الملك جورج الأول الهانوفري، بيد أنه كان «يمقت ويبغض» الاضطهاد، وكانت الرحمة بالحيوان والإنسان هي «الموضوع الأثير الذي أحب التركيز عليه». وقد أدرج كوندويت بيانا عن تقدم نيوتن المبكر في كامبريدج، وأضاف رواية متحيزة لصراع الأسبقية مع لايبنتز؛ فلم يكن الأمر أن لايبنتز ليس أول من ابتكر علم التفاضل والتكامل فحسب، ولكنه أيضا «لم يستوعبه مطلقا بما يكفي لتطبيقه على نظام الكون، والذي كان الفائدة العظيمة والجليلة التي جناها منه سير إسحاق نيوتن».
ألقي «رثاء» فونتنيل على أعضاء الأكاديمية في نوفمبر عام 1727، وفيه قدم سردا جيدا لتقدم نيوتن العلمي وفي مجال الرياضيات، مقرا بأنه قدم جميع اكتشافاته العظيمة تقريبا في بداية العشرينيات من عمره. واختلف مع الكثير من المعتقدات الموجودة في كتاب «المبادئ الرياضية»، خاصة المعتقد الخاص بمفهوم «الجذب»، إلا أنه أفاض في الحديث عن أهميتها بوجه عام. وعلى الرغم من إدراك فونتنيل أن نيوتن كان يختلف مع الكثير من نظريات عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت، فقد أشار إلى أن كليهما حاول إقامة العلم على أسس رياضية، وأن كليهما كان نابغة في عصره ومنهجه. وسرعان ما ترجم الرثاء إلى الإنجليزية، ليصبح المصدر الغالب لجميع السير الذاتية المكتوبة باللغة الإنجليزية لما يزيد على قرن.
Shafi da ba'a sani ba
ظهرت أعمال أخرى بسرعة بالغة، وكان من ضمنها «مجموعة الوثائق الأصلية» لويليام ويستون، والذي كان أول نص يتحدى علانية صورة نيوتن كفارس أبيض متألق. وكان ويستون خليفة نيوتن كأستاذ للرياضيات بجامعة كامبريدج، إلا أنه فصل من كامبريدج في عام 1710 لاعتناقه آراء دينية مهرطقة مشابهة لتلك التي اعتنقها نيوتن. وأفصح ويستون لأول مرة عن آراء نيوتن اللاهوتية المتطرفة، وقارن بين «السلوك والطابع الحذر» الذي اتسم به نيوتن وبين «انفتاحه» هو نفسه، ولكنه أشار إلى أن نيوتن لم يكن يستطيع إخفاء اكتشافاته العظيمة في اللاهوت «على الرغم من طابعه شديد التخوف والحذر والتشكك».
حتى قبل أن يقرأ كوندويت كتاب ويستون، استاء من الطريقة الموضوعية التي قارن بها فونتنيل بين نيوتن وديكارت، ومن طريقة معالجته لنزاع الأسبقية. وعلى الفور، كتب مرة أخرى لعدد من أنصار نيوتن في فبراير من عام 1728 مناشدا إياهم؛ «باعتبار أن سير إسحاق نيوتن كان شخصية قومية، فإنني أعتقد أنه على الجميع أن يساهم بعمل يهدف لإنصافه». وكان من بين أكثر الرسائل التي تلقاها ردا على رسالته إثارة، رسالتان من همفري نيوتن (لا توجد صلة قرابة تربطه بنيوتن)، والذي باعتباره سكرتيرا لنيوتن، كان لديه بصيرة فريدة من نوعها لسلوكه خلال السنوات التي ألف فيها كتاب «المبادئ الرياضية» (1684-1687). فبحسب همفري، كان نيوتن أحيانا ما «يقف فجأة، ويستدير، ويركض صاعدا الدرج، وكأنه أرشميدس آخر، ويصيح «وجدتها، وجدتها»، وينكب ليكتب واقفا دون أن يمنح نفسه رفاهية سحب كرسي للجلوس عليه». وكان نيوتن في ذلك الوقت فيما يبدو يستقبل مجموعة مختارة من العلماء في قاعته، من بينهم جون فرانسيس فيجاني، وهو محاضر في الكيمياء في كلية ترينيتي. وظلت علاقة فيجاني بنيوتن على ما يرام، حتى قام فيجاني «بسرد قصة خليعة عن إحدى الراهبات»، بحسب كاثرين كوندويت.
كان جون كوندويت قد تلقى بالفعل معلومات غاية في الأهمية من خبير الآثار ويليام ستوكلي، الذي كان قد انتقل إلى جرانثام قبيل وفاة نيوتن. ولما كان هذا هو المكان الذي التحق فيه نيوتن بالمدرسة الثانوية المحلية فيما كان يقيم مع الصيدلي المحلي، فقد كان ذلك مكانا مثاليا لجمع معلومات متعلقة بمرحلة الشباب من حياته. وبحلول عام 1800، نشر بعض مما ذكره ستوكلي والقليل من أوراق كوندويت. غير أنه في بداية القرن التاسع عشر، ساهمت المعلومات الجديدة بعمق في تغيير طريقة تفكير الناس في نيوتن. وفي عام 1829، كشفت ترجمة لسيرة ذاتية حديثة لنيوتن كتبها جون-باتيست بيو أنه عانى من انهيار عصبي في أوائل تسعينيات القرن السابع عشر. ولكن ما كان أشد تدميرا هو ما حدث في ثلاثينيات القرن التاسع عشر حين انطلق وابل من المعلومات المزعجة من أوراق أول فلكي ملكي، جون فلامستيد، والتي قدمت صورة ذميمة لسلوك نيوتن. ومنذ ذلك الحين، راح الفيكتوريون يتبارون فيما بينهم لتقديم ترجمات لحياة نيوتن وأعماله. والأهم من كل ذلك، أصبح كتاب ديفيد بروستر «مذكرات عن حياة ومؤلفات واكتشافات سير إسحاق نيوتن» (1855)، وهي نسخة منقحة بشكل رائع من كتابه «حياة سير إسحاق نيوتن» (1831)، هي الترجمة الغالبة لحياته لما يزيد على قرن. وقد حاول ببسالة التعامل مع انخراطه الشديد في الخيمياء، وآرائه الدينية غير التقليدية، ومعاملته الفجة غالبا للصديق والعدو، ولكنه لم يرغب مطلقا في الإقرار بالمدى الكامل الذي وصل إليه انحدار نيوتن.
في بداية سبعينيات القرن التاسع عشر، قرر لورد بورتسمث الخامس - وهو حفيد بعيد لكاثرين كوندويت ومالك أوراق نيوتن البحثية - التبرع بمخطوطات نيوتن «العلمية» للدولة. وشكلت لجنة بجامعة كامبريدج لتقييم قيمة المجموعة، وأعلنت نتائجها في كتالوج لهذه الأوراق البحثية في عام 1888. أما الأوراق غير العلمية، بما فيها مؤلفات نيوتن في الخيمياء واللاهوت، فلم تعتبر ذات قيمة كبيرة بوجه عام، وظلت مع عائلة بورتسمث إلى أن بيعت في صالة سوذبي للمزادات في عام 1936 مقابل مبلغ زهيد للغاية تجاوز بالكاد 9 آلاف جنيه إسترليني. واستحوذت إحدى مؤسسات بيع مواد النشر بالتدريج على معظم أوراق نيوتن في اللاهوت من التجار، وبيعت في النهاية لجامع المقتنيات النادرة أبراهام يهوذا، الذي كان خبيرا في فقه اللغات السامية. وتوفي يهوذا في عام 1951، وعلى الرغم من كونه معاديا للصهيونية، فقد ذهبت ملكية مجموعته المدهشة من أوراق نيوتن إلى المكتبة الوطنية الجامعية في الجامعة العبرية بالقدس بعد دعوى قضائية استمرت لما يقرب من عقد كامل.
حضر الاقتصادي الكبير جون ماينارد كينز جزءا من مزاد سوذبي، وركز كل جهوده للاستحواذ على جميع أوراق نيوتن في الخيمياء، وكذلك الأوراق «الشخصية» التي كانت تحت يد جون كوندويت. وبحلول عام 1942 - والذي وافق الذكرى المئوية الثالثة لميلاد نيوتن - أصبح كينز مالكا للغالبية العظمى من أوراق نيوتن في الخيمياء، إلى جانب بعض الأطروحات اللاهوتية. وعلى الرغم من انشغاله بمتطلبات الحرب العالمية الثانية، ألقى كينز خطبة بنيت على هذه المواد كجزء من الاحتفالات الهادئة بالمئوية الثالثة. وكان نيوتن الذي وصفه في خطبته أكثر روعة بكثير من ذلك الشخص الذي قدمه مؤرخو السير الذاتية السابقون، إذ وصفه بأنه «يهودي موحد من أتباع مدرسة موسى بن ميمون»، وأنه لم يكن «صاحب مذهب عقلي» أو «أول وأعظم علماء العصر الحديث»، ولكنه:
آخر جيل السحرة، وآخر البابليين والسومريين، وآخر العقول العظيمة التي أشرفت على العالم المرئي والفكري بنفس أعين هؤلاء الذين بدءوا في بناء تراثنا الفكري منذ ما لا يقل عن 10 آلاف عام.
كان نيوتن ينظر إلى عالمي الطبيعة والنصوص الغامضة المتلازمين كلغز ضخم يمكن حله من خلال فك شفرة «بعض الخيوط الغامضة التي نسجها الله حول العالم لإتاحة نوع من البحث الفلسفي عن الحقيقة للنخبة». وكانت كتاباته في موضوعات الخيمياء واللاهوت، حسبما ذهب كينز، «تتميز بالمعرفة الواعية، والمنهج الدقيق، والرصانة البالغة في التعبير»، وكانت «معقولة ومنطقية شأنها شأن كتاب المبادئ الرياضية».
استفادت أكثر سيرتين ذاتيتين مؤثرتين وقائمتين على مادة علمية - واللتين كتبتا في أواخر القرن العشرين - استفادة واسعة من المواد الواردة بالمخطوطات اليدوية. فيقدم كتاب «لوحة لإسحاق نيوتن» الصادر عام 1968 الذي ألفه فرانك مانويل ترجمة تحليلية نفسية لشخصية نيوتن، اعتمدت اعتمادا كبيرا على الفرضية القائلة بأن سلوك نيوتن اللاواعي اتضح «على نحو أساسي في مواقف الحب والكراهية». ووفقا لمانويل، فإن مصدر مشكلات نيوتن النفسية كان يكمن في حقيقة زواج والدته مرة أخرى ولم يكن نيوتن قد تجاوز الثالثة من عمره فقط. فبعد فقدانه لوالده الحقيقي، والذي توفي قبل شهور قليلة من ميلاده، أصبح نيوتن يكن عداء لزوج والدته، وكرس نفسه للأب الوحيد الذي استطاع أن يدرك وجوده بحق؛ هو الله. وقد أوضح مانويل كيف أن التجارب الصادمة التي واجهها في شبابه كانت داخلية، وأن الشاب المتزمت العبقري المعذب أصبح الطاغية الهرم في بدايات القرن الثامن عشر.
وفي كتاب ريتشارد إس ويستفول الأكثر تقليدية بعنوان «رجل لم يعرف الراحة: ترجمة علمية لحياة إسحاق نيوتن» الصادر عام 1980، تناول المؤلف أعمال نيوتن باعتبارها الجانب الرئيس في حياته. فقد عنيت «ترجمته العلمية» المستقاة من المجموعة الكاملة لمخطوطات نيوتن التي كانت متوافرة آنذاك للعلماء والدارسين، بكل جانب من اهتمامات نيوتن الفكرية، وإن كان مجاله العلمي «يمثل الفكرة الأساسية». وبينما يتعامل ببراعة واقتدار مع إنجازات نيوتن الفكرية، إلا أنه من الواضح أن إعجاب ويستفول الشديد بهذا الجانب من حياة نيوتن لا يمتد ليشمل سلوكه الشخصي.
وقد مقت ويستفول في النهاية ذلك الرجل الذي ظل يدرس أعماله على مدى أكثر من عقدين، ولم يكن أول من يكن مثل هذا الشعور تجاه الرجل العظيم.
Shafi da ba'a sani ba
هوامش
الفصل الثاني
التعامل مع الأمور فلسفيا
ولد نيوتن في يوم عيد الميلاد عام 1642 (والذي يوافق 4 يناير عام 1643 في معظم دول أوروبا)، وفقا للتقويم المعتمد آنذاك في إنجلترا؛ إذ لم تكن وقتها قد اعتمدت التقويم الميلادي مثل معظم الدول الأوروبية. وشهد العقد الأول من حياته وحشية الحروب الأهلية بين القوى البرلمانية والقوى المؤيدة للحكم الملكي في أربعينيات القرن السابع عشر، والتي وصلت لذروتها بإعدام تشارلز الأول في يناير عام 1649. وكان عمه وزوج والدته قسيسين في الأبرشيات المحلية، ويبدو أنهما قد عاشا دون التعرض لكثير من المضايقات من جانب السلطات الكنسية التي اجتمع بها البرلمان للنظر في «الانتهاكات» الدينية. وفي عقده الثاني، عاش تحت حكم الكومنولث البروتستانتي المتطرف، والذي تغير في عام 1660 حين استعاد تشارلز الثاني عرشه. ولد نيوتن لعائلة ميسورة نسبيا، ونشأ في جو من التقوى والورع. كان والده - واسمه إسحاق أيضا - مزارعا صغيرا ورث في ديسمبر من عام 1639 أرضا وقصرا جميلا في أبرشية وولسثروب بمقاطعة لينكولنشاير. كانت والدته حنا آيسكوف، تنتمي للطبقة المتوسطة العليا، وعلى ما يبدو لم تتلق سوى التعليم الابتدائي (كما كان معتادا بالنسبة لتلك الفترة). غير أن شقيقها ويليام تخرج من كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج في ثلاثينيات القرن السابع عشر، وكان له دور مؤثر في توجيه نيوتن للالتحاق بنفس الكلية.
توفي والد نيوتن، الذي لم يكن فيما يبدو يستطيع توقيع اسمه، في أوائل شهر أكتوبر من عام 1642، قبل زهاء ثلاثة أشهر من ميلاد ابنه. وقد أخبر نيوتن كوندويت بأنه ولد طفلا ضئيل الحجم ومعتل الصحة، وكان بقاؤه على قيد الحياة أمرا مستبعدا؛ لدرجة أن السيدتين اللتين أرسلتا في طلب النجدة من سيدة نبيلة توقفتا للاستراحة وهما في طريقهما إليها، ليقينهما بأن الطفل سيموت قبل عودتهما. وعلى عكس التكهنات، عاش نيوتن، وترعرع في كنف والدته حتى سن الثالثة، حين تقدم للزواج منها بارناباس سميث، وهو قس عجوز بإحدى الأبرشيات المحلية. كان سميث ثريا، وقد تزوجا في يناير من عام 1646 بعد أن تعهد بترك أرض لوليدها الأول. كانت والدة نيوتن تقضي معظم وقتها مع زوجها الثاني، وأنجبت منه ثلاثة أطفال قبل وفاته في عام 1653 (وكان أحد هؤلاء الأطفال هي والدة كاثرين كوندويت). وعلى الرغم من أن جون كوندويت كان كثيرا ما يتكلم بحماس عن فضائل حنا بوجه عام، وكان حريصا على الإشارة إلى أنها كانت «أما رءوما» لجميع أبنائها، فقد كان يؤكد على أن إسحاق الصغير كان المفضل لديها. وأيا كانت حقيقة ذلك، فإن الأدلة التي ساقها نيوتن بنفسه تشير إلى أنه قد جمعته علاقة عصيبة للغاية بوالدته وهو في مرحلة المراهقة، ودائما ما كان المؤرخون يجدون صعوبة في إيجاد تطابق بين رواية كوندويت وبين حقيقة أن نيوتن قد ترك بالفعل لمدة سبع سنوات في وولسثروب لينشأ تحت رعاية جدته لأمه.
التحق نيوتن بمدرستين محليتين حتى بلغ 12 عاما، ليلتحق بعد ذلك بمدرسة جرانثام الثانوية، وهناك أقام مع صيدلي محلي يدعى جوزيف كلارك، الذي تبين أن متجره مصدر رائع للمعلومات. وقد قال أحد أحفاد كلارك لويليام ستوكلي إن نيوتن أظهر اهتماما بالغا بالأدوية والكيماويات الوفيرة هناك، فيما أشار ستوكلي إلى أنه كان يقضي وقتا كبيرا في جمع الأعشاب، وربما تعرف على خصائصها من صبية كلارك. وعاش نيوتن مع أبناء زوجة كلارك، وكان من بينهم كاثرين، التي أصبحت فيما بعد السيدة فينسنت، وأدلت بقدر وافر من المعلومات عن ذلك الصبي المعجزة. وكان كل من يقابل ستوكلي يحكي له عن «نبوغه المثمر الاستثنائي» في صناعة الآلات، ويخبره أنه «بدلا من اللعب وسط أقرانه من الصبية - عند العودة من المدرسة - كان دائما ما يشغل نفسه في المنزل بصنع حلي من أنواع مختلفة، ومجسمات من الخشب، وأي شيء يقوده خياله إليه». وقد أشارت السيدة فينسنت، التي زعم أن المخترع الشاب كان يهيم بها حبا، إلى أن زملاءه في المدرسة كانوا «لا يكنون له قدرا كبيرا من الحب»؛ لإدراكهم أنه «يملك قدرا من العبقرية والنبوغ» يفوق ما يملكونه. وبدلا من ذلك، كان إسحاق الصغير «صبيا مفكرا وصامتا وهادئا دوما»، ولم يكن يلعب قط مع الصبية، بل كان من آن لآخر يصنع أثاثا لبيوت الدمى للفتيات «ليضعن عرائسهن وحليهن عليها».
قام نيوتن ببناء «متجر كامل للأدوات» في جرانثام، وكان ينفق كل النقود التي تعطيها له والدته على شراء المناشير، والأزاميل، والبلطات الصغيرة، والمطارق، وما شابهها من أدوات، «والتي كان يستخدمها بنفس القدر من البراعة والمهارة، وكأنه تربى متشربا بهذه الحرفة». وكان كثير من الآلات التي وصفتها السيدة فينسنت وغيرها قد عرض في الأساس في كتاب من تأليف جون بت بعنوان «أسرار الطبيعة والفن»، والذي كان جزءا من مجموعة كتب تنتمي لجنس أدبي يحظى بشهرة بالغة تدعى «السحر الرياضي»، والتي احتوت على العديد من الوصفات وتصميمات الآلات. لم يكن نيوتن ليتقبل المعلومات ببساطة دون تطويرها على نحو مثير. فلعدم رضاه باستنساخ طاحونة هوائية ورد وصفها في كتاب بت، ذهب ليشاهد نسخة حقيقية منها بنيت في قرية مجاورة، «وكان يلازم العمال يوميا»، و«حصل على فكرة دقيقة عن آليتها، حتى إنه صنع نموذجا حقيقيا ورائعا لها». وقد تجاوز نموذجه المبدئي وقام بتعديل وضبط الآلية بحيث تدار الأشرعة بواسطة فأر يقود عجلة أثناء محاولته للوصول لبعض الذرة. وفيما اختلف رواة ستوكلي حول آليتها، فقد اتفقوا على أن الناس كانوا يقطعون أميالا لمشاهدة «طاحونة الفأر». وقد أشار ستوكلي عن إدراك وفطنة إلى أن الآلات «الهزلية» كانت عادة ما تجذب انتباهه. ففضلا عن طاحونة الفأر وأثاث الدمى، تفحص نيوتن نسيج وأبعاد طائرة ورقية بسيطة، وصنع نموذجا أفضل، وأرفق بها مصباحا يضاء بالشموع، مما بث الفزع في نفوس أهل القرية ومنحهم الكثير لمناقشته بينما يحتسون الجعة.
وكما حدث في حالتي الطاحونة الهوائية والطائرة الورقية، صنع نيوتن ساعة خشبية، وبعدها مباشرة صنع نموذجا أفضل لها. وقد كانت هذه النسخة المعدلة - المزودة بقرص مدرج - تدار بواسطة سيل منتظم من قطرات الماء كان يزودها بها كل صباح، وصنعت من صندوق أعطاه له همفري بابينتون. وبابينتون هو شقيق السيدة كلارك (التي كانت صديقة مقربة لحنا سميث)، وكان قد فصل من كلية ترينيتي لرفضه ميثاق قسم الولاء للكومنولث، ولعب دورا مهما في حياة نيوتن على مدى العقود اللاحقة. ونجح نيوتن في توسيع نطاق براعته الفنية الفائقة لينتقل إلى الساعات الشمسية المعقدة، محولا ملامح منزل كلارك المتنوعة إلى أنواع مختلفة من الساعات، وبحسب ستوكلي، فقد «أظهر عظمة ونطاق فكره برسم خطوط طويلة، وربط خيوط طويلة بكرات متحركة عليها؛ وغرز أوتاد في الحائط لتمييز الساعات وأنصاف وأرباع الساعات». وقد صنع «تقويما» من هذه الخطوط «وكان يعرف من خلالها أي يوم من الشهر أصبح؛ وموعد دخول الشمس في الأبراج، وشهور تساوي الليل والنهار والانقلاب الشمسي». وقد أصبحت ساعات نيوتن الشمسية، شأنها شأن الكثير من إنجازاته الأخرى، معروفة في الأبرشية. ولعل هذه الساعات هي أعظم إنجازاته في مرحلة الصبا، ويعتقد ستوكلي أنها كانت أساس انبهاره بالحركات السماوية.
تفوق نيوتن أيضا في الأنشطة الفنية، مثل الرسم وحتى تأليف الشعر، على الرغم من أن ولعه بالشعر كان مؤقتا. فكان يغطي جدران غرفة علية البيت الخاصة به برسومات من الفحم لحيوانات، وبشر، ونباتات، وأشكال رياضية، ونقش اسمه على الأرفف. وفي منتصف القرن العشرين، اكتشفت رسومات هندسية، رسمها نيوتن بلا شك، محفورة على المبنى الحجري لقصر وولسثروب.
شكل 2-1: كان كتاب جون بت «أسرار الطبيعة والفن» هو المصدر الذي اعتمد عليه نيوتن لتصميم ساعة تعمل بالماء.
Shafi da ba'a sani ba
ويمكن تقييم النزعة الفنية لدى نيوتن في تلك الفترة من خلال سلسلة من الملاحظات عن كتاب بت، وضعت داخل مفكرة كان قد اشتراها في عام 1659. تشهد هذه الملاحظات على اهتمام نيوتن بالجوانب العملية للرسم، وكذلك اهتمامه بإنتاج مجموعة كبيرة من الأحبار والطلاءات الملونة، سواء من الحيوانات، أو النباتات، والمعادن، أو من خلال مزج ألوان موجودة مسبقا. وبعد مرور ما يزيد عن عقد، ساهم آخر هذه الموضوعات في شهرته. ثمة إرشادات أخرى تتعلق بكيفية صنع طعم صيد السمك، وطرق مختلفة، ليست جميعها بالغة التعقيد، لصيد الطيور بإدخالها في حالة سكر. احتوى كتاب بت أيضا على وصفات لمراهم ودهانات عامة، دون نيوتن عددا منها. وبالفعل، من بين الأشياء القليلة التي تذكرها جون ويكينز فيما بعد - وهو رفيق غرفته لمدة عشرين عاما في كامبريدج - أن نيوتن كان غالبا ما يأخذ وصفة دوائية بشعة كان يصنعها بنفسه («بلسم لوكاتيلو») كواق من الأمراض. وقد جاءت بعض هذه الملاحظات من كتاب «السحر الرياضي» لجون ويلكنز، وهو عمل شهير قدم معلومات مشابهة لمعلومات بت، فيما كانت فقرات أخرى في المفكرة تتعلق بالطرق المختلفة لإحداث حركة مستديمة، وهو موضوع حاز اهتماما بالغا في العقود اللاحقة.
لم يقدم هذا الانغماس في عوالم براعته العملية نذرا لمستقبله العظيم فحسب، ولكنه قاد إليه مباشرة. وبالفعل، قدم ستوكلي وصفا رائعا لكيفية ارتباط ميول نيوتن المبكرة التي استحوذت عليه بانتصاراته اللاحقة. فقد أشار إلى أن براعة نيوتن المبكرة في استخدام الأدوات الميكانيكية، إلى جانب خبرته في الرسم والتصميم، كان لهما نفع بالغ لمهارته التجريبية «وأعدت له أساسا متينا لتطبيق ملكاته العقلية القوية عليه». كان نيوتن يملك كل السمات ليصبح فيلسوفا طبيعيا عظيما على نحو فريد، مثل «البصيرة النافذة»، و«الثبات الذي لا يقهر، والمثابرة في إيجاد حلوله»، و«قوة عقلية ضخمة في توسيع نطاق حججه [و] سلسلة استنتاجاته»، و«مهارة فذة في الجبر وما شابهه من طرق التنويت». ومثل جميع الأطفال، كان يميل للتقليد، ولكنه في رأي ستوكلي «ولد فيلسوفا في واقع الأمر. وكان للتعلم والمصادفة والكد دورهم في توضيح بعض الحقائق البسيطة والعامة أمام عينيه الثاقبتين»، وقد عمد تدريجيا إلى توسيع نطاق هذه الحقائق «حتى كشف عن اقتصاد الكون الأكبر».
طفل ورع
قدر ما كان مستغرقا في ابتكار آلاته، كان الصبي الريفي الموهوب يعاني تعاسة شديدة في شبابه. ففي أواخر مايو من عام 1662، وضع قائمة بأسلوب الاختزال بكل الخطايا التي ارتكبها في العقد السابق من حياته، وظل لفترة قصيرة يدون كل الأخطاء التي ارتكبها أثناء دراسته بكامبريدج. لقد كان مصطلح «متزمت» مصطلحا خاطئا تماما كوصف لعقيدة نيوتن الدينية، ولكن القيم الأخلاقية البروتستانتية المتطرفة المرتبطة بهذا المصطلح تصف على نحو دقيق الشخص الذي تبدى لنا بين فقرات المذكرات. فالكثير من هذه الخطايا غطت أنشطة كان يؤديها في يوم السبت («يوم الراحة») الذي يفترض فيه بالمسيحيين الأتقياء الورعين أن يلزموا الراحة. وفي الكثير من أيام الأحد خلال فترة خمسينيات القرن السابع عشر، كان نيوتن يقرأ كتابا تافها، ويأكل تفاحة في الكنيسة، ويصنع ريشة، وساعة، ومصيدة فئران، وبعض الحبال، وفي المساء يصنع الفطائر. وقد اعترف بأنه كان يثرثر ب «لغو فارغ» في يوم الرب، ومن ثم فلا غرابة في أنه أيضا كان يسمع العديد من العظات ويحفظها بلا اكتراث، فيما دون أيضا أنه قد فاته تماما الذهاب إلى الكنيسة في إحدى المناسبات. وفي بعض الأحيان، كان يكرس نفسه للتعلم وكسب المال أكثر من تكريسها لله، مفضلا «الأمور الدنيوية»، والحق أن الكثير من خطاياه تدل على فشله في العيش كإنسان ورع: «لم أكن أعيش وفقا لعقيدتي»، و«كنت أهمل الصلاة»، وهو ما جعله يصبح بعيدا عن الله، وفشل في حبه لذاته وفي «الاشتياق» لطقوس الرب.
كانت هناك أيضا بعض الوقائع المعتادة لأي مراهق في قريته. فكان يضع دبوسا في قبعة صبي آخر لكي «يوخزه»، وكان يرفض المجيء للمنزل حين تطلب منه والدته ذلك، وكذب على والدته وجدته بشأن امتلاكه لقوس ونشاب. وفي أوقات أخرى، كان «يتشاجر» مع الخدم. كذلك كانت جرائم الطعام بارزة: فكان يسرق ثمار الكرز من إدوارد ستورر، ابن زوجة كلارك، وكان يختلس ثمار البرقوق والسكر من صندوق طعام والدته. بل إنه اعترف بأنه كان يفرط في الطعام أثناء مرضه، وبالفعل كان أول ما كتبه في القائمة القصيرة للخطايا التي ارتكبها حين كان طالبا في كامبريدج تدور حول هذا الخطأ. ثمة تعليقات أخرى في القائمة الأولى تصف عناصر أكثر قتامة من نفسيته. فقد لكم إحدى شقيقاته، وضرب «كثيرين»، وأوسع آرثر ستورر - شقيق إدوارد - ضربا. والمعنى الدقيق لعبارة «لدي أفكار وكلمات وأفعال وأحلام قذرة» في قائمة نيوتن غير واضح، وكذلك الحال فيما يتعلق بأسفه لاستخدامه «وسائل غير مشروعة» لإخراج نفسه من حالة «الكرب والحزن» التي يمر بها. وهناك أيضا اشمئزاز حقيقي يظهر من خلال تذكره «لتمني الموت لنفسه وتمنيه للبعض»، ولعل أكثر هذه الذكريات بشاعة تلك الذكرى البعيدة حين هدد بحرق زوج والدته ووالدته ومنزلهما. كذلك جمع نيوتن قائمة بالكلمات الشائعة الواردة في كتاب فرانسيس جريجوري «إعادة ترتيب المسميات القصيرة» الصادر عام 1651 مرتبة أبجديا. فأضاف لمصطلحات مثل «أب»، و«زوجة»، و«أرملة» كلمات مثل «فاسق»، و«عاهرة» لم يكن لها وجود في كتاب جريجوري، وهي تعبيرات ربما تشير لرأيه في والدته وزوجها.
أعلن غضب نيوتن عن نفسه في مناح أخرى من حياته. فوفقا لكوندويت، الذي عرف نيوتن عن قرب، كان الاستياء والرغبة في المنافسة هما القوتان اللتان دفعتا نيوتن للتفوق على الجميع في بداية مشواره الأكاديمي. وغالبا ما كان نيوتن يروي له قصة عن أيامه الأولى في المدرسة الثانوية حين كان قابعا في مؤخرة الفصل، وهي قصة ربما ترتبط ب «اعترافه» بضرب آرثر ستورر. ففي أحد الأيام، تلقى ركلة في معدته وهو في طريقه إلى المدرسة، وبعد انتهاء الدروس اشتبك في فناء الكنيسة مع الشخص الذي اعتدى عليه. وعلى الرغم من أن نيوتن «لم يكن في قوة خصمه، فقد كان لديه روح وعزم أكثر منه بكثير لدرجة أنه ظل يوسعه ضربا إلى أن أعلن أنه لن يشتبك معه أكثر من ذلك». وفيما بعد، حثه ابن ناظر المدرسة على أن يدفع وجه خصمه للارتطام بجانب الكنيسة. بعد ذلك، كافح نيوتن من أجل التفوق على خصمه في التعلم، ولم يتوقف حتى تفوق عليه في الترتيب الدراسي، وبعناد لم يتوقف صعد ليصبح الأول على المدرسة.
كان لأنشطته الخارجة عن المنهج الدراسي تأثير عكسي على أدائه الدراسي، إلا أن قدرته كانت هائلة حتى إنه استطاع استئناف نشاطه الأكاديمي وتفوق على أقرانه كلما شاء. وقد أشار ستوكلي إلى أن «بعض الصبية الكسالى أحيانا ما كانوا يسبقونه شكليا، لكن هذا دائما ما كان يدفعه لمضاعفة جهوده ليتخطاهم». ويبدو أن ناظر المدرسة جون ستوكس، قد اكتشف موهبة نيوتن في مرحلة مبكرة، لكنه لم يستطع إبعاد الصبي عن مطارقه وأزاميله. غير أنه في النصف الثاني من عام 1659، قررت والدته إخراجه من المدرسة لإدارة ممتلكات الأسرة. وعلى الرغم من أنه قد وضع تحت رعاية موظف موثوق فيه، فإن هوسه ببناء السواقي وغير ذلك من النماذج، وقدرته على الغرق في بحور كتبه، جعلا من نيوتن شخصا غير مناسب تماما لهذه المهمة. فقد شردت الأغنام والماشية الذي كان من المفترض أن يعتني بها إلى الحقول المجاورة، وتوضح الوثائق أنه قد غرم لذلك في أكتوبر من العام نفسه. وكان بالكاد يتذكر تناول الطعام، وبحسب ستوكلي، كانت «الفلسفة تشغل كل أفكاره».
وعند هذه المرحلة، تبدأ القصص الخاصة بتطور نيوتن في تصويره كدارس روحاني زاهد، وليس صانعا موهوبا. وفيما بعد، أشارت أدلة مختلفة إلى أنه قد أصبح معروفا بسلوكه الساذج أو «عديم الحس» حين التحق بجامعة كامبريدج. ولكونه مديرا ميئوسا منه لشئون عائلته، كان يرشو الخادم للتصرف نيابة عنه، ووجد ملاذا علميا في العلية حيث كان يقيم بينما كان في المدرسة، ليغرق وسط كومة من المجلدات الطبية والعلمية التي تركت هناك. وفي مناسبات أخرى، كان يضطجع فحسب أسفل سياج من الشجيرات أو أسفل شجرة ويقرأ كتابا. وذات مرة، أفلت حصان نيوتن من لجامه، وسار لأميال دون وعي فيما كان مستغرقا في كتاب يقرؤه. وكانت والدته «في غاية الانزعاج من ولعه المبالغ فيه بالقراءة»، فيما كان العاملون يصفونه بأنه «صبي سخيف لن يصلح لأي شيء».
جاء طوق النجاة ممثلا في ستوكس، الذي أخبر حنا أن موهبة نيوتن الهائلة يجب ألا تدفن في «عمل ريفي بسيط». فقد رأى «المقدرة غير العادية للصبي، وأعجب بابتكاراته المدهشة، وبراعة يده، وكذلك ذكائه الرائع الذي فاق سنوات عمره القليلة»، وأخبر والدته أنه «سيصبح إنسانا فذا ورائعا للغاية». وعرض ستوكس أن يتركه يقيم بالمدرسة مجانا، وهو ما قد يعتبر عاملا أساسيا في موافقة حنا على السماح لابنها بالعودة إلى المدرسة الثانوية للاستعداد للالتحاق بالجامعة، ليعود إلى هناك في خريف عام 1660، ويتلقى دروسا إضافية في اللغة اللاتينية واليونانية. وفي يومه الأخير بالمدرسة ألقى ستوكس خطابا مؤثرا في وداعه زعم أنه أدمع عيون بقية المدرسة. وقد أشار ستوكلي إلى أن أيا من مثل هذه العواطف لم يراود العاملين الذين أعلنوا صراحة أنه «لا يليق لأي شيء سوى الجامعة».
ترينيتي
Shafi da ba'a sani ba
في تلك الفترة، كان قد تقرر بالفعل أن يلتحق نيوتن بكلية ترينيتي بجامعة كامبريدج، أرقى كليات إنجلترا. وعلى الأرجح أن اتحاد قوى ويليام آيسكوف وهمفري بابينتون، الذي كان قد أعيد مؤخرا كعضو بالكلية، كان هو العامل الذي حسم إرسال نيوتن إلى هناك. وصل نيوتن إلى كامبريدج في 5 يونيو من عام 1661، كطالب «يسدد مصروفاته بأداء أعمال خدمية»، وهي مكانة متدنية لا تتماشى مع الثروة التي تملكها والدته بشكل مثير للاستغراب. كان هؤلاء الطلاب الذين كان عليهم الدفع مقابل طعامهم وحضور المحاضرات أيضا، في الواقع بمنزلة خادمين لزملائهم أو للطلاب الأثرياء، ومن المحتمل أن يكون نيوتن قد عمل في هذه الوظيفة لدى بابينتون، وإن كان ذلك مستبعدا. تفاعل كل من قاطني المدينة الجامعية من الطلاب والعاملين بالكلية سريعا وبإيجابية مع إعادة تشارلز الثاني إلى الحكم في الربيع الفائت، وحل المؤيدون للحكم الملكي محل المعينين من جانب الكومنولث في المناصب المرموقة. وصار العالم الأنجليكاني جون بيرسون، مؤلف الكتاب المؤثر «بيان العقيدة» في عام 1659، أستاذا بالجامعة في عام 1662، وفي عهده ركزت الكلية على أشكال أكثر تقليدية للمعرفة والعلم وخاصة الدراسة اللاهوتية.
تلقي الدلائل المقتطفة من مفكرة صغيرة ببعض الضوء على كيفية قضاء نيوتن لوقته وإنفاقه لماله وهو طالب. فتبين العناصر الأولى التي كتبها شراءه لوازم أساسية مثل الكتب، والأوراق، والقلم والحبر، والمواد العادية اللازمة للمعيشة في سكن طلابي في القرن السابع عشر، مثل الملابس، والأحذية، والشموع، وقفل لمكتبه، وسجادة لغرفته، ومبولة. واشترى أيضا ساعة يد، ولوحة شطرنج، ثم اشترى فيما بعد طاقما من قطع الشطرنج (ووفق رواية كاثرين كوندويت، أصبح في غاية البراعة في ألعاب الألواح)، ودفع سبعة بنسات قيمة اشتراكه السنوي للدخول إلى ملعب التنس. وتشير الفقرة الخاصة ب «نفقات الحفلات الراقصة والرحلات» والتي تكررت في موضع لاحق، إلى أنه لم يكن يقضي كل لحظة في الدراسة خلال عامه الأول هناك. والحق أنه قد صنع قائمة منفصلة لنفقات «العبث» و«البذخ»، بما في ذلك شراء الكرز، والجعة، والمرملاد، وكعك الكسترد، والكعك، واللبن، والزبد، والجبن. وفيما بعد تحول إلى شراء التفاح، والكمثرى، والبرقوق المطهي.
وبسرعة بالغة - وعلى نحو فريد غير مألوف بين الطلاب الذين لا تزال سجلاتهم باقية - بدأ نيوتن في إقراض خادمه، وزملائه من الطلاب، والذين كان العديد منهم «موسرين» وكانوا يشغلون مكانة اجتماعية أعلى من مكانته نوعا ما في الكلية. وكان معظم المستفيدين من سخاء نيوتن يردون ماله إليه، وهو ما تبين من خلال علامة ظهرت عبر السجل المتعلق بهذا الأمر. وفي مرحلة ما، تقريبا في عام 1663، التقى نيوتن بطالب موسر آخر، هو جون ويكينز (الذي أشار نجله نيكولاس إلى أن والده وجد نيوتن «وحيدا وكئيبا»)، وقررا الإقامة معا. كان ويكينز يعمل بين الحين والآخر سكرتيرا لنيوتن حتى غادر كامبريدج في عام 1683 ليشغل وظيفة في الكنيسة. وقد علم نيك (نيكولاس) ويكينز من والده أن نيوتن كان ينسى تناول طعامه في أوقات العمل، وفي الصباح كان يستيقظ «في حالة من السرور لاكتشافه افتراض ما؛ دون أدنى اهتمام بنومه الليلي، أو مجرد إظهار حاجة إليه». وإذا صحت ذكريات نيوتن، فقد أصبح مفتونا في العام نفسه الذي التقى فيه بويكينز بعلم التنجيم بأحكام النجوم - وهو تقييم آفاق مستقبل الفرد على أساس دراسة مواقع النجوم والكواكب - واشترى كتابا عن هذا الموضوع. ونتيجة لعدم رضاه بذلك، اتجه في العام اللاحق إلى رياضيات إقليدس، فقط ليرفضها لبديهيتها بشكل يصل إلى حد التفاهة.
وعلى الأرجح أنه حضر المحاضرات الأولى لأستاذ الرياضيات إسحاق بارو، الذي كان أول من شغل هذا المنصب، في مارس من عام 1664، وربما لاحظ الأستاذ الجامعي وجود طالب يقظ للغاية وسط الحضور. وفي الشهر اللاحق لمحاضرة بارو الافتتاحية، أقامت ترينيتي واحدة من مسابقاتها الدورية للمنح الدراسية، واشترك فيها نيوتن. وبحسب روايته للقصة فيما بعد، كان بارو هو ممتحنه، والذي لم يتخيل أن يكون الطالب الشاب قد جرؤ على مطالعة كتاب ديكارت الرائع «الهندسة»، وهو عمل فذ كان من الواضح أن نيوتن لديه من التواضع ما منعه من الاعتراف به، فيما خاب أمله لانعدام معرفة نيوتن بإقليدس. ومع ذلك فاز نيوتن بالمنحة، ومن ثم أصبح مخولا لعدة امتيازات. وفي بداية العام اللاحق، تقريبا في نفس العام الذي اكتشف فيه نظرية ذات الحدين المعممة، أجبر على خوض اختبار مطول في معارف أكثر تخصصا للتأهل للحصول على درجة البكالوريوس. وفي رواية لاحقة، ذكر أنه شارف على الإخفاق في هذا الاختبار، وإن كان من المحتمل أن تكون الرواية قد خلطت بين هذا الحدث وبين اختبار المنحة الدراسية الذي عقد في العام السابق.
دمر الطاعون أجزاء متعددة من إنجلترا في منتصف عام 1665، وعاد نيوتن إلى موطنه مع معظم الطلاب الآخرين في أواخر يوليو أو أوائل أغسطس. وبعد عودته إلى كامبريدج في مارس من عام 1666، استمر في إقراض العديد من الطلاب أنفسهم الذين كان يقرضهم من قبل، ولكن الطاعون عاود الظهور مرة أخرى في بداية فصل الصيف، ليتخذ نيوتن من لينكولنشاير ملاذا له مرة أخرى، والتي شهدت إنتاج جزء كبير من أكثر أعماله إبداعا، على الأرجح في منزل بابينتون في بوثباي باجنل. وفي 20 مارس عام 1667، تلقى 10 جنيهات استرلينية من والدته، والتي أعطته نفس المبلغ حين عاد إلى كامبريدج في الشهر اللاحق. وعلى مدار العام اللاحق أنفق جزءا كبيرا من هذا المال - إضافة إلى الأموال التي استردها من المدينين له - على معدات لصنع أدوات الطحن وإجراء التجارب، وثلاثة أزواج من الأحذية، والخسارة في لعب الورق (مرتين)، ومعاقرة الشراب في إحدى الحانات (مرتين)، إلى جانب شراء بعض المجلدات الأولى من دورية «المعاملات الفلسفية»، وكتاب توماس سبرات المنشور حديثا وقتئذ «تاريخ الجمعية الملكية»، وبعض البرتقال لشقيقته. وفي سبتمبر اشترك في مسابقة أخرى، وهذه المرة لنيل عضوية الكلية. وسواء أكان ذلك بدعم من بابينتون أو بارو، أم ببساطة بسبب عبقريته وتفانيه في المنحة اللذين تألقا خلال الأربعة أيام مدة الاختبار الشفوي، فقد انتخب نيوتن كعضو غير أساسي بالكلية.
ومن الواضح أن هذا يشير ضمنا كذلك إلى أنه كان خبيرا في نوعية المعرفة اللاهوتية التي كان بيرسون يطلبها، وكنتيجة لانتخابه لعضوية الكلية، أقسم على أن يجعل علم اللاهوت محور تركيز دراساته وأن يرسم لدرجة الكهنوتية أو يستقيل. بعد ذلك بفترة وجيزة انتقل نيوتن إلى غرفة جديدة، وعمل على تجديدها لتناسب ذوقه. وفي يوليو من عام 1668، نصب أستاذا في الآداب، مما أتاح له الانتقال إلى منصب عضو أساسي بالكلية. وأنفق مزيدا من المال على المواد اللازمة لتفصيل ردائه الجامعي، واشترى قبعة باهظة الثمن، وحلة، وسجادا من الجلد، وأريكة (اشتراها مناصفة مع ويكينز)، وبعض المواد لصنع سرير جديد من الريش. كذلك اشترى ثلاثة موشورات مقابل شلن للواحد، إلى جانب «قطع زجاجية» على الأرجح للتجارب الكيميائية، فيما قام بأولى رحلاته إلى لندن في أواخر الصيف، وسرعان ما تبعته سمعته.
الفصل الثالث
السنوات الرائعة
شهدت العقود الأولى من القرن السابع عشر نموا سريعا في فهم طبيعة الأرض والسماء، تلك العملية التي عادة ما كان يشار إليها بالثورة العلمية. وكان الاعتماد القديم على فلسفة أرسطو سريع الاضمحلال في الجامعات، على الرغم من أن الفلسفة الطبيعية وعلم الأخلاق الأرسطي كانا يدرسان على نحو روتيني عبر جميع أنحاء أوروبا في مرحلة ما قبل التخرج الجامعي حتى نهاية القرن. وفي المنظومة الأرسطية للفلسفة الطبيعية، كانت حركات الأجسام تفسر «عرضيا» من حيث مقدار ما تحويه من العناصر الأربعة (التراب، والماء، والهواء، والنار)، وكانت الأشياء تتحرك إلى أعلى أو أسفل إلى موضعها «الطبيعي» اعتمادا على أكثرية العناصر التي تتكون منها. وكانت الفلسفة الطبيعية تتعارض بطبيعتها مع علم الرياضيات أو موضوعات «الرياضيات المختلطة»، مثل علم البصريات، والهيدروستاتيكا، وعلم الأصوات الموسيقية، حيث كان يمكن استخدام الأرقام مع الكميات الخارجية القابلة للقياس مثل الطول أو المدة. كل هذا كان يحدث في كون تستقر الأرض في مركزه، محاطة بالشمس والكواكب.
حدث أول تغير دراماتيكي في علم الفلك - حيث اكتسب نظام مركزية الشمس الكوبرنيكي (أي إن الشمس هي مركز النظام الشمسي) مناصرين جددا - على الرغم من المعارضة الرسمية من جانب الكنيسة الكاثوليكية والعديد من الطوائف البروتستانتية. وفيما بين عامي 1596 و1610، كانت هناك ثورة في علم الفلك حركتها أعمال يوهانز كبلر وجاليليو جاليلي. فطرح كتاب «اللغز الكوني» لكبلر عام 1596 نظاما لمركزية الشمس أمكن فيه تحديد المسافات بين الكواكب من خلال رسم مدارات الكواكب داخل مجسمات متناسقة. ونشر كبلر أيضا نظرية مغناطيسية للحركة الكوكبية في كتابه العظيم «علم الفلك الجديد» الصادر عام 1609، وهو أطروحة ضمت أول قانونين مما عرف فيما بعد بقوانين كبلر (والقائلة بأن الكواكب تتحرك في مدارات قطع ناقص أو إهليلجية، وأنه بالنسبة للشمس، التي تقع عند إحدى بؤرتي مدار معين، تقطع كل الكواكب نفس المسافات في نفس الفترات).
Shafi da ba'a sani ba
في عام 1609، حول جاليليو زوجا من العدسات إلى آلة أتاحت له تكبير الأشياء. وأدار هذا «التلسكوب» نحو السماء، وأدرك أن كوكب المشتري له مجموعة من الأقمار تدور حوله، مثلما تدور الكواكب حول الشمس. وفي كتابه القصير «الرسالة الفلكية» الصادر عام 1610، صرح أيضا بأن القمر به جبال وأودية، وأن درب التبانة يتألف من آلاف النجوم. وفي عام 1613، زاد في تحديه للنظرية التقليدية السائدة، التي كانت تقضي بأن السماء «منزهة عن العيب»، وذلك من خلال إثبات أن الشمس بها بقع. وقد أضاف كبلر قانونه الثالث في كتابه «انسجام العوالم» الصادر عام 1619، والذي نص على أنه بالنسبة لأي مدار كوكبي، فإن مكعب متوسط المسافة بين الشمس والكوكب يتناسب طرديا مع مربع فترة دوران الكوكب حول الشمس. وفيما دحضت اكتشافات جاليليو بفاعلية الاعتقاد في كمال السماء، كانت لقوانين كبلر أهمية محورية لنيوتن في إثبات الفرضيات الأساسية في كتاب «المبادئ الرياضية».
لم ينته إسهام جاليليو في علوم القرن السابع عشر عند أعماله في علم الفلك. ففي عام 1632، أقدم بشجاعة على نشر كتابه «حوار حول النظامين الأساسيين للكون»، وهو عمل حاول إثبات النظام الكوبرنيكي للعالم. وبسبب ذلك وضع قيد الإقامة الجبرية في منزله حتى نهاية حياته في عام 1642، على الرغم من صدور رائعته «حوارات وبراهين رياضية لعلمين جديدين» في عام 1638. وكان أرسطو يفترض أن الأجسام المقذوفة قد تعرضت في البداية لحركة «عنيفة» ثم سيطرت عليها بعد ذلك الحركة «الطبيعية» التي دفعت الجزيئات الأرضية للجسم إلى أسفل نحو موضعها الطبيعي. وذهب أيضا إلى أن الأجسام تسقط بسرعات تتناسب مع وزنها. بدلا من ذلك، أعلن جاليليو في كتاب «الحوارات» أن مسار المقذوفات قطع مكافئ، بينما المكون الرأسي لأي جسم بالقرب من سطح الأرض يمكن التعبير عنه كقانون ينص على أن إجمالي المسافة التي تسقط منها الأجسام من أي وزن أو «حجم» رأسيا تتناسب مع مربع الوقت المستغرق في السقوط. كذلك أوضح أن الأسباب الفيزيائية للجاذبية غير ذات أهمية، وفي الواقع سوف تكون بالغة الصعوبة في اكتشافها، فيما يعد تعارضا آخر مع المشروع الأرسطي بأسره. ومن خلال إظهاره أن عددا من الظواهر في المجال الأرضي يمكن حسابها رياضيا، أرسى جاليليو قواعد علم الميكانيكا الحديث. ويعد انتصار نيوتن الأكبر - والموضح في كتابه العظيم الذي يحمل نفس الاسم - هو توضيح أن «المبادئ الرياضية» كانت أساس العديد من الظواهر الطبيعية.
ثمة بعد أساسي آخر للعلم الحديث موضح في أعمال فرانسيس بيكون. ففي نفس الوقت الذي كان فيه جاليليو وكبلر عاكفين على وضع علم الفلك والميكانيكا، كان بيكون يروج لفكرة أن الطريقة المناسبة لفهم الطبيعة هي الاندماج معها مباشرة بدلا من التعامل معها من خلال النصوص الأرسطية (أو أي نصوص أخرى). وذهب بيكون إلى أن إجراء مشروع تعاوني هو الطريق الأوحد لتحقيق تقدم في الفلسفة الطبيعية، وفي إطار ذلك أشار إلى الاكتشافات الأخيرة لقارة أمريكا والمحيط الهادي وأشاد بالتطورات التي حققتها الفنون والحرف. فإبداء ملاحظات عن حقائق منفصلة من شأنه أن يزيد المعرفة بالعالم المرئي، بينما التجارب المصممة جيدا من شأنها تحليل العالم الطبيعي إلى أجزائه الأساسية المكونة له، واستخراج معلومات عن أسرار الطبيعة الحقيقية. وقد أشاد بيكون أيضا بالطريقة التي استعد بها الخيميائيون لتحليل الطبيعة، وإن كان قد أسف لأساليب حياتهم المنغلقة ولغتهم الاصطلاحية الغامضة.
لم يكن جميع المعادين للأرسطيين يتفقون على أن مشروع جاليليو هو الطريقة الملائمة لكشف الحقائق العلمية. فقد أعد رينيه ديكارت وصفا معقدا لنوعيات البنى متناهية الصغر التي تشكل أساس العالم المادي. فافترض أن الظواهر المتواجدة في العالم من حولنا والتي تشبه الماكينات تعمل أيضا على المستوى غير المرئي. وافترضت فلسفته الميكانيكية وجود عالم مجهري غير مرئي مأهول بالكلابات والبراغي تؤدي إلى تماسك العناصر معا. وقد فسرت ظواهر واسعة النطاق، على غرار المغناطيسية، والحرارة، والجاذبية، والكهرباء، من خلال نشاط «دوامة» شمسية عملاقة، خلفت آثارا كبيرة على الظواهر الأرضية من خلال قذف أشكال متعددة من المادة. شارك ديكارت جاليليو في مناهضته للمنهج الأرسطي (وشاركه أيضا تأييده وتأييد كبلر للمنهج الكوبرنيكي، وإن كان سرا)، ولكنه اتهم العالم الإيطالي بأنه «يبني دون أساس»، قائلا إن التفسيرات العلمية ينبغي أن تصاغ في إطار الأسس الميكانيكية المجهرية للطبيعة. وكما سنرى لاحقا، فقد كان ذلك هو العمل الأكثر تأثيرا بالنسبة لنيوتن الشاب، على الرغم من أنه سرعان ما صار موضع عداء ومناهضة شديدين من جانبه.
مبتدئ في عالم الرياضيات
كان تعليم نيوتن في البداية تعليم طالب جامعي عادي بكامبريدج، وكان مطالبا بقراءة قدر معتبر من الأدب اللاهوتي والأرسطي المقرر قراءته. وربما تكون محاضرات بارو في الرياضيات في ربيع عام 1664 هي ما أثارت اهتمامه بالرياضيات الجادة، ودون نيوتن فيما بعد أنه قد قرأ كتاب ويليام أوتريد «دليل الرياضيات» وكتاب ديكارت «الهندسة» تقريبا في الفترة التي بدأ فيها بارو نشاطه في إلقاء المحاضرات. وفي شتاء عام 1664-1665، درس الرياضيات التحليلية لديكارت عن كثب (والتعليقات الواردة في نسخته من كتاب «الهندسة» والتي كتبها عالم الرياضيات الهولندي فرانز فان شوتن)، وأعمال فرانسوا فييت في الجبر، و«طريقة الكليات» لجون واليس. وباستخدام ما نطلق عليه الهندسة التنسيقية الديكارتية، أتقن المعادلات التي عرفت القطوع المخروطية المتنوعة (الدوائر، والقطوع المكافئة، والقطوع الناقصة، والقطوع الزائدة). وعلى الرغم من أنه استهان في البداية بإنجاز إقليدس في كتابه «العناصر»، فقد احترم الإنجازات القديمة لإقليدس وأبولونيوس فيما بعد، متخذا منهجهما القالب المعياري للأعمال الرياضية.
شكل 3-1: نظرية الدوامات الديكارتية: النظام الشمسي، المحيط بالشمس (S) ، ويحده النقاط
FFFFGG . أما النظم الأخرى فتحوي نجوما في مركزها.
قرب نهاية عام 1664، اكتشف نيوتن كيفية قياس «التواء» أو درجة انحدار أي منحنى عند أية نقطة. وقد عرف ذلك باسم «إشكالية المماسات»، وطورت على يد علماء رياضيات أمثال جيمس جريجوري ورينيه فرانسوا دي سلوز. وسرعان ما بنى نيوتن على منهج صاغه ديكارت أمكن من خلاله تحديد الخط المتعامد على منحنى ما (أي الخط المتعامد على المماسات) عن طريق إيجاد نصف قطر ميل دائرة كبيرة عند نقطة تماسها مع المنحنى. فأخذ نيوتن «الخطوط المتعامدة» بين نقطتين قريبتين، مما سمح للمسافة بينهما بأن تصبح صغيرة اعتباطا. حينئذ استطاع أن يوجد خط التماس لأي نقطة من خلال معادلات «تعبر» عن أي قطع مخروطي، وكذلك الحد الأقصى والحد الأدنى للمعادلات ذات الصلة. وقام بتعميم الإجراء ليعبر عن العناصر الأساسية لما نطلق عليه التفاضل، والذي يمثل من خلاله ميل المماس معدل التغيير الذي يطرأ على منحنى ما عند أي نقطة.
مع بداية شتاء عام 1663-1664، كان نيوتن قد شرع في قراءة تحليل واليس للطرق التي يمكن من خلالها إيجاد المساحات أسفل أجزاء أي منحنى بتقسيم المساحة إلى أجزاء متناهية الصغر. وفي الوقت الذي نشر فيه واليس كتابه «حساب الكميات متناهية الصغر» في عام 1655، كان معروفا أنه للمعادلات الأساسية ، فإن المساحة أسفل المنحنى بين صفر والنقطة
Shafi da ba'a sani ba
هي . وقد عرف ذلك ب «التربيع»، وكان هذا هو الشكل البدائي لما نطلق عليه الآن التكامل. كانت هناك معادلات أكثر تعقيدا تطلبت أساليب مختلفة مثل استخدام المتسلسلة اللامتناهية، التي أتاحت التقريب لقيمة نهائية مع وصول متسلسلة من الحدود إلى حد معين. وقد طور واليس هذه الفكرة بتربيع القطع الزائد والقطع المكافئ، واكتشاف سلسلة من الحدود والتي تقترب من القيمة .
قرأ نيوتن أعمال واليس بعناية في شتاء 1664-1665، وقدم تقنيات بديلة لتحقيق نفس النتائج. وسرعان ما قام بتنقيح تقنية واليس من أجل التفكير في تربيعات المنحنيات في إطار القوى العشرية (بمعنى إدخال الجذر التربيعي والتكعيبي والجذور الأخرى). وتجاوز ما وصل إليه واليس بإيجاد المتسلسلة الصحيحة لتربيع الدائرة، ونتيجة لتوسيع نطاق الرؤى المكتسبة من هذا النجاح، توصل أخيرا لاكتشاف النظرية ذات الحدين المعممة (أي للقوى الصحيحة والعشرية) من أجل توسيع نطاق أي معادلة على الشكل ، والتي أعلن عنها للمرة الأولى في خطاب إلى لايبنتز في عام 1676.
في أوائل عام 1665، أدرك نيوتن بوجه عام أن تقنيات المماسات والتربيعات هي عمليات معكوسة، بمعنى أنه كان لديه النظرية الأساسية للتفاضل والتكامل. ومع أواخر عام 1665، وفيما قد يعد تقليدا لبارو، كان عادة ما يتعامل مع المنحنيات كنقاط تنقش خطوطا في فراغ افتراضي تحت ظروف معينة، وأشار إلى «السرعات» التي تتعرض لها النقاط في لحظات معينة من الوقت. وكان هذا هو ما أطلق عليه التفاضل والتكامل «المنساب»؛ لأن قيم النقاط على المنحنى «تنساب» من نقطة إلى التي تليها. وحينئذ صار بالإمكان التعامل مع المساحات أسفل المنحنيات ليس كمجرد مجموعات من الأجزاء متناهية الصغر، ولكن كمساحات تتشكل «حركيا» من خلال تقدير الفراغ الذي تمر عبره خطوط تربط نقطة متحركة بقيم مماثلة تقع أسفل النقطة المتواجدة على المحور السيني مباشرة. وقد رتب معظم هذا العمل العبقري منهجيا في مقال رائع صدر في أكتوبر من عام 1666، وكان عبارة عن أطروحة صنفته كأبرز عالم رياضيات في العالم.
التفاحة
تعد القصة المتداولة عن أن التفاحة التي سقطت على نيوتن كانت الحافز الذي دفعه للتفكير في المقارنة بين القوة التي تسببت في إسقاط التفاحة بتلك المطلوبة للحفاظ على القمر في مداره هي القصة الأشهر على الأرجح في تاريخ العلم. وسواء أكانت صحيحة أم لا، فإنه في الوقت الذي كان نيوتن يقوم فيه باكتشافاته الرياضية، كان عاكفا على توسيع نشاطه ليمتد إلى سلسلة استثنائية من الأبحاث في الميكانيكا جعلته أول من يوحد القوى الحاكمة للحركات على الأرض وفي السماء. وبحسب اعترافه، بدأ نيوتن صياغة رؤاه الجديدة باكتشاف القانون الذي يظل بموجبه جسم دوار في مداره. وسرعان ما صاغ سلسلة من قوانين الحركة، كان يتذكر (ويطور) الكثير منها حينما كان عاكفا على تأليف كتاب «المبادئ الرياضية» بعدها بعشرين عاما. وفي مفكرة بعنوان «المسودة»، كتب نيوتن في أوائل عام 1665 ما يزيد عن مائة حقيقة بديهية عن الحركة، شملت مفهوم القصور الذاتي الأساسي، فيما قام أيضا باستحضار تبرير ميتافيزيقي للاعتقاد الخاص بأن تأثيرات التصادمات لا بد أن تكون مساوية لسببها، وهي نسخة بدائية لقانون الحركة الثالث الذي ورد في كتابه «المبادئ الرياضية». وبالأخذ في الاعتبار كتلة الجسم وسرعته، أدى تحليل نيوتن الرائع إلى قانون ينص على بقاء قوة الحركة ، أو الزخم،
كما هي قبل وبعد التصادم.
بعد ذلك، راح نيوتن يبحث بنشاط وبراعة في مسار الجسم الذي يقذف من جوانب مربع مغلق، متخيلا أن إجمالي التصادمات الأربعة التي يمارسها كل جانب من جوانب المربع مماثل ومساو للقوة الإجمالية المطلوبة للحفاظ على جسم ما في مدار حول نقطة مركزية. وبناء على الافتراض القائل بإمكانية تكبير عدد الجوانب التي تحدث تصادما لما لا نهاية (بحيث يكون دائرة)، خلص نيوتن إلى أن القوة الإجمالية المطلوبة لإبقاء الجسم يتحرك في دائرة في دورة واحدة «تعادل بالنسبة لقوة حركة الأجسام نسبة كل تلك الجوانب [أي محيط الدائرة] لنصف قطر الدائرة». فإذا كانت «قوة حركة الأجسام» تساوي ، فإن إجمالي القوة الناتجة في دورة واحدة هي . وإذا كان الوقت المستغرق لدورة واحدة هو ، فإن حاصل قسمة القوة على الوقت، للتعبير عن «القوة المؤثرة على جسم دوار في لحظة معينة»، هو . وقد نشر كريستيان هويجنز هذه النتيجة التي تمثل نواة تطور الميكانيكا لأول مرة في عام 1673، على الرغم من أن نيوتن كان قد استخدمها بالفعل قبل ذلك بسنوات ليتخطى بذلك ما أنجزه هويجنز.
أدرك نيوتن آنذاك أنه استطاع معالجة مشكلة أثيرت أول ما أثيرت على يد جاليليو، وهي تحديدا النسبة بين القوة التي تحافظ على ثبات جسم ما على الأرض (الجاذبية) و«القوة الطاردة المركزية»، أي ميل نفس الجسم للانطلاق في الفراغ بفعل دوران الأرض. وقد اشتق نيوتن الرمز
للتعبير عن القوة الأولى، أي العجلة الناتجة عن الجاذبية. أما بالنسبة للثانية، فقد قرر أن القوة الطاردة المركزية من شأنها دفع الجسم في دورة واحدة للأرض عبر المسافة ، ومن خلال تحديد قيمة لحجم الأرض، خلص إلى أن قوة الجاذبية أقوى من القوة الطاردة المركزية بمقدار 350 مرة (إذ إن من شأن الجاذبية أن تدفع جسما ما للنزول لمسافة 16 قدما في ثانية واحدة، فيما تجعله القوة الطاردة المركزية يتحرك لمسافة نصف بوصة فقط).
وبفعل تأثر نيوتن بمشهد سقوط التفاحة على الأرجح، عقد في أواخر ستينيات القرن السابع عشر مقارنة بين ميل القمر إلى الابتعاد عن الأرض وبين قوة الجاذبية عند سطح الأرض، وهي إشكالية أشار إليها جاليليو. وباستخدام رقم للتعبير عن حجم الأرض جعل القمر بعيدا عن الأرض بحوالي 60 قطر دائرة أرضية (أي المسافة من مركز الأرض إلى خط الاستواء)، استنتج أن ميل جسم ما للابتعاد عن خط استواء الأرض (قوتها الطاردة المركزية) يفوق ميل القمر للابتعاد عن الأرض بقرابة 12 مرة ونصف. فإذا كان استقرار مدار القمر يتطلب أن تقوم القوة الطاردة المركزية بموازنة الجذب الموجه مركزيا الذي تولده الأرض، فإن القوة الطاردة المركزية للقمر تساوي قوة جاذبية الأرض عند سطحها بمقدار 350 × 12,5 (= 4325) مرة.
Shafi da ba'a sani ba
وفي نفس المخطوطة التي أجرى فيها هذه العملية الحسابية، اشتق نيوتن قانون التربيع العكسي للمسافات
للقوة المؤثرة على جسم دوار بدمج قانونه الخاص لقوة الجسم الدوار في قانون كبلر الثالث. وتذكر نيوتن فيما بعد أن الرقم الذي استخدمه للقوة التي تحفظ القمر في مداره (4325) قد «توافق بشكل شبه تقريبي» مع ذلك الرقم الناتج، بالأخذ في الحسبان مربع المسافة بين القمر والأرض (60
2 = 3600) المطلوب لقانون التربيع العكسي. وعند هذه النقطة، أعزى نيوتن الاختلاف بين هذه النتائج لتأثيرات دوامة أرضية؛ وفيما بعد أدرك أن الاختلاف ناتج عن قياس خاطئ لحجم الأرض، وكذلك رأى في هذا الجهد الخرافي دليلا على أسبقيته في ابتكار قانون للجاذبية الكونية. غير أن هذا الجهد قدر ما كان مدهشا، فقد افتقد العديد من عناصر نظريته العظيمة.
أسئلة فلسفية
لم تستنفد هذه الاهتمامات غزارة نيوتن العلمية بأي حال، وفي مفكرة أخرى دون مجموعة من الملاحظات من نصوص أرسطية ومن تعليقات عليها. وقد غطت هذه الملاحظات موضوعات في المنهج الدراسي العام الذي يدرسه أي طالب بجامعة أوروبية، مثل علم الأخلاق، والمنطق، والبلاغة، والفلسفة الطبيعية. وفي مرحلة ما، على الأرجح في أواخر عام 1664، توقف عن أخذ مقتطفات من الكتب الدراسية الأرسطية وأدرج مجموعة من الملاحظات والاستفسارات الفلسفية تحت عنوان «أسئلة فلسفية محددة». وفوق العنوان دون عبارة شائعة تعني في الإنجليزية «أفلاطون صديقي، وأرسطو صديقي، لكن الحقيقة صديق أعظم».
وضعت الفقرات الأولى في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» تحت عناوين تتعلق بطبيعة المادة، والسبب وراء «تماسك» بعض الأجسام متناهية الصغر معا لتكون أجساما أكبر، وطبيعة الحرارة والبرودة، وأسباب سقوط بعض الأجسام وارتفاع بعضها. وقد قدم انتقادات قوية للنظريات التقليدية، وبالفعل صارت الموضوعات العامة التي علق عليها محور اهتمامه لبقية حياته. وكان للفقرات الأولى نكهة ميتافيزيقية اختلفت تماما عن المنهج التجريبي الذي تبناه بعد ذلك بفترة وجيزة. ففيما يتعلق بطبيعة المادة - على سبيل المثال - اتبع منهج هنري مور في كتابه «خلود الروح» (1659)، وأشار إلى أن الذرات هي أحجار الزاوية الأساسية للعالم المادي لا محالة. وعلى عكس «النقاط الرياضية»، لا يمكن تقسيم المادة إلى أجزاء لا متناهية، إذ إن مجموعة من الأجزاء متناهية الصغر، مهما كانت صغيرة، لا يمكن أن تشكل جسما متناهيا. وفيما يتعلق بالتماسك، عول نيوتن على الافتراض الديكارتي بأن «دوامة» شمسية أطلقت مادة مخلخلة شكلت الغلاف الجوي؛ وهذا بدوره «ضغط» على الأرض مسببا «احتشادا قويا لكل المادة الموجودة في العالم».
ظل نيوتن ملتزما بنموذج الدوامة الديكارتي حتى بدايات ثمانينيات القرن السابع عشر. وأطلق على أدق أجزاء الدوامة مصطلح «المادة الأثيرية»، وإن كان قد استخدم فيما بعد كلمة «أثير» لتمييز ذلك الوسط المتغلغل غير القابل للاكتشاف عن «الهواء» الأكثر غلظة. وتساءل ما إذا كان اهتياج الدوامة قد أدى إلى تسخين الأجسام، وتساءل أيضا ما إذا كانت السخونة قد نتجت عن هواء نقل عن طريق الضوء، أم نتج عن الضوء ذاته مباشرة. كذلك، طرح السؤال الخاص بما إذا كان بالإمكان تجميد الماء بإزالة حرارته داخل مضخة بويل الهوائية (التي كانت تفرغ الهواء أو تضغطه داخل غرفة زجاجية). أما بالنسبة لحركة المادة إلى أسفل التي تسبب الجاذبية، فلا بد أن ترتفع مرة أخرى في شكل مختلف لأن (أ) بدون حدوث ذلك كانت تجاويف الأرض الواقعة تحت سطحها لتتضخم وتنتفخ. (ب) المادة المرتفعة لأعلى كانت لتلغي المادة الهابطة لأسفل، ولما كان هناك جاذبية. وذهب أيضا إلى أن المادة الصاعدة لا بد أن تكون «أكثر كثافة » من المادة الهابطة، وإلا ضغطت على أجزاء (داخلية) «أكثر» من الأجسام الكبيرة، مما يحدث قوة صاعدة أكثر تأثيرا من القوة الهابطة. ولم يخمد ذلك الاهتمام بفكرة الكون الدوري مطلقا، ويمكن رؤية أهميتها في أعماله الخيميائية والعلمية اللاحقة.
حتى الظواهر السماوية أمكن بحثها من خلال التجربة. فقد أعقب ملاحظات من كتاب «مبادئ الفلسفة» لديكارت عن طبيعة المذنبات مباشرة ملاحظات نيوتن الخاصة عن مذنب ديسمبر 1664، وهو حدث استهلك من وقته وطاقته ما تركه في حالة من «الاختلال»، حسبما ذكر فيما بعد. لاحظ نيوتن أن المذنب قد تحرك شمالا «عكس اتجاه تيار الدوامة»، واقترح تجارب رائعة لاختبار الآثار المحتملة للدوامة القمرية. هل تسبب تأثير القمر في حدوث تيارات المد والجزر؟ أشار في البداية إلى أن الإجابة هي لا، لأنها تكون أقل ما يكون عند مولد القمر، ولكن هذا لم يحدث. على الرغم من ذلك، قد يكون من الممكن إحضار أنبوب من الزئبق أو الماء، ونرى ما إذا كان ارتفاع السائل في الأنبوب قد تأثر بالجوانب المتعددة للقمر.
في كل مرحلة كان نيوتن يقترح تجارب لحسم أسئلة فلسفية محورية. ولم يأت طالب جامعي آخر بمثل ما أتى به نيوتن في هذا الصدد. فقد قدم سلسلة من الاختبارات لتحديد جاذبية مختلف العناصر، وكذلك للتثبت مما إذا كان وزن الأجسام قد تأثر بالتسخين أو التبريد، أو بنقلها إلى أماكن أو ارتفاعات مختلفة. وعلى نحو ساحر - وفي إطار نظريته عن الجاذبية - تساءل أيضا عما إذا كان بالإمكان عكس أو كسر «أشعة» الجاذبية مثل أشعة الضوء. فإذا أمكن جعل بعض من أشعة الجاذبية تصطدم بعجلة أفقية ذات أضلاع مزواة على درجة معينة لجعلها تدور مثل طاحونة هوائية، أو إذا سمح لها فقط بالاحتكاك بأحد نصفي عجلة رأسية لجعلها تدور، فقد يكون هناك حركة مستديمة. بالمثل، طرح نيوتن سلسلة من التساؤلات في موضع آخر في المفكرة لاشتقاق نشاط مستديم من الأشعة المغناطيسية. هل يستطيع مغناطيس، ربما من خلال نقل هذه الأشعة، أن يحدث دورات في قطعة حديد ملتهبة على شكل أشرعة هوائية كأشرعة الطاحونة الهوائية؟ ولاختبار هذه الأفكار على الأرجح، اشترى نيوتن مغناطيسا ذا جودة عالية في عام 1667، وبعد ذلك بفترة قصيرة أجرى سلسلة من التجارب المبتكرة بواسطة برادة الحديد المغناطيسية.
ومرة أخرى أثيرت لديه أسئلة حول طبيعة الهواء والماء من خلال قراءاته لكتاب ديكارت «مبادئ الفلسفة»، واستهلك ما كتبه ديكارت عن البنى المجهرية للأجسام الصلبة واللينة قدرا كبيرا من طاقته وجهده. واقترح نيوتن هنا، وفى موضع آخر، استخدام مضخة بويل الهوائية لحسم تخمينات نظرية عويصة، كان الكثير منها يتعلق بالأثير. فانكسار الضوء - على سبيل المثال - حدث في مضخة هوائية مفرغة، حتى أصبح لزاما أن يحدث عن طريق «نفس المادة الرقيقة في الهواء وفي الفراغ». ولكن هل كان مدى الانكسار واحدا في مختلف أنواع الزجاج؟ لم يفكر بويل في ذلك، ولكن نيوتن فعل، وبالفعل كان هناك مضخة هوائية متاحة له في كلية كرايست.
Shafi da ba'a sani ba
شكل 3-2: فكرتان لماكينات ذات حركة مستديمة تعمل عن طريق موجات الجاذبية من مفكرة نيوتن «الأسئلة الفلسفية» بكلية ترينيتي.
عن العقل والجسد
تتعلق الكثير من الفقرات في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» بطبيعة الروح وموقعها بالتحديد، والأدوار التي لعبها كل من العقل الداخلي الذاتي والأجسام الخارجية في التجربة. وكان نيوتن منبهرا منذ البداية بما نطلق عليه إشكالية العقل والجسد، وأيضا بحقيقة أن الناس على اختلافهم لهم ردود أفعال متباينة تجاه نفس القضية. وتحت عنوان «عن التجانس أو النفور» كتب يقول:
إن ما يبدو مذاقه حلوا في فم شخص قد يكون مرا في فم شخص آخر. ونفس الأشياء التي تبعث رائحة محببة لشخص قد تبعث رائحة منفرة لآخر ... والمشاهد التي لا تحرك البعض تذهل البعض الآخر، والألحان الموسيقية لا يسمعها الجميع بنفس البهجة. والأمر نفسه ينطبق على اللمس.
وفي قسم آخر بعنوان «عن الإحساس» (في ملاحظات مأخوذة من كتاب مور «خلود الروح»)، علق قائلا إن «مذاق الفلفل الحار لأهل جاوة بارد».
وفي نفس سلسلة الملاحظات، علق نيوتن أيضا على المواقع المختلفة من المخ والتي استند إليها الفلاسفة باعتبارها موضع الروح . وقد سجل ظواهر عديدة تثبت أن المخ يمكن أن يلحق به ضرر بالغ دون أن يؤثر ذلك على الإحساس. إن الضفدع يسلب منه «الإحساس والحركة» لو أن مخه قد تعرض للثقب، ولكن الإنسان يحتفظ بقدرته على استخدام حواسه ما لم يصل الثقب إلى الأوعية الدموية الرئيسية. ولا يستطيع الإنسان - حسبما يبدو - أن يرى من خلال الثقب الذي يحدثه منشار جماجم (أو مثقاب) في رأسه، ولكن «أقل ثقل على مخ الإنسان حين يكون مثقوبا يجعله مجردا تماما من الإحساس والحركة».
كان أحد العناصر الأساسية لبرنامج أبحاثه المبكر يتعلق بطبيعة حرية الإرادة، والإشكالية المرتبطة بها والخاصة بكيفية ارتباط الروح ببقية الجسد. فبعض الحركات الجسدية لا إرادية. وتحت عنوان «عن الحركة»، دون نيوتن أن الكثير من الحركات البشرية ميكانيكية على نحو بحت: فالموسيقيون يستطيعون العزف دون تفكير، والمطربون يغنون «دون إلقاء بال لأي نغمة أو إغفالها»، والناس يسيرون دون إدراك منهم لكيفية فعل ذلك. وكان التقيؤ الذي يستحث عن طريق دفع عظمة فك الحوت في حلق المرء مثالا آخر للحركة الميكانيكية البحتة، وقد أثبت ذلك بوضوح أن حركات الحيوانات «ميكانيكية ومستقلة عن الروح».
على الرغم من ذلك، فقد تضمن وصف نيوتن للروح تفنيدا عنيفا لأي تفسير ميكانيكي بحت لسلوكياتها. فشأنه شأن معظم معاصريه، لم يشأ نيوتن أن يوصم بالسمعة الإلحادية التي تلاحق الفلاسفة الميكانيكيين أمثال ديكارت وتوماس هوبز. وفي ظل ارتباط ملكة الروح بالهوية الشخصية، جاءت الذاكرة لتقدم دليلا مهما ذا صلة بمنابع سلوكيات الإنسان. إن تلقي الرأس ضربات يمكن أن يؤدي بالذاكرة للتلاشي التام، فيما يمكن إعادة تنشيطها عن طريق أحداث مماثلة تحدث بعد ذلك بوقت طويل. وفي فقرة بعنوان «عن الروح»، ذهب نيوتن إلى أن الذاكرة تتألف مما هو أكثر من حركة «المادة المعدلة»، وأنه لا بد أن بداخلنا «أساسا» يمكننا من استدعاء شيء ما للذهن بمجرد توقف الحدث الأصلي. وتلك الرؤية كانت واحدة من النقاط الحيوية لفلسفة نيوتن الطبيعية فيما بعد.
وفي مقال استثنائي قصير آخر بعنوان «عن الخلق»، ناقش نيوتن «أرواح» الحيوانات التي كان معظم فلاسفة عصره يعتقدون أنها ذات طبيعة منفصلة تماما عن طبيعة أرواح البشر. وقد أشار نيوتن إلى وجود نوع من «الروح اللاعقلانية» البدائية التي حين اتصلت بأنواع مختلفة من أجسام الحيوانات، تسببت في وجود الحيوانات الضارية المتنوعة الموجودة الآن. وبطريقة الاختزال (نظرا للطبيعة الجريئة لحجته)، أشار نيوتن إلى أن القول بأن الله في الأصل قد خلق أرواحا معينة لفصائل معينة هو تأكيد لفكرة أنه (الله) قد بذل جهدا أكثر مما كان يحتاج. فالاختلافات والفوارق بين الفصائل نبعت من فطراتها، التي اعتمدت على تكوين أجسامها. وعلى نحو أكثر تطرفا، ذهب نيوتن إلى أن الأرواح البشرية كانت متشابهة في الأساس، وأن الاختلافات بين البشر نبعت فقط من فوارق في تكوينهم الجسماني. وفي فقرة أخرى مستقلة ومقتضبة عن الله، أشار إلى أنه ليس من الممكن أن يكون البشر ولا الحيوانات نتاج «اختلاطات وليدة الصدفة بين الذرات». فبذلك كان هناك العديد من الأجزاء غير النافعة، «فتجد هنا قطعة لحم، وتجد هناك عددا مفرطا من عضو ما، وربما كان لبعض الحيوانات عين واحدة فقط، وللبعض الآخر أكثر من عينين».
بدأت المحاولة الأكثر روعة للتمييز بين أعمال الروح والجسد بسلسلة من الملاحظات عن طبيعة «الخيال» والإبداع. فالخيال هو ملكة للروح أنتجت خيالات وصورا كتلك الموجودة في الأحلام والذاكرة. وذهب نيوتن إلى أن الخيال يتقد في أذهاننا عندما نرى الأشياء ونحن «في حالة من الانتباه الشديد»، وذلك في بيئة يتوافر فيها «الهواء الطيب، والإمساك عن تناول الطعام، والاعتدال في الشراب». غير أنه يتهدم ب «السكر، والنهم، وكثرة الدراسة (فمن تلك الأمور ومن الشغف المفرط يأتي الجنون)، واضطرابات الروح». وحذر نيوتن من أن «التأمل» يثير المخ لدى البعض لدرجة تقودهم إلى «التشتت»، فيما يؤدي لدى البعض الآخر إلى «ألم ودوار». ومن الممكن تدريب المخ على التخيل للقيام بأشياء جديدة، وأشار نيوتن إلى قصة مشهورة من كتاب جوزيف جلانفيل «غرور الدوجماتية» (1661) لطالب بأكسفورد تعلم التحكم في العقل من الغجر «بتنمية وتقوية خياله».
Shafi da ba'a sani ba
بعد الفقرة التي كتبها عن طالب أكسفورد ببعض الوقت، ولكن في موضع لاحق لها مباشرة داخل النص، سجل نيوتن سلسلة من تجاربه الخاصة على الخيال والرؤية. ففي مرحلة ما في عام 1665، أجرى نيوتن سلسلة من التجارب الخطيرة على بصره تضمنت التحديق في الشمس لفترة زمنية ممتدة. ودونت هذه التجارب كتجارب شخصية، ولكن وصفه المفصل لسلسلة من التجارب كان يحوي إشارة تدل على وجود انفصال موضوعي عنها. فبعد أن حدق في الشمس لبعض الوقت بعين واحدة، لاحظ أن جميع الأجسام ذات الألوان الفاتحة بدت له حمراء اللون، بينما الأجسام الداكنة بدت مائلة إلى الزرقة. ومن النظرة الأولى بدت الورقة البيضاء حمراء حين نظر إليها بالعين المصابة، ولكن نفس الورقة بدت خضراء «إذا نظرت إليها عبر ثقب صغير للغاية بحيث لا يصل لعيني سوى شعاع ضوء بسيط».
لم تنته التجربة بأي حال، إذ إنه عندما خمدت حركة «الأرواح» في عينيه (حسبما كان يعتقد)، استطاع أن يخلق صورة تلوية أو طيفا للشمس بإغلاق عينه. وهناك ظهرت بقعة زرقاء اللون صارت أفتح في المنتصف، وأحيطت تدريجيا بدوائر متحدة المركز، ألونها الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي. ومن خلال تنويع التجربة تحت ظروف مختلفة، لاحظ أن البقعة تتحول إلى الأحمر في بعض الأحيان. وعندما كان يفتح عينه مرة أخرى، كان يرى ألوانا بالضبط كما حدث بعد التجربة الأولى. فخلص إلى أن الشمس وخياله يتبعان نفس الأسلوب في التأثير على الأرواح الكامنة في عصبه البصري والمخ. ونظر بالخارج إلى سحابة وشاهد نفس الآثار المائلة للحمرة («والتي تميل أكثر للسواد في معظمها») مثلما حدث عندما حدق في الورقة البيضاء، وبعد فترة استطاع أن يجعل بقعة «تتألق وسط الأحمر القاتم» حين نظر إلى سحابة كانت براقة لدرجة أدمعت عينيه.
إن حقيقة أن هذه التجربة لم تكن سوى بداية لسلسلة من مثل هذه التجارب تبوح بالكثير عن إخلاص نيوتن الشديد لمهمته على نحو فريد من نوعه. فبعد أن منح عينه قدرا من الراحة، انتظر حتى ساعة بعد الغسق «وكرر التجربة السابقة كاملة ». وفي تلك المرة، حين نظر بعينه السليمة إلى أجسام بيضاء مثل ورقة أو سحب، استطاع أن يرى صورة للشمس على خلفيتها، وكانت الصورة محاطة ب «بحمرة قاتمة وسواد». ووجد شبه استحالة في تجنب رؤية صورة للشمس، ما لم يحاول جاهدا لتركيز خياله على مهام أخرى. وحين كانت صورة الشمس محتملة بالكاد في أي من العينين، استطاع أن يتخيل أشكالا عديدة في الموضع الذي كانت فيه الشمس، «وربما كانت تتجمع معا لدرجة تجعل أضعف الناس بصرا يجزم بأن أوضح خيالات الأشياء مرئية وظاهرة». وأضاف: «ومن هنا، قد يجتمع شيء من طبيعة الجنون والأحلام معا». وكانت تلك هي القوة الثابتة لهذه التجارب، حتى إن نيوتن سردها تفصيلا لجون لوك في عام 1691، وسردها مرة أخرى لجون كوندويت في عام 1726، مخبرا إياه أنه لا يزال بإمكانه استدعاء صورة للشمس إذا ركز تفكيره عليها.
نظرية جديدة عن الضوء والألوان
بعد فترة من الفقرة المبدئية التي كتبها عن الألوان، سجل نيوتن مجموعة من التجارب بالموشورات الزجاجية على صفحة جديدة بنفس العنوان. من خلال هذه التجارب، لم يفند نيوتن النظرية الأرسطية عن الضوء والألوان فحسب، بل تحدى أيضا المعالجات الموجودة لهذا الموضوع في أعمال ديكارت وبويل وهوك الحديثة. وليس بالإمكان تحديد التاريخ الذي عكف فيه نيوتن على هذه الأبحاث بوضوح، ولكن في تقارير لاحقة، ركز دافعه المبدئي لأبحاثه في جهوده التي بذلها لاستنساخ تقرير ديكارت عن تجاربه التي أجراها بموشور زجاجي في مقاله «الانكسار». في هذا العمل، ذهب ديكارت إلى أن الألوان التي تنتج عن طريق انتقال الضوء عبر موشور لتنعكس على حائط على بعد 50 سنتيمترا عن الموشور تفسر العمليات الداخلة في تكوين قوس قزح. وفي مرحلة ما، اقتنى نيوتن موشورا من أجل استنساخ «ظاهرة الألوان الشهيرة» تلك، ولكن الفقرات التجريبية الأولى التي كتبها في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» تشير إلى استعانته بأداتين.
كان التعليق الأول في القسم الجديد عن الألوان عبارة عن اقتراح باختبار ما إذا كان مزيج من اللون الأزرق والأحمر الموشوري يؤدي إلى تكوين اللون الأبيض . وكان نيوتن قد انتقد بالفعل النظريات القديمة التي تعتبر أن أي لون هو عبارة عن مزيج من الأسود والأبيض، أو تلك التي تفترض أن الألوان قد نشأت عن طريق امتزاج الظلال بالضوء. وفي موضع آخر بالمفكرة، تعرض نيوتن بالنقد أيضا لفكرة أن الضوء ينتج عن الضغط. فهذا خطأ لا محالة، لأن ضغط الدوامة الذي يثقلنا كان ليجعلنا نرى ضوءا ساطعا طوال الوقت، فيما يكون المرء قادرا على الرؤية في الظلام من خلال مجرد الركض فقط. وأخيرا، هاجم نيوتن النظريات الموجية للضوء على أساس أن الضوء ينتقل في خطوط مستقيمة، بينما الموجات أو «النبضات» التي تنتقل عبر وسط أثيري ليست كذلك. وفي مرحلة مبكرة، أصبح مقتنعا بفكرة أن الضوء يتألف من جسيمات أو كريات، وهو افتراض تعارض مباشرة مع فكرة «النبضات» الموضحة في كتاب روبرت هوك «ميكروجرافيا» الذي كان قد نشر مؤخرا آنذاك.
ورد وصف الملاحظة الرئيسية في ثالث مجموعة من التجارب، اختبر فيها نيوتن خيطا - لون نصفه باللون الأزرق والآخر باللون الأحمر - من خلال موشور. وأشار إلى أن أحد النصفين «يظهر أعلى من الآخر، وكلاهما لا يسير في خط واحد مستقيم، بسبب عدم تساوي الانكسارات في اللونين المختلفين». وقد فسر هذه القابلية المتفاوتة للانكسار في إطار السرعة الأساسية «لجسيمات» الضوء، مفترضا أن الأشعة ذات الحركة الأبطأ تنكسر على نحو مختلف عن الأشعة الأكثر سرعة، وأن الأشعة الزرقاء والبنفسجية شكلت الأشعة الأبطأ. واستنتج أن الأجسام تبدو حمراء أو صفراء كلما كان هناك امتصاص للأشعة الأبطأ، فيما ترى زرقاء وخضراء وبنفسجية حينما لا يكون هناك انعكاس للأشعة الأسرع. وكان هذا هو أساس وصفه اللاحق الأكثر تعقيدا لكيفية نشأة الألوان في الأجسام الطبيعية في إطار نزعتها «لإظهار» أنواع معينة من الأشعة. وباعتبارها جسيمات بطيئة أو سريعة الحركة، فقد كانت الأشعة الملونة سمات ثابتة للضوء العادي - الذي كان عبارة عن مزيج معقد منها - وكان الانكسار الموشوري «يظهر» الأشعة الفردية ولكن لا «ينتجها». وتعارض ذلك مع المفهوم المتفق عليه عموما بأن الألوان الموشورية قد نشأت من خلال «تعديلات» أحدثها الانكسار، وكان بمنزلة تهديد لكل من التفسيرات الأرسطية والتفسيرات الميكانيكية القياسية للضوء والألوان.
كذلك لم تنفصل أعمال نيوتن في هذه المرحلة عن فهمه للطريقة التي تساهم بها العين في تجربة الألوان، وبدأ في إجراء سلسلة من التجارب البصرية تساوت مع تجارب التحديق في الشمس في درجة الإضرار بالعين. فقد شوه عينه عن طريق الضغط العنيف عليها من أحد جانبيها، محدثا عددا من «الخيالات»، ثم أشار إلى أنه قد رأى «صورا وخيالات تشع حيوية» عن طريق «وضع شريحة من النحاس بين عيني وبين العظمة في موضع أقرب لمنتصف غلالة الشبكية مما أستطيع أن أضع إصبعي». وكرر نيوتن هذا الفعل في عدد من المناسبات، مجربا إياه في الظلام، وأيضا بدرجات مختلفة من الضغط. ولا داعي لذكر أن لا أحد آخر في تلك الفترة أتى بشيء مشابه لذلك من قريب أو بعيد.
قياس الانكسارات
واصل نيوتن تجاربه البصرية فيما يسمى مفكرته «الكيميائية»، التي أدرج فيها مقالا آخر بعنوان «عن الألوان». كان ذلك مشروعا مختلفا على نحو جذري، إذ بدأ ببيان لفحص أجري على خيط ذي لونين عبر موشور، ولكنه ضم بعد ذلك سلسلة من التجارب المبتكرة للغاية على الانعكاس والانكسار. وفيما كان معاصروه (الذين لم يعرفوا بإمكانية تفاوت القابلية للانكسار) قد أسقطوا أشعة منكسرة على بعد متر أو نحو ذلك على أقصى تقدير، أوضح نيوتن أن الأشعة الملونة المختلفة تختلف في معاملات انكسارها عن طريق إسقاط أشعة منكسرة على حائط على بعد 7 أمتار (22 قدما و4 بوصات). ففي غرفة مظلمة، سمح لضوء الشمس بالدخول عبر فتحة صغيرة للغاية وسط الستائر، ليجد أن الأشعة عندما انكسرت عبر موشور مثلث الشكل، كونت شكلا مستطيلا وليس دائريا على الحائط. وكما أشار من قبل، فقد انكسرت الأشعة الزرقاء أكثر من الحمراء، وإن كان قد حرص أيضا على الإشارة إلى أن الحمرة والزرقة لم تكونا صفتين أساسيتين للأشعة، ولكنهما كانتا الشكل الذي بدت به الأشعة للعين. وبقياسات فائقة الدقة، قرر أن الأشعة مختلفة الألوان التي تنبثق من الموشور لها درجات الانكسار الخاصة بها، وهي حقيقة لم يكن أحد قد لاحظها حتى ذلك الحين.
Shafi da ba'a sani ba
في وقت لاحق خلال هذه السلسلة من التجارب، وصف نيوتن إجراء أكثر تعقيدا، تعرضت من خلاله الأشعة المنبثقة من الموشور لمزيد من الانكسار عبر موشور ثان. وتعرضت كل أشعة من الأشعة الزرقاء والحمراء لنفس درجة الانكسار التي تعرضت لها عند تمريرها من الموشور الأول، ولاحظ نيوتن أن الأشعة الملونة الفردية لم تتحول إلى ألوان أخرى عند كسرها عبر الموشور الثاني. وعندما أدخل موشورا ثالثا ووضع جميع الموشورات في وضع متواز، سمح للأشعة المنبثقة من جميع الموشورات بالتداخل معا؛ وكما أشار «أينما تمتزج الأشعة الحمراء والصفراء والخضراء والزرقاء والبنفسجية المنبعثة من الموشورات العديدة معا، فإنها تظهر بيضاء». ومن خلال هذه التجارب صار لديه السمات الأساسية لما صار بعد ذلك نظريته الناضجة عن الضوء والألوان. فذهب إلى أن الضوء الأبيض لم يكن كيانا أساسيا أدى لظهور الألوان من خلال «تعديله»، ولكنه تألف من عدد (لم يكن نيوتن قد حدده في هذه المرحلة) من الأشعة الأولية المختلفة، «لكل منها معدل انكسار ثابت خاص به»، متجاهلا بذلك ما ذكره عن الجسيمات.
ثمة ملاحظة مهمة أخرى تمثلت في تحليله للأفلام الرقيقة الملونة، تلك الظاهرة التي كان هوك أول من لاحظها. فمن خلال فحص قطعة مسطحة من الزجاج عبر عدسة وضعت في أقرب موضع ممكن لقطعة الزجاج، تستطيع أن ترى حلقات متحدة المركز ذات ألوان مختلفة. وعن طريق حساب نصف قطر انحناء العدسة، وصل نيوتن إلى حد قياس طبقة الهواء الرقيقة الموجودة بين الحلقات متحدة المركز وبين الشريحة، والتي قدرها بقرابة مائة ألف جزء من البوصة. وقد وضع هذا التحليل في زهاء عام 1670 أو 1671، متوصلا إلى نتائج ظهرت لأول مرة في عمله «حوار حول الملاحظات» الذي أرسل إلى الجمعية الملكية في نهاية عام 1675، ثم بعد ذلك في كتابه «البصريات» الصادر عام 1704. وكان اكتشافه الأساسي هو أن سمك طبقة الهواء الرقيقة عند أي نقطة يتناسب مع مربع قطر كل دائرة أو حلقة. إضافة إلى هذا، فقد شكلت الصعوبة التي واجهها وآخرون في محاولة إحداث احتكاك بين قطعتي الزجاج فيما بعد دليلا رئيسيا على وجود قوى منفرة قصيرة المدى.
أظهر المقال الثاني من مقالات «عن الألوان» على نحو حيوي أيضا أن تجارب العين ظلت جزءا أساسيا من مشروعه. فبعد الاستغناء عن الشريحة النحاسية كأداة فعالة، اقتنى «مخرزا»، وهو أداة حياكة تستخدم لعمل فتحات في القماش، ومرة أخرى غرزه داخل التجويف الذي يقع خلف عينه «في أقرب موضع ممكن لمؤخرة عيني». وكما حدث في السابق، ظهر عدد من الدوائر، وكانت على حد تعبيره «أوضح ما يكون عندما واصلت فرك عيني بسن المخرز، ولكن إذا ثبت عيني والمخرز، حتى وإن واصلت الضغط على عيني به»، كانت الدوائر «تخبو وتبهت، وغالبا ما تختفي إلى أن أقوم بتجديدها بتحريك عيني أو تحريك المخرز».
شكل 3-3: رسم نيوتن لما قام به من تشويه لعينه بواسطة مخرز.
1
صرح نيوتن فيما بعد أن اكتشافه للزيغ اللوني قد وضع نهاية لجهوده لتحسين عملية تجليخ العدسات من أجل التلسكوبات الكاسرة. وكان ديكارت قد أشار إلى أن وضع عدسة مجلخة في أي من قطاعين مخروطيين (قطع زائد أو قطع ناقص) سوف ينتج عنه الصورة الواضحة التي لا يمكن الحصول عليها عن طريق عدسة كروية (نظرا لقانون الانكسار). وقد قضى نيوتن نفسه ساعات عدة يحاول القيام بالشيء نفسه، وسجل نتائجه في «المسودة». ولكن الزيغ اللوني جعل مثل هذه المحاولات مكررة، إذ إن الألوان المختلفة تنكسر على نحو مختلف، ولا يمكن الاستعانة بها لتكوين صورة واضحة. ولو كانت التلسكوبات الكاسرة خارج نطاق الاختيار (على الرغم من أن نيوتن لم يتخل عن الفكرة تماما)، فلربما كان بإمكانه أن يصنع واحدا يستخدم مرآة؟ ففيما اكتفى معاصروه بمناقشة الإمكانية النظرية لصنع مثل هذه الأداة، انطلق نيوتن وصنع نسخة ناجحة، صانعا كل جانب من الجهاز بيديه. وكان المعدن المصنوع منه الجهاز يفقد بريقه بسهولة وكانت الصورة عديمة اللون، ولكنه حل مشكلة الزيغ اللوني وكان يكبر الأجسام كأي نظارة كاسرة جيدة. وكان ذلك إنجازا استثنائيا، وبسببه اكتسب نيوتن - مكررا ما فعله في جرانثام - شهرة في كامبريدج.
هوامش
الفصل الرابع
الجماهير المولعة بالنقد
كان المنحنى المهم الذي اتخذته حياة نيوتن بعد أن أصبح عضوا أساسيا بالكلية في عام 1668 ميسرا إلى حد كبير بفضل إسحاق بارو، الذي كان في ذلك الحين قد أدرك قدرات نيوتن. فقد وجه لنيوتن الشكر (وإن لم يكن بالاسم) على مساعدته له في مراجعة كتابه «المحاضرات الثماني عشرة» عن الظواهر البصرية في عام 1669، وحضر نيوتن بشكل شبه مؤكد محاضراته في علم البصريات الهندسية في عامي 1667 و1668. وكان بارو على الأرجح غير مدرك للطبيعة الجذرية لأعمال نيوتن في هذا المجال، ولكن بفضل دعمه، انتخب نيوتن كخليفة له في كرسي أستاذية الرياضيات في جامعة كامبريدج في سبتمبر عام 1669.
Shafi da ba'a sani ba
في أوائل عام 1669، أطلع بارو نيوتن على نسخة من كتاب نيكولاس ميركاتور «تقنية اللوغاريتمات»، الذي نشر في أواخر العام السابق. وفيه اكتشف ميركاتور طريقة لاشتقاق قيم للوغاريتمات باستخدام المتسلسلة اللامتناهية؛ وادعى نيوتن فيما بعد أنه عندما قرأ العمل، اعتقد (خطأ) أن ميركاتور قد اكتشف نظرية ذات الحدين المعممة لتوسيع متعددات الحدود عن طريق القوى الكسرية. وعلى أي حال، فقد كانت رؤية كتاب ميركاتور وإدراك أن ميركاتور قد بدأ في «تربيع» الحدود لإنتاج متسلسلة لامتناهية دافعا له لتأليف عمل رياضي فذ ورائع، يعرف الآن باسم «عن التحليل بواسطة المتسلسلة اللامتناهية» (أو «التحليل»). ولم يذكر نيوتن نظرية ذات الحدين في هذا العمل، ولكنه من بين أشياء ثمينة أخرى عرض عددا من المتسلسلات اللامتناهية المقربة لقيم جيب الزاوية وجيب التمام، إلى جانب تقنيات دمج المنحنى الدويري ومنحنى كوادراتركس، وأعلن أن طرق المماسات والتربيعات كانت تقنيات معكوسة، واستقى من أطروحته الصادرة عام 1666 ليقدم أساسا متينا لطريقة الفروق المستمرة الخاصة به. واستقى من عمله «عن التحليل» في خطابين رياضيين مهمين كتبهما للايبنتز في عام 1676.
نقل بارو هذا العمل إلى عالم الرياضيات جون كولينز الذي ولد وعاش في لندن، في نهاية يوليو عام 1669، مفصحا عن هوية نيوتن كمؤلف للعمل بعد ذلك بشهر. كانت المتسلسلة اللامتناهية رائجة للغاية، وعن طريق كولينز، وإنجازات نيوتن، وكذلك النص الفعلي، لفتت انتباه علماء الرياضيات الآخرين. والواقع أن نيوتن قد التقى كولينز في لندن في نوفمبر، حيث ناقشا معا تلسكوبه العاكس، وتوسعات المتسلسلة، والنسب التوافقية، وحقيقة أن نيوتن قد قام بتجليخ عدساته. غير أن كولينز لاحظ أنه كان راغبا عن الإفصاح عن الطريقة العامة التي تشكل أساس عمله. وفي ذلك الوقت طلب بارو من نيوتن التعليق على كتاب «الجبر» لجيرارد كينكويسين، الذي كان كولينز قد ترجمه مؤخرا. ولم تنشر ملاحظات نيوتن الشاملة قط، ولكنه على أي حال أظهر ما رآه كولينز عزوفا غريبا عن ربط اسمه بالعمل. وأوضح لكولينز في سبتمبر عام 1671 أنه أراد لعمله أن يظهر بلا اسم - إن ظهر من الأساس - ولم تكن لديه رغبة «في أن يحظى بالتقدير كشخص طموح وسط الناس لمجرد طباعة كلامه غير المكتوب بعناية». وكان هذا التوجه هو الحاكم لعلاقاته مع الجماهير المحتملة لأعماله على مدار العقود الثلاثة التالية.
كانت محاضرات نيوتن في علم البصريات الهندسية مختلفة اختلافا جذريا عن تلك التي ألقاها سابقه. فقد وظف مجموعة من التجارب، والموشورات، والعدسات لإثبات نظريته عن تغايرية الضوء الأبيض، ووضع تركيزا كبيرا على الدقة الرياضية واليقينية التي اتسم بها عمله، مجادلا بأن الفلاسفة الطبيعيين عليهم أن يتخصصوا في الهندسة ولا بد أن يكفوا عن التعامل مع المعرفة التي لا تتجاوز حد «الترجيح». وكان هذا هو أول تصريح علني لنيوتن بأن الفلسفة الطبيعية تستطيع بلوغ مستوى مطلق من اليقين ولا بد أن تقوم على المبادئ الرياضية.
في هذه المرحلة، كان بإمكان نيوتن أن ينشر أعمالا من شأنها أن تميزه كواحد من أكثر العلماء إنتاجا وغزارة، وبالتأكيد كأروع وأذكى عالم رياضيات رآه العالم. أمضى كولينز بعض الوقت في حثه على نشر كل من «عن التحليل» ونسخة من محاضراته في البصريات، وبذل نيوتن جهدا كبيرا في تنقيحهما، موسعا نطاق «عن التحليل» (في أوائل عام 1671) ليصبح أطروحة حول طريقتي المتسلسلة اللامتناهية والفروق المستمرة . كذلك أعاد كتابة محاضراته في البصريات في النصف الثاني من عام 1671، مخرجا نسخة جديدة اختلفت عن الأولى في كونها قد أشارت إلى ضرورة قياس الانعكاسات والانكسارات قبل مناقشة طبيعة الألوان. غير أنه عندما حثه كولينز مجددا في أبريل من عام 1672، أخبره نيوتن أنه كان يفكر في إعداد كتاب مشترك لأعماله في مجالي الرياضيات والبصريات، ولكنه تخلى عن الفكرة «إذ وجدت أن تلك الفائدة القليلة التي سأجنيها من النشر ستحرمني من الاستمتاع بحريتي الخالصة السابقة إلى أن أنتهي منه». على الرغم من ذلك، كان اسمه قد ظهر في تلك الفترة كمحرر لكتاب عن الجغرافيا من تأليف برنارد فارينيوس، وهو العمل الذي اعترف لاحقا بأنه لم يضف إليه سوى القليل.
كان احتكاكه الأول بجمهور دولي هو سبب تحرر نيوتن من الوهم. وكان كولينز قد علم من نيوتن بأمر تلسكوبه العاكس، و«أثير» الموضوع مجددا في أواخر عام 1671 حين قام بارو بتسليم نسخة جديدة من الجهاز للجمعية الملكية، ونال الكثير من الإعجاب من جانب أعضاء الجمعية، وجرى فحصه وتدارسه بشيء من التفصيل «من جانب بعض من أبرز الشخصيات في علم البصريات وتطبيقاته العملية»، حسبما أخبره سكرتير الجمعية هنري أولدنبرج. وأخبر أولدنبرج نيوتن أنه قد تم إرسال وصف لتركيب الجهاز وقدراته إلى كريستيان هويجنز في باريس «لمنع ادعاءات الغرباء بملكيته، مثلما رأيت هنا على الأرجح، أو حتى معك في كامبريدج».
في المقابل، ارتدى نيوتن قناع الترفع واللامبالاة المعهود بشأن اختراعه، مخبرا أولدنبرج أنه حاز هذا الجهاز في كامبريدج لبضع سنوات دون إثارة أي جلبة بشأنه. وأضاف نصيحة بشأن كيفية صنع خليط معدني لصنع مرآة التلسكوب، ووجه الشكر للجمعية لانتخابه عضوا بها. وواصل تواضعه في قبول عرض عضوية الجمعية، عارضا إرسال أي شيء يمكن «لمساعيه المتواضعة والمستقلة» أن تفعله لإفادة أنشطتهم. غير أن هناك خطابا آخر أظهر أنه قد وجه إلى صنع تلسكوبه العاكس بواسطة ما يعتبره «أغرب - إن لم يكن أهم - كشف تم التوصل إليه حتى الآن في عمليات الطبيعة». وبموجب ذلك، تلقى أولدنبرج ورقة نيوتن البحثية الخطيرة التي غيرت مجرى التاريخ في أوائل فبراير من عام 1672.
شكل 4-1: رسم تخطيطي لأحد أعضاء الجمعية الملكية لتلسكوب نيوتن العاكس الذي قدمه لهم إسحاق بارو في أواخر عام 1671.
1
نيوتن في الجمعية الملكية
خلال الأعوام التالية على تأسيسها في عام 1660، ابتدعت الجمعية الملكية ما كان في الواقع توجها رسميا فيما يتعلق بأفضل الطرق لإجراء التجارب ووصفها تفصيليا. كان ذلك إلى حد كبير مبنيا على الأسلوب الذي اتبعه روبرت بويل، الذي اقترح في كتاباته أن يتبع المؤلف أسلوب «السرد القصصي». وكان ذلك يتطلب من المؤلفين وصف ما قاموا به فعليا في موقف معين بأكبر قدر ممكن من التفصيل. وأينما يمكنهم ذلك، يتوجب عليهم تجنب أي إشارة إلى فرضيات لم تكن قابلة للاختبار تجريبيا، وعليهم أيضا ألا يصدروا أي بيانات عامة متعجلة عن سلوك الطبيعة في جميع الحالات المتشابهة. كذلك كان عليهم التزام الاعتدال في مزاعمهم، إلى حد أنه كان عليهم ألا يدعوا قطعية لآرائهم أكبر من تلك التي تكفلها الأدلة. فالوقت واستنساخ الظواهر من جانب الكثير من الأشخاص الآخرين في عدد من المواقف من شأنهما إثبات صحة أو خطأ أي ادعاء. وقد كان بويل يعتقد أن بعض الفلاسفة الطبيعيين ذوي الميول الرياضية لديهم ثقة مفرطة في تطبيق التقنيات الرياضية على العالم الطبيعي، وفي ادعاء درجة غير مبررة من القطعية واليقين لأعمالهم.
Shafi da ba'a sani ba
في بحثه الذي قدمه في فبراير، بدأ نيوتن يروي بأسلوب السرد القصصي أنه - في خضم محاولته لتجليخ العدسات غير الكروية - قام بشراء موشور في عام 1666 ومرر ضوء الشمس من خلاله في غرفة مظلمة على حائط على بعد 22 قدما من أجل اختبار «ظواهر الألوان». وعلى عكس توقعاته بأن يرى صورة دائرية وفقا لقوانين الانكسار، فوجئ بأن الصورة «مستطيلة». وبحسب روايته، فقد استبعد تدريجيا تفسيرات متعددة لظهور «الطيف» المستطيل، ومنها سمك أو عدم استواء الزجاج، وأجرى قياسا دقيقا للإعدادات التجريبية. وكان الفارق بين الزاوية التي تصنعها الأشعة الداخلة إلى الموشور (31') وتلك التي تصنعها الأشعة الخارجة منه (2° 49') أكبر من أن يفسر بقوانين الانكسار التقليدية. «وفي نهاية المطاف»، كما أشار، توصل لما أسماه «التجربة الحاسمة»، وهو مصطلح مشتق من العبارة البيكونية «الظواهر الحاسمة». وكانت هذه التجارب نسخة مصقلة - وإن كانت مبهمة - من تجربة الموشورين الموصوفة في أكثر مقالاته عن الألوان نضجا. فقد أخذ لوحين؛ بكل منهما فتحة صغيرة للغاية، واضعا أحدهما بجوار النافذة (حيث وضع الموشور الأول)، والآخر على بعد 12 قدما من النافذة. وعن طريق تدوير اللوح الأول حول محوره، أتاح لأشعة ملونة مختلفة بالمرور عبر الفتحة في اللوح الثاني لتسقط على موشور ثان يقع بجواره على الجانب الآخر. وكما اتضح أكثر فيما بعد، كان من المفترض أن تظهر التجربة أنه على الرغم من أن جميع الأشعة الملونة لها نفس زاوية السقوط بالنسبة للموشور الثاني، فقد تعرضت كل أشعة على حدة لنفس درجة الانكسار عند خروجها من الموشور الثاني مثلما حدث عند خروجها من الموشور الأول. فلم تتغير درجة قابلية الانكسار بفعل الموشور الثاني «وهكذا كان لكل أشعة ملونة «استعداد» فطري ... للتعرض لدرجة معينة من الانكسار». وعلق قائلا إن الزيغ اللوني قد وضع قيودا على نوعية الدقة التي يمكن الحصول عليها من التلسكوبات الكاسرة.
وفي منتصف النص، تخلى نيوتن عن أسوب السرد القصصي؛ بدعوى أن الاستمرار على ذلك النسق سوف يجعل بحثه «مملا ومحيرا». وقال إن الفلاسفة الطبيعيين سوف يذهلون عند اكتشاف أن نظرية الألوان كانت «علما» قائما على المبادئ الرياضية؛ إنها لم تكن افتراضية، ولكنها كانت مؤكدة تماما لكونها قائمة على تجارب لا تقبل الجدال. وفي بقية البحث، عرض توضيح «العقيدة» التي قامت عليها نظريته، مع إضافة تجربة أو اثنتين كأمثلة توضيحية. إن أي أشعة من أي نوع معين «تتشبث باستعادة لونها» عند تمريرها عبر موشورات متعاقبة «رغم محاولاتي المضنية لتغييرها». وقال متهللا إن أروع ما في الأمر حقيقة أن الضوء الأبيض يتألف من جميع الأشعة الأولية مجمعة معا. واستطاعت نظريته أن تفسر ألوان جميع الأجسام الطبيعية، التي كانت ترى كلون معين نظرا لميلها لعكس أشعة معينة دون غيرها. واختتم بقوله إنه من الأصعب كثيرا أن تحدد ماهية الضوء، وكيف يمكن كسره، أو «بأي أساليب أو أنشطة يخلق في عقولنا خيالات الألوان؟» على الرغم من أنه قد أبدى ملحوظة خطيرة بالتأكيد على أنه «ربما» لم يعد هناك إنكار لفكرة أن الضوء ذو طبيعة حسية (بمعنى أنه مؤلف من أجسام). غير أنه قال إن هذا الزعم الأخير ليس أساسيا لحجته، وإنه لن «يخلط التخمينات بالحقائق».
شكل 4-2: استنساخ للتجربة الحاسمة، من الطبعة الثانية الفرنسية لكتاب نيوتن «البصريات».
2
لم يكن المقال مجرد التحدي الأكثر غلوا للأفكار المتفق عليها بشأن علم البصريات في التاريخ المعاصر، ولكنه كان بيانا واضحا لما اعتبره نيوتن الطريقة الملائمة لفحص وتبرير الادعاءات والمزاعم العلمية. في المقابل، علق أولدنبرج بأن الزملاء قد درسوا البحث ب «انتباه فريد وتصفيق حار واستحسان غير عادي»، وطلب أن يطبع وينشر في دورية «المعاملات الفلسفية». وذكر كذلك أن الجمعية قد قررت ضرورة قيام بعض أعضائها بمحاولة إعادة التجارب الواردة بالبحث، وأيضا بعض التجارب الأخرى ذات الصلة. ورد نيوتن بأنه قد أرسل البحث إلى الجمعية لكونهم «القضاة الأكثر صراحة وكفاءة في الأمور الفلسفية»، وأشار إلى أنه يعتبرها «ميزة عظيمة أن يكون بإمكانه «بحرية» الآن أن يحول انتباهه «إلى مجلس في غاية الحكمة والحيادية» بدلا من توجيه أحاديث إلى جمهور متحامل ومولع بالنقد (ترتبك بسببه العديد من الحقائق وتضيع)».
مشكلة الفرضيات
كان للنشر المشترك لوصف التلسكوب والبحث الخاص بالضوء والألوان فضل في شهرة نيوتن. وقد عبر عدد من الفلاسفة المعاصرين، أبرزهم كريستيان هويجنز، عن إعجابهم واستحسانهم للعمل. غير أن نجم الجمعية الملكية روبرت هوك، كتب إلى أولدنبرج في غضون أسبوع يخبره أن لديه تحفظات خطيرة بشأن النظرية. وعلى الرغم من اتفاقه في الرأي على أن الظاهرة حقيقية، فإنه لم يكن يعتقد أن تفاوت قابلية الانكسار لا يمكن تفسيرها إلا بواسطة نظرية نيوتن عن تغايرية الضوء الأبيض، كما لم يوافق على كونها قد أظهرت أن الضوء ذو طبيعة حسية. وأعلن هوك أنه اكتشف نتائج مماثلة من قبل، وأنه لا يستطيع الموافقة على أن نظرية نيوتن عن الضوء الأبيض مؤكدة كما حاول نيوتن أن يثبت.
كانت فرضية هوك، والتي تنص تحديدا على أن الضوء عبارة عن ذبذبة أو حركة انتقلت عبر وسط غير متمايز وغير مرئي - مع كون اللون تعديلا للضوء يحدث بفعل الانكسار - قائمة، حسبما أكد، على مئات التجارب. ولو أن نيوتن حقا لديه تجربة حاسمة ومقنعة واحدة تثبت فرضيته، لاتفق هوك مع نظريته بسهولة. غير أنه استطاع التفكير في فرضيات أخرى عديدة من شأنها أيضا أن تفسر ما حدث. لم ينبغي أن تكون كل الحركات التي تؤلف اللون مركزة في الضوء الأبيض «قبل» أن يصل إلى الموشور؟ لم يكن هناك ضرورة تستدعي أن يكون الأمر هكذا، مثلما لم يكن يوجد ضرورة لأن تصدر الأصوات الموجودة في المنافيخ فيما بعد من مزامير آلة أرغن. لقد كانت نظرية نيوتن مجرد فرضية - وإن كانت «في غاية الإتقان والبراعة» - ولم تكن مؤكدة للغاية كبرهان رياضي.
استخدم نيوتن في رده المطول على هوك في يونيو 1672 وفرة من المعلومات والبيانات من محاضراته في البصريات وكذلك من مفكرته المعملية، وكان الرد في حد ذاته إنجازا مهما في علم البصريات. بدأ الرد بتوبيخ متغطرس لسلوك هوك. فقد كان على هوك «أن يطوق عنق» نيوتن بخطاب خاص، على الرغم من أن «الفرضية» التي نسبها له هوك لم تكن هي الفرضية التي تحدث عنها نيوتن في بحثه؛ فلا شيء يتوقف على ما إذا كان الضوء جسما أم لا. تجاهل نيوتن «الفرضيات» التي كان يحتقرها، متحدثا عن الضوء «بمصطلحات عامة، معتبرا إياه كشيء أو آخر ذي طبيعة مستقلة ينتشر في كل اتجاه في خطوط مستقيمة من أجسام مضيئة، دون تحديد ماهية هذا الشيء».
بعد ذلك، شن نيوتن هجوما مباشرا على نظرية هوك الموجية للضوء، مستخدما الحجج والبراهين التي كان قد توصل إليها حين كان طالبا. فقال إن المرء قد يقبل أن تعد فرضية هوك تفسيرا للظواهر التي وصفها نيوتن، ولكن الأمر محاط ببعض الصعوبات. فموجات واهتزازات السوائل لا تنتقل في خطوط مستقيمة، مثلما تفعل أشعة الضوء فيما يبدو، والأسوأ أنه باعتبار أن الأجسام المختلفة تطلق نبضات «غير متساوية» بالضرورة، فإن الضوء العادي لا بد وأن يكون مزيجا من النبضات غير المتساوية، أو «مجموعة من الأشعة غير المتناسقة»، وكان ذلك هو نوع التغايرية التي دلل عليها نيوتن. وأسهب نيوتن في هجومه قائلا إن فرضية هوك لم تكن تفتقر للكفاية فقط، ولكنها ملتبسة وغامضة أيضا، ولو أنه باحث كفء، لوجد أن ما قاله نيوتن صحيحا. فمن خلال دراسة الضوء «بوجه عام»، وجد أن هناك أكثر من لونين أساسيين، على عكس ادعاء هوك، بينما كانت التجربة الحاسمة بالفعل كما وصفها نيوتن.
Shafi da ba'a sani ba
لم تخف على هوك نبرة التوبيخ، وقد أشار في خطاب لأحد كبار أعضاء الجمعية الملكية إلى أنه منذ ذلك الحين أجرى مزيدا من التجارب بالموشورات والحلقات الملونة، كما اقترح نيوتن، إلا أنه ظل غير مقتنع بنظرية نيوتن. غير أنه أضاف أنه يعتذر إذا كان نيوتن قد شعر بالإساءة مما كتبه، إذ إنه لم يعن به شخصه على الإطلاق. وشدد هوك على أن لديه أدلة مقنعة تثبت صحة آرائه، وأنه بالفعل قد أجرى تجارب على انكسار الضوء أظهرت أن الضوء بالفعل - في ظل ظروف معينة - ينتشر في مساحات «ظليلة». وأبدى أسفه لغموض فرضياته، على الرغم من أنه أشار في سخرية إلى أنه لم «يشكك قط» في قدرة نيوتن على تفسير كيفية احتفاظ الأشعة الأولية بقابليتها الثابتة للانكسار بعد الانكسار، ثم جعلها تتجمع مجددا «وتتحد في أشعة واحدة، ثم يفترق كل جزء مجددا ويواصل طريقه مباشرة ودون أي معوقات وكأنها لم تلتق من قبل قط». ربما يكون نيوتن قد استوعب ذلك، ولكن هوك لم يستوعبه، مثلما لم يستوعب أيضا لماذا كان نيوتن يخشى الإفصاح عن الماهية الحقيقية لشعاع الضوء.
أرسى رد هوك - المتمسك بوجهة نظر تذهب إلى أن التفسيرات الفلسفية يجب أن تشير إلى أسباب مادية ملموسة - نموذجا للطريقة التي استوعب بها الفلاسفة الطبيعيون نظام نيوتن فيما بعد. وفي أوائل العام اللاحق، أعاد كريستيان هويجنز إثارة الفكرة التي طرحها هوك ومفادها أن هناك عددا محدودا من الألوان الأساسية يمكن منها تكوين جميع الألوان الأخرى. وصرح أيضا أن نيوتن لم يلتزم بالعقيدة الأساسية للفلسفة الميكانيكية، تحديدا أنه ملزم بوضع فرضية مادية تفسر الألوان الموشورية المختلفة. وعلق هويجنز أنه حتى قيامه بذلك «لم يعرفنا من أين تشكلت طبيعة الألوان واختلافها؟ بل أطلعنا فقط على تلك الظاهرة (المهمة للغاية) الخاصة باختلاف درجة قابليتها للانكسار».
يبدو أن تلك كانت هي القشة الأخيرة بالنسبة لنيوتن، الذي أخبر أولدنبرج برغبته في الاستقالة من الجمعية الملكية؛ لعجزه عن إفادتهم بسبب «بعده» عن لندن. في الوقت نفسه، أخبر كولينز أنه لاقى بعض «الفظاظة» من جانب أعضاء الجمعية، وهو التعليق الذي بلغ إلى مسامع أولدنبرج. فأخبر سكرتير الجمعية الملكية نيوتن أن كل جماعة بها من يثير المشاكل، في إشارة إلى هوك، و«أن الهيئة بوجه عام تكن لك التقدير والحب».
على الرغم من ذلك، أرسل نيوتن ردا عاصفا لهويجنز، فقال إنه من المستحيل أن تستخرج ألوانا موشورية من الأصفر والأزرق، ولا يمكن تصور كيف يمكن لظواهر الضوء الأساسية أن تكون ناتجة عن نوعين فقط من الأشعة. وعلى الرغم من أنه قد ذكر الحقيقة في بحثه الأصلي، فقد أدى تعليق هويجنز إلى إجبار نيوتن على تكرار القول بأن الأشعة البسيطة والمركبة قد تبدو متماثلة، ولا يمكن تمييزها إلا بالتجربة. فإذا كان «يمكن» استخراج الضوء الأبيض من شعاعين ملونين فقط، فهذا يعني أن الأشعة مركبة بالفعل وليست أولية. وكأن الأسلوب لم يكن فظا بما يكفي، قال نيوتن بأسلوب فظ ومتعال إنه كان واضحا للغاية «أنني أرى أنه لا يمكن أن يكون هناك مزيد من الحيرة، خاصة لمن يعرفون كيف يبحثون ما إذا كان اللون بسيطا أم مركبا، ومن أي ألوان يتألف».
وعلى الرغم من إخبار أولدنبرج له أن نيوتن رجل يتسم بقدر كبير من الإخلاص وسلامة النية، فقد غضب هويجنز من موقف نيوتن، مشيرا إلى أنه لا يرغب في التنازع مع نيوتن إذا كان يدافع عن نظريته بمثل هذا الانفعال. غير أنه تكرم بإرسال نسخة من كتابه «الساعة الاهتزازية» إلى نيوتن. وشكره نيوتن على كتابه، الذي كان مليئا «بالتأملات البارعة والمفيدة» (مثل معادلة القوة الطاردة المركزية)، ولكنه رد على نقد أسلوبه بقوله إن الأمر كان «مزعجا» فيما يبدو؛ أن يواجه باعتراضات أجاب عنها بالفعل. وكرر على أولدنبرج - في خطاب احتوى رده على هويجنز - نيته «ألا يهتم مجددا بأمور الفلسفة».
واصل نيوتن مراسلة كولينز وغيره من علماء الرياضيات على فترات متقطعة، مناقشا معهم تقنيات مختصرة لتسهيل إنشاء جداول اللوغاريتمات، والأرقام التربيعية، والجذور التربيعية والتكعيبية. ولكن في تلك الفترة تكالبت عليه موضوعات أخرى واقتحمت حياته. وفي أواخر عام 1674، وجد نفسه في مواجهة الحاجة لأن يرسم كاهنا، ومن ثم تأكيد التزامه نحو عقيدة الثالوث القدوس من أجل الاحتفاظ بعضويته للكلية. ولأسباب سأذكرها في الفصل التالي، لم يعد هذا ممكنا، وفي يناير من العام اللاحق، ألمح لأولدنبرج أنه على وشك فقدان منصبه في ترينيتي. ولكن بعد رحلة إلى لندن في أواخر فبراير لمقابلة مسئولين حكوميين رفيعي المستوى، تلقى نيوتن إعفاء خاصا يمكنه من الاستمرار كعضو بالكلية دون الترسيم كاهنا في ربيع 1675. وربما كان دعم بارو (الذي كان قد أصبح أستاذا بالكلية) عنصرا أساسيا في نجاحه.
أيام غائمة وموشورات سيئة
في الوقت الذي اعتقد فيه نيوتن أنه قد تخلص من التصارع والتشاحن في الساحة العامة، بدأت جولة جديدة من المراسلات لتعيده إليهما تارة أخرى. فقد شن نقد من فرانسيس لينوس - بالكلية اليسوعية بمدينة لييج - نوعا جديدا من الهجوم على نظرية نيوتن، واصله الزملاء نيابة عن لينوس عند وفاته في عام 1675. عني هذا النقد بالصعوبة العملية للاتباع التفصيلي للتعليمات المتعددة التي قدمها نيوتن في أبحاثه، وكذا صعوبة تحقيق النتائج التي قال إنها ستنشأ عن ذلك. وكان نيوتن قد تنبأ إلى حد ما بمثل هذه المشكلات، التي كانت جزءا أصيلا من منهجه الرياضي، حيث التعامل مع موقف أو موقفين تجريبيين يتسمان بالتجريد والمثالية بدلا من التعامل مع مجموعة من التوصيفات المفصلة للعديد من التجارب ذات الصلة. وعندما أرسل إليه أولدنبرج بعض الاستفسارات التي صاغها أعضاء الجمعية الملكية ردا على بحثه الأول عن الضوء والألوان، اعترف نيوتن بأن شرحه كان مبهما، وأن توصيفاته ربما كانت لتصبح أطول وتحتوي على المزيد من المخططات البيانية، لو كان يعتزم نشرها.
تضخمت المشكلة مع لينوس في المراسلات اللاحقة مع زميليه بالكلية اليسوعية، جون جاسكوينز وأنطوني لوكاس. فعلى الرغم مما بدا من أن عددا من الفلاسفة الطبيعيين البريطانيين قد أعادوا إجراء معظم تجارب نيوتن دون مواجهة الكثير من الصعاب، فقد أثبتت المراسلات مع اليسوعيين مدى الصعوبة التي واجهها بعض من الفلاسفة النوابغ في تكرار تجاربه، أو حتى فهم فكرتها. ومن جانبهم، كان اليسوعيون يعتقدون أنهم يتبعون عقائد ومبادئ الجمعية الملكية في تمسكهم بأن المعرفة العلمية لا يمكن بناؤها إلا تدريجيا، من خلال إجراء عدد من التجارب المختلفة التي تلقي الضوء على مختلف جوانب النظرية. ولما كانت نظرية نيوتن جديدة للغاية - بحسب قولهم - فقد كان عليه مسئولية إثباتها. فقال نيوتن، الذي شعر أن اليسوعيين يهاجمون أمانته وكفاءته على نحو صريح، بأن تجربته الحاسمة «وحدها» كافية لإثبات صحة نظريته. وراح ينتقد اليسوعيين لعدم اتباعهم تعليماته، وعجزهم عن قياس الانكسارات بالدرجة المطلوبة من الدقة (بالدقائق وليس بالدرجات فحسب)، واستخدام موشورات غير ملائمة، واعتمادهم على شواهد للمحاولات التجريبية اندثرت منذ زمن.
في وقت ما من عام 1677، قرر نيوتن مجددا نشر عمله في مجال البصريات (ربما مع عمله عن المتسلسلة اللامتناهية)، والذي يتألف من مزيج من محاضراته في البصريات ومراسلاته المنشورة. وقد نقشت صورته لوضعها في صدر كتاب بريشة الفنان ديفيد لوجان في مارس من ذلك العام، ولكن الأمور لم تسر حسب الخطة الموضوعة. وفي فبراير من عام 1678، طلب نيوتن من لوكاس نسخة من خطاب سابق (يعود إلى أكتوبر 1676) أرسل إليه من الكلية اليسوعية، وفقده نيوتن في حريق نشب مؤخرا وقتئذ ودمر الكثير من أبحاثه وأوقفه عن مباشرة العمل الذي خطط له. وبالمصادفة، كان لوكاس قد تلقى تصريحا من نيوتن قبل شهرين بنشر الخطاب نفسه في دورية «المعاملات»، ونقل إلى نيوتن عن طريق روبرت هوك، أحد أفراد السكرتارية الجدد للجمعية الملكية بعد وفاة أولدنبرج مؤخرا. غير أن نيوتن أدرك بطريقة ما أن النسخة التي أرسلها هوك إلى دورية «المعاملات» كانت مختلفة بعض الشيء عن النسخة الأصلية. وفي خطاب أخير للوكاس في مارس عام 1678، صب نيوتن وابلا من الإهانات على مستوى العلم المقدم في خطابات لوكاس السابقة. وبينما كان على شفا انهيار عصبي، وصف لوكاس و«أصدقاءه» بأنهم يحيكون مؤامرة يسوعية ضده. فقد كانوا «يجرونه» إلى نزاعات علنية، وهو أكثر شيء كان يمقته. وأخبر نيوتن لوكاس أنه كان يرى أن معظم أفكاره «واهية» ولذا لا يمكن الاعتراف بها، بينما هناك «أسباب متعقلة أخرى» تفسر عدم رغبة نيوتن في «المجادلة» معه. ومع ذلك، فإذا كان النزاع العلني مع اليسوعيين غير مستساغ، فقد كان هناك اهتمامات أخرى لشغل وقته.
Shafi da ba'a sani ba
هوامش
الفصل الخامس
فيلسوف هرمسي حقيقي
حظيت الخيمياء بسمعة متقلبة بحلول منتصف القرن السابع عشر. فعلى الرغم من أن الكثيرين كانوا يزدرونها باعتبارها المسعى البائس لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، رأى آخرون أن لها تراثا طويلا وجليلا، وأن أسرارها أكبر و«أنبل» من أن تخفى في لغة وعبارات مجازية مبهمة. وكان الفلاسفة الطبيعيون، أمثال روبرت بويل، يزدرون ممارسات معينة يطلق عليها «خيميائية»، وفي الوقت نفسه يعتقدون أن بعض النصوص الخيميائية، إذا استوعبت بوجه صحيح، فإن من شأنها أن تقدم وصفا لأهم العمليات في الطبيعة. وكانت الخيمياء في حد ذاتها جزءا من ممارسة أكبر تسمى «الكيمياء»، والتي شملت عمليات خيميائية عادية أو «شائعة» كانت جزءا من مخزون مهارات أي كيميائي، ولكن بدت التقاليد الخيميائية التي تؤمن بأن الطبيعة بأكملها حية وكأنها تعد بإجابات عن الأسئلة المتعلقة بالتخمر، والحرارة، والتعفن، وكذلك نمو الحيوانات، والنباتات، والمعادن. وكان يفترض أن لدى الخيميائيين مدخلا لتقنيات تحاكي تلك العمليات الاستثنائية وتتيح لهم تحويل العديد من العناصر أحدها إلى الآخر. وكان معظم الخيميائيين يعتقدون أن هناك جانبا دينيا أو روحانيا أساسيا للفن، رغم أن الأدلة على ذلك غائبة بوضوح في أبحاث نيوتن الخيميائية.
في خمسينيات القرن السابع عشر، تكونت حلقة من الممارسين في لندن والتفت حول الأمريكي جورج ستاركي، الذي طور نظريات جيه بي فان هلمونت عن القوة الحيوية في عدد من الأعمال. واتجه نيوتن إلى أعمال ستاركي في نهاية ستينيات القرن السابع عشر، وجذبه إلى ذلك تحليله للطريقة التي يمكن بها تخمير أو إنبات عناصر أولية معينة. وفي مذكرات ترجع لهذه الفترة، وضع أيضا قاموسا من المصطلحات التي وجدها في كتابات بويل ودون كل العناصر الكيميائية، والإجراءات، والكثير من الأدوات والمعدات المطلوبة لممارسة فن الكيمياء العادية. غير أنه اتجه إلى التقاليد الكيميائية لتزويده بإجابات عن أسئلة تتعلق بأهم الموضوعات التي حيرته وحيرت معاصريه، تحديدا التخمر، والتحول، والحياة، والتكاثر، والعلاقة بين العقل والجسد. ليس التاريخ الذي أصبح فيه نيوتن منخرطا في دراسة الخيمياء معروفا على وجه التحديد، وإن كان وجود خطاب لصديقه فرانسيس أستون، وشراؤه مصهرين والمجلدات الستة لكتاب لازاروس تستسنر «مسرح الكيمياء» - كل ذلك في عام 1669 - يشير إلى أن اعتلاءه كرسي أستاذية الرياضيات في جامعة كامبريدج في نفس التوقيت ربما يكون قد صرفه عن اهتمام أعمق.
على الرغم من ذلك، لم يهمل نيوتن مطلقا ما تقدمه الكيمياء «العادية». ففي نفس التوقيت تقريبا، وفي مفكرته «الكيميائية»، دون ملاحظات امتدت على صفحات عدة، من كتاب روبرت بويل «تجارب وملاحظات جديدة عن البرودة» الصادر عام 1665، مضيفا تساؤلات وتجارب ثانوية خاصة به. وقد شكل هذا إلى جانب أعمال أخرى لبويل نشرت في ستينيات وسبعينيات القرن السابع عشر، أعظم منجم للمعلومات امتلكه نيوتن تحت يده، وقدم معلومات تفصيلية وموثوق بها عن العالم الطبيعي. فقد أشار - على سبيل المثال - إلى أنه على الرغم من أن الطقس في آسيا أكثر برودة بكثير، فإن الصينيين لا يشعرون بالبرودة مثل الأوروبيين؛ نظرا لوجود «انبعاثات من تحت سطح الأرض» تحتوي على «تيارات حرارية». وثمة ملاحظات أخرى من مؤلفات بويل، إلى جانب تأملات نيوتن عنها، عكست موضوعات ذات أهمية دائمة داخل نطاق فلسفته الطبيعية، مثل الحرارة، والضوء، والتحول، و«مبادئ» الطبيعة.
وفي موضع آخر، في قسم عن تحول «الأشكال»، أشار نيوتن (نقلا عن كتاب «أصل الأشكال والخصائص» لبويل الصادر عام 1666) إلى أن المواد الحية المتنوعة مثل الشعاب المرجانية، والسلطعون، وجراد البحر تتحول إلى حجر حين تخرج من الماء، وأنه بالقرب من جزيرة سومطرة كانت هناك أغصان أشجار صغيرة تحتوى على «ديدان» كجذور لها، وأنه في البرازيل يوجد حيوان قريب للجندب تحول إلى نبات. ومرة أخرى، يقدم بويل معلومات بالغة الأهمية تتعلق برواسب أرضية بيضاء ظلت على السطح بعد ترشيح مياه الأمطار؛ وعلق نيوتن بلهجة استحسان أن فان هلمونت كان يرى أن الماء هو أساس كل شيء، لأن جميع الأشياء يمكن «اختزالها» إليه «عن طريق عمليات متعاقبة».
وتشير المقتطفات المأخوذة من كتاب جورج ستاركي «ثبوت الاستغلال الكيميائي للنار» - والتي أعقبت الإشارة إلى فان هلمونت - إلى تحول في التركيز في قراءاته. ففي نفس الوقت كان يقرأ ويدون ملاحظات عن كتاب مايكل ماير «الرموز الذهبية للاثنى عشر شهرا»، الذي شكل مع مخطوطة تحوي نصائح للمسافرين الأساس للخطاب الذي أرسله إلى أستون في مايو عام 1669. بدأ هذا الخطاب بنصائح رنانة حول كيفية التعامل مع الأجانب، ولكن نيوتن أيضا أخبر أستون (الذي كان على وشك الانطلاق في جولة في أوروبا) أن ينتبه للتحولات من فلز لآخر، لأنها «تستحق انتباهك لها لكونها التجارب الأكثر تنويرا وتوضيحا للطريق في الفلسفة أيضا». وثمة تعليمات معينة جاءت من قراءته لماير، ولكنها أيضا كانت ترتبط بمعلومات مجمعة من قراءته لأعمال بويل. وسرعان ما شرع نيوتن في قراءة كم ضخم من كل من الأعمال المطبوعة والمكتوبة بخط اليد في مجال الخيمياء. ومن الحقائق ذات الأهمية البالغة أن ملاحظاته تأتي من نسخ مكتوبة بخط اليد من العديد من هذه النصوص، مما يشير إلى معرفته بمجموعة من الخيميائيين في كامبريدج أو لندن، وهو الأكثر ترجيحا. وللأسف إن هوية الكثير من هذه الشخصيات غير معروفة.
إنبات الفلزات
كما في حالة «الأسئلة الفلسفية»، سرعان ما شرع نيوتن في إجراء تجارب جديدة، وإن ظلت فهرسة ومقارنة الأعمال والمصطلحات الخيميائية المختلفة عنصرا أساسيا لاستراتيجيته البحثية. وبعد شرائه مجموعة «مسرح الكيمياء» مباشرة، وضع قائمة قصيرة من «الافتراضات» استقى فيها من النصوص الواردة في المجموعة. وقد أشار في هذه الافتراضات إلى «روح زئبقية» نشطة تسمى «ماجنسيا»، والتي كانت «العامل المساعد الحيوي الفريد» الذي يتغلغل في كل الأشياء في العالم. كان هذا هو ما يعرف بالزئبق الفلسفي؛ أي الشكل البدائي لجميع الفلزات والذي عندما يعيد الخيميائيون تكوينه يمكن أن يؤدي ذلك إلى نتائج تحولية غير عادية. ومن خلال العمل بالحرارة الخفيفة، أمكن تسخيره لتحويل (أو «تحليل») العناصر إلى حالتها الأولية، ثم «تنشيطها» (أو «توليدها») في شكل جديد. وبالاستعانة بقياس تمثيلي يعد أساسيا للتقاليد الخيميائية، لاحظ نيوتن أن أسلوب عمل هذه الروح كان قاصرا على أي مجال تعمل فيه، سواء على الفلزات، أم في جسم الإنسان، أم في مختبر الخيميائي، وأنها تنتج الذهب من «النطفة الفلزية»، فيما تستطيع توليد بشر من نطفة بشرية.
Shafi da ba'a sani ba
وقد جرت معالجة أفكار مشابهة بقدر أكبر كثيرا من التفصيل في بحث رائع كتب على الأرجح في أوائل سبعينيات القرن السابع عشر. ويعرف هذا البحث بالسطر الأول منه، وهو: «عن قوانين وعمليات الطبيعة الجلية في الإنبات»، وهو واحد ضمن مجموعة من أهم كتابات نيوتن عن أي موضوع. وتظهر العديد من الموضوعات والأفكار - مثل التحول، والتكاثف، والطبيعة باعتبارها «عاملا دورانيا» مستديما - مرارا وتكرارا في مواضع مختلفة من عمله. وقد دون نيوتن - تحت عناوين مرقمة فيما يشبه مخططا تمهيديا لأطروحة - أن نفس القوانين التي تحكم نمو النبات تشمل أيضا نمو الفلزات. فعن طريق الفن الخيميائي، يمكن جعل الفلزات تنبت نتيجة لنشاط «روح خاملة» تقبع بداخلها. وكما هو الحال في الفن، تستطيع الطبيعة بهذا الشكل أن تنمو وتزدهر فقط، ولكنها لا تستطيع تكوين «البروتوبلاست» أو أشكال الأشياء الطبيعية، والتي هي من صنع الله.
شكل 5-1: رسم نيوتن لحجر الفلاسفة؛ وهي مادة يمكنها أن تساعد في إجراء عمليات خيميائية مثل تحويل الفلزات غير النبيلة إلى ذهب ، أو تجديد شباب البشر لمنحهم الخلود.
1
كان هناك عدد من مساحات «الاتفاق» بين مملكة الحيوانات ومملكة الفلزات، وكما رأينا، كان إنبات الفلزات في ظروف معملية - في رأي نيوتن - مناظرا للطريقة التي تقوم بها الطبيعة بعملها. والواقع أن كون الفلزات أشياء حية هو ما يجعل لديها قدرة هائلة على التأثير على الحيوانات سلبا أو إيجابا. وكان هذا واضحا من القوة التي يتمتع بها فصل الربيع على التنشيط وتجديد الشباب، وحقيقة أن التغير في كم ونوعية الجسيمات الفلزية في الهواء تخلق «سنوات صحية وأخرى سقيمة»، وكذا في ملاحظة أن الطبقة الأرضية التي تغطي المناجم غالبا ما تكون جرداء. وتستطيع المعادن أن تتحد مع أجسام الحيوانات وتصبح جزءا منها «وهو ما لا تستطيع فعله إن لم يكن لديها عامل إنبات بداخلها».
أيضا زعم نيوتن أن أفعال الطبيعة إما «نباتية» (أو «منوية»)، أو «ميكانيكية» بحتة، كما فيما يطلق عليه الكيمياء «الشائعة». وفي بعض الأحيان، يمكن إحداث تغيرات في ملمس الأشياء عن طريق «عمليات الاندماج أو الانفصال الميكانيكية» لهذه الجزيئات، ولكن غالبا ما يتحقق ذلك بنبل أرفع عن طريق حركة «المواد النباتية الخاملة». والطبيعة نفسها لها طريقة أكثر «حذقا وسرية ونبلا للعمل» من تلك الموجودة في الكيمياء العادية إلى حد بعيد، وذلك النمط من العمليات هو ما يحاول الخيميائيون محاكاته. وكان الأساس و«العوامل المساعدة» لحركاتها النباتية هي «البذور أو الأوعية المنوية» في قلب المادة (المحاطة بغطاء رطب)، والتي أسماها نيوتن «نار»، و«روح»، و«حياة» الطبيعة. وقد شكلت هذه العناصر «جزءا صغيرا بشكل لا يصدق» من المادة، مما عمل على تنشيط ما كان ليصبح مجرد «مزيج من أرض ميتة وماء عديم الطعم». وفي حين أن جسم المادة الأكبر حجما غالبا ما لا يتأثر بالحرارة الشديدة، يمكن القضاء على «فاعلية» البذور أو إفسادها عن طريق الارتفاع أو الانخفاض الشديد في درجة الحرارة. وقد كان الإنبات جزءا محوريا من هذه العملية، يتألف من حركة البذور «الناضجة» على الأجزاء الأقل نضجا من مادة مختلفة ليجعلها ناضجة قدر الإمكان. وفي موضع آخر من المخطوطة، أشار نيوتن إلى الجزء الدقيق من المادة باسم «الروح النباتية»، والتي كانت واحدة في جميع الأشياء باستثناء ما يتعلق بدرجة «امتصاصها» أو نضجها. وحين امتزجت أرواح نباتية مختلفة معا، «شرعت في العمل»، وتحللت، و«امتزجت معا على نحو تام، ومن ثم تبدأ دورة عمل مستديمة إلى أن تصل للحالة الأقل هضما».
عالج البحث كذلك الطرق التي استطاع بها الخيميائيون الاستفادة من الإنبات، عن طريق محاكاة الطبيعة، لإحداث ظواهر غير عادية. وكان من الشروط اللازمة لتفعيل مهمة الخيميائي و«لكي تكتسب المادة المتحللة بأكملها القدرة على توليد شيء منها» وجود مرحلة أولية من الاختزال إلى «فوضى متحللة». فالتحلل «يحول» شيئا ما عن الماهية التي كان عليها، وهو شرط حدوث عملية التوليد والتغذية، على الرغم من أن التحلل الكامل يحدث «عفونة كريهة سوداء». وكما في الطبيعة، فإن ذلك يحدث في ظل حرارة «هادئة»، وعلى مواد رطبة، بينما البرودة أو الحرارة الشديدة من شأنهما أن يدمرا المهمة. وقد كان بإمكان الخيمياء أن تعزز تأثير الطبيعة على أي شيء كان، دون أن يكون المنتج أقل «طبيعية» مما لو كانت الطبيعة قد أنتجته بمفردها: «هل يكون الطفل مصطنعا لأن الأم تناولت عقاقير، أو تكون الشجرة التي تزرع في حديقة وتروى بالماء أقل طبيعية من تلك التي تنمو وحدها في الحقل؟» إن شجرة بلوط عمرها مائة عام يمكن جعلها تتكاثر، كما يمكن جعل المعادن «تتعفن وتتحلل» من خلال «ترتيبها ومزجها كما ينبغي مع الرطوبة المعدنية».
الأكوان المعدنية
ذهب نيوتن إلى أن الفلزات حين تتحول إلى «أدخنة رقيقة ومتطايرة» تستطيع تخلل الماء (أو السوائل الأخرى)، و«التشرب» فيه. وهي تفقد قدرتها الإنباتية في الماء البارد، لتتحول إلى حالة مالحة «ثابتة» ومتجمدة، وتصبح عودتها مرة أخرى إلى فلزات بالغة الصعوبة. فملح البحر، على سبيل المثال، كان مزيجا من أنواع مختلفة من الأدخنة المعدنية التي تماسكت جميعا معا، وكان لهذه «الكتل الملحية» قدرة أكبر على الاتحاد معا وتكوين قنوات بلورية طويلة. وقد لوحظ هذا الميل لدى الأبخرة أو الأدخنة للتجمد عن طريق تقطير مياه الأمطار وتحويلها إلى أجزائها المكونة لها، وكذلك عن طريق ملاحظة ميل الماء إلى الالتحام بالمعادن وتكوين نتوءات على الصخور.
ولعل أكثر عمليات التكاثف «حميمية» هي تلك التي تمت عن طريق مزج «الأبخرة غير المرئية» لأنواع مختلفة من الأدخنة، وهو ما نتج عنه تجمعات صلبة ذات «بنية أكثر ظهورا ورقة»، مثل «النترات»، وهو عنصر أطلق عليه نيوتن «روحا» تكونت نتيجة «تخمر النار والدم ... وجميع أنواع النباتات». وعندما تكثفت، قامت الأجزاء الرطبة التي كونت النترات بتكوين ملح أيضا، ولكن برودة ماء البحر أعاقت هذه الأبخرة الأكثر رقة ومن ثم لم يتواجد فيها نترات. وفي حالته النترية الأكثر رقة، كان الملح يتخمر ويتحلل، ولكن جزيئات الملح الخشن في حد ذاتها كانت «ميتة». غير أن الملح يمكن «حثه» على الإنبات، سواء طبيعيا أم اصطناعيا «عن طريق مواد أخرى في حالة حية ومنبتة». والأملاح القاعدية تحفظ اللحوم وتعمل من خلال جزيئاتها الخشنة، ولكن في ظروف معينة يمكن تنشيط «العنصر الخامل» بها للعمل «بنشاط» على عناصر أخرى. واعتبرت النترات في حالتها تلك، بوجه عام، أقوى المعادن لإثراء الأرض، وكذلك مصدر البارود ومصدر أنقى جزء من الهواء. وأشار نيوتن إلى أنه إذا أمكن دفع الأملاح للتحلل، فمن الممكن أن تكون دواء رائعا.
وباسترجاع نظريته السابقة، وصف نيوتن نظاما دوريا رائعا تطلق فيه الأرض أبخرة مائية وأدخنة معدنية متنوعة إلى أعلى. ومع ارتفاع الهواء يدفع الأثير باستمرار إلى أسفل نحو الأرض، «وهناك يتكثف ويندمج تدريجيا مع الأجسام التي يقابلها، ويعزز حركاتها باعتباره عامل تخمير حساس». ولكونه لزجا ومرنا، فإنه يسقط أجساما أثقل عند نزوله، ولكونه أخف كثيرا من الهواء، فإنه يفعل ذلك بسرعة أكبر كثيرا من سرعة ارتفاع الهواء. ومن ثم، كانت الأرض أشبه بحيوان ضخم أو «نبات عديم الحياة»، يتنفس في الأثير من أجل التجديد اليومي لنشاطه وحيويته. وأردف نيوتن أن العناصر الأرضية تألفت من الأثير ممتزجا بروح أكثر نشاطا، والتي كانت «العامل المساعد الكوني للطبيعة ، ونيرانها الخفية، وعامل تخمرها، وأساس الإنبات». وباعتبار الأثير «الروح المادية لكل المادة»، يمكن تنشيطه بواسطة الحرارة الخفيفة، وربما يكون مؤلفا في حقيقته من الضوء أو من نفس مكوناته. فكلاهما له «أساس نشط مذهل»، وكلاهما كان «عاملا مستديما»، وكل الأشياء تبعث ضوءا حين تتعرض للحرارة. ومثل ضوء الشمس كانت الحرارة أساسية لعملية التوليد، و«ما من مادة تتخلل كل الأشياء بذلك القدر من التلقائية، والبراعة، والسرعة مثل الضوء، وما من روح تتخلل الأجسام بهذا الكم من البراعة، والسرعة، والقوة مثل الروح النباتية». لم يكن علم الكونيات - الذي يتسم بقدر رائع من الثراء - موجها لشيء أقل من الكشف عن عناصر الحياة النشطة، والكون بأكمله. وكان نيوتن يعود لنفس الأفكار مرارا وتكرارا، وإن كان بأشكال مختلفة.
Shafi da ba'a sani ba