Nazcat Fikr Urubi
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
Nau'ikan
وها نحن نجد أنفسنا في نهاية عصر من أطول عصور النقد وأخصبها إنتاجا، فلا نستطيع أن نحكم بأن عالما من عوالم الفكر الثلاثة قد فاز بنصر فاصل على العالمين الآخرين، فلا يزال كل من العلم والفلسفة والدين شرعا في حكم العقل من حيث الأثر الخاص بكل منها؛ فالعلم لا يزال - كما كان - تلك الصورة الفكرية التي تزودنا بأوجه المعرفة المحققة، والدين لا يزال منبع المعتقدات التي تنزل إلى أبعد أغوار المصالح الذاتية، ولا نزال نجد أن أنفسنا أشد مما كانت شعورا بالحاجة إلى التوفيق بين ذينك الطرفين بوضع نظريات تحتذى في الحياة، وتبعد عن العلم بمقدار بعدها عن الاقتناع الذاتي الصرف. وهذا يدلك على أن الحاجة إلى الفلسفة أشد مما كانت في كل العصور الأخرى. لقد شهد القرن التاسع عشر تطورا عظيما وقع في الفكرة العلمية، ونهضة خصت بها الصوالح الدينية، وحياة جديدة بعثها الشعور والنشاط الديني، وهو على الظن الغالب أغنى من كل العصور التي تقدمته بالنظريات الفلسفية وبمذاهب الفلسفة.
لشد ما كان أسفي إذا ألفيت نفسي مضطرا لأن أقسم الموضوع الذي عكفت على الكتابة فيه، وأن أفصل بين أجزائه؛ لأن الفكر في مظاهره الثلاثة ليس إلا وحدة، الاضطرار إلى تفضيل بعض مظاهرها على بعض، واختيار نقطة نبدأ منها السير أمر أشعر معه بكثير من الأسف. رأيتني مضطرا، بحكم الضرورة، لدى أول عهدي بالتأمل في أمر الفكر خلال القرن التاسع عشر، أن أجزئ ما هو في الواقع متحد الأجزاء، مؤتلف النواحي، ولحظت فوق ذلك أني ملزم، كلما أمعنت في بحث مظاهر الفكر، بأن أنتخب من بينها ما هو أكبر خطرا، وأثمن قيمة؛ لأجعل منه نقطة الابتداء.
على أن الحقيقة أن فكرة التفضيل بين بعض مظاهر الفكر وبعض لم تقع قط في سبيل عملي كقاعدة ثابتة؛ فإني أسلم موقنا بأن كل مظاهر الفكر تتساوى من حيث الأثر والقيمة، ولا أبتئس إن أنا بدأت بالنظر في مظهر من مظاهره بغير تفضيل ولا اختيار، تاركا الرجوع إلى المظهرين الآخرين رهن الظروف التي تحيط ببحثي؛ ذلك لأن مظاهر الفكر إن نظرت إليها من ناحية التاريخ والواقع ألفيتها نسيجا واحدا متلازمة أجزاؤه كل التلازم، بحيث يتعذر عليك أن تفصل بين خيوطه إلا لتذهب بالصورة الطبيعية للمنسوج في مجموعه.
ذلك في حين أنه ليس من المتعذر أن تضع نفسك في مواضع متباينة إذ أنت مكب على التأمل من مظاهر الفكر الثلاثة في القرن التاسع عشر؛ لتتخذ في موضع منها مظهرا تضعه في قمة البحث، والآخرين في القاعدة؛ فإنك لن تستطيع أن تنكر مثلا أن المظهر الذي التأم من حوله الفكر الألماني خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر كان المظهر الفلسفي، فإن ذلك العديد الوافر من المذاهب الفلسفية التي تعاقب ذيوعها في ألمانيا لأمر باعث على أشد العجب.
كذلك كان تأثير تلك المذاهب على الأدب والعلم والحياة العملية مقطوع النظير في تاريخ الإنسان، والرغبة في استيعاب المعرفة التي أهابت بطلاب العلم في نواحي الدنيا الأربع ليتوافدوا إلى ألمانيا، فتكتظ بهم قاعات الدرس؛ ليتلقوا عن كبار الفلاسفة الغيبيين، لن تقع على ما يماثلها اللهم إلا في مدارس أثينا في العصور القديمة، أو في قاعة الفيلسوف «أبيلار»
Abelard
في القرون الوسطى.
فإذا بدأنا البحث بالنظر في هذه النهضة الكبيرة، وكيف نشأت ونمت، وكيف ضعفت وبادت، كان لنا من ذلك تقدمة حسنة نتطرق منها إلى الكلام في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر، وإذا مضينا بعد ذلك ناظرين في حالة فرنسا الفكرية، وأردنا أن نستخلص منها أشد مظاهر الفكر فيها أخذا بألبابنا خلال القرن التاسع عشر، وقعنا على مجموعة أسماء أولئك العلماء الأعلام الذين ينزلون في الصف الأول من بين العقول التي أقلتها الأرض في كل عصورها؛ ففي الشطر الأول من القرن التاسع عشر ألقيت بذور كل فروع العلوم الحديثة في فرنسا على وجه الإجمال، وخضع كثير منها للقوانين والأساليب الرياضية البحتة. وفي فرنسا، عممت موضوعات العلم تعميما ألبسها ثوبا طليا من الأسلوب اللغوي، فبدأت تتغلغل في الإدراك العام، وأنشأت في الأدب والفن مدرسة حديثة هي مدرسة الطبعيين.
وإذا قارنت بين الروح الرياضية الطبيعية التي نمت في فرنسا خلال القرن التاسع عشر وبين الفلسفة، وجدت أن هذه لم تسعد بحظ من النشوء كبير؛ فإن النزعة التشييدية التي أنتجتها الفلسفة الخيالية في فرنسا إذ ذاك لم تستمد إلا من المذاهب القديمة: كمذهب «ديكارت»
Descartes ، و«أفلاطون»
Shafi da ba'a sani ba