ويتصل بالاعتراض الذي أسلفناه اعتراض آخر: وهو أنه لو كانت معرفتي بشيء ما صورة لذلك الشيء؛ للزم أن تدوم تلك المعرفة على حالة واحدة ما دام الشيء المعروف هو هو محتفظا بذاتيته. مثال ذلك: أنه لو كانت معرفتي لهذه المنضدة التي أمامي صورة تطابق المنضدة؛ لتحتم أن تظل الصورة على حالة واحدة مهما تغيرت وجهة نظري إلى المنضدة، ما دامت المنضدة - وهي الشيء المصور - محتفظة بذاتيتها، لكني ألاحظ أن إدراكي للمنضدة يتغير كلما غيرت موضعي منها، فاستطالة سطحها لا تظل على صورة واحدة بل تختلف باختلاف الزاوية التي أنظر منها، وإن شئت فانظر إلى الرسوم المختلفة التي يرسمها عشرة أشخاص جلسوا حول المنضدة ليرسمها كل منهم كما يراها، فعندئذ تجد شكل السطح قد تغير من رسم إلى رسم، فلو نظرت إلى السطح من أعلى بزاوية قائمة رأيته مستطيلا، وإن نظرت إليه وأنت جالس إلى جانبه هنا أو هناك قريبا أو بعيدا؛ وجدته متوازي أضلاع تختلف درجات زواياه باختلاف وضعك وهكذا. وقل هذا في لون المنضدة؛ إذ قد يخيل إليك للوهلة الأولى أن لونها بني في جميع أجزائها على السواء، لكن أمعن النظر - كما يمعنه رسام يريد أن يرسم المنضدة رسما ملونا كما يراها - تجد لمعات الضوء في أجزائها مختلفة، وباختلافها تختلف درجات اللون اختلافا بعيدا، حتى إذا ما حبست عنها الضوء جملة واحدة امتنع لونها، وإذن فللمنضدة من حيث شكلها ولونها صور مختلفات، فأي هذه الصور هو المعرفة الصحيحة التي تطابق الشيء المعروف؟ أم أن المنضدة في حقيقتها هي جملة هذه الحالات المختلفة، وعندئذ لا تكون المعرفة بها متشابهة عند مجموعة المشاهدين لها، بل لا تكون المعرفة بها متشابهة عند الفرد الواحد في لحظاته الزمنية المختلفة وفي مواضعها المختلفة بالنسبة إليها؟
وإذا سلمنا بأن صفات الشيء تتغير بالنسبة لتغير موضعي منه ووجهة نظري إليه، فهل ينطبق هذا القول على كل صفاته بغير استثناء، أم ينطبق على بعضها دون بعضها الآخر؟ هاتان برتقالتان لهما صفات من لون واستدارة وغير ذلك، فلو كان لونهما يتغير بتغير الضوء الساقط عليهما، فهل تتغير درجة الاستدارة كذلك بتغير موقفي منهما أم أنهما تبدوان مستديرتين على صورة معينة دائمة مهما تغير وضعي؟ ثم هل هناك من الظروف ما يغير من حقيقة كونهما اثنتين من حيث العدد؟ الظاهر أن الصفات ليس كلها سواء من حيث تغيرها تبعا لطريقة إدراكي لها، وإن منها ما يتغير ومنها ما يدوم على حاله، وإذا كان ذلك كذلك فلا أستطيع القول بأن معرفتي للشيء عبارة عن صورة مطابقة لحقيقته في الواقع، بل ينبغي أن أفرق بين صفات ذلك الشيء، فأقول إن معرفتي لهذه الصفة المعينة منه (كمعرفتي باللون مثلا) لا تطابق الواقع كما هو، إنما تتغير بطريقة إدراكي لها، وأما معرفتي لتلك الصفة المعينة منه فتطابق الواقع كما هو ولا تتغير بتغير الشخص المدرك.
وهذه التفرقة إن هي إلا تمحيص ونقد لنظرية الواقعية الساذجة في المعرفة، وإذن فهذه النظرية بحاجة إلى تعديل يزيد من دقتها. (2) الواقعية النقدية
إن أول ما يلفت النظر في رأي الواقعية الساذجة من أن المعرفة صورة للواقع هو أن العقل يصبح بهذا الرأي لوحة قابلة لا فاعلية فيه، كأنه اللوحة في آلة التصوير تأتيها أشعة الضوء من الخارج فترتسم عليها كما أتتها بغير تحوير، لكن تعال معي نحلل أمثلة من معارفنا، وسيتبين لنا في جلاء أن الأمر ليس كذلك، وأننا وإن نكن قد تلقينا من الخارج مادة خامة فإننا نتناولها في الداخل بالتأليف والتركيب، بحيث ينتج لنا من ذلك تكوينات عقلية هي أساسية في معرفتنا، ومع ذلك فلا تطابق بينها وبين عالم الأشياء.
فأنت تعرف ما «البرتقالة» مثلا، بحيث إذا عرضت لك برتقالة عرفت أنها برتقالة على أساس الصورة العقلية التي تحملها معك جزءا من معرفتك، فمم تتكون فكرة البرتقالة التي تحملها في رأسك؟ لقد رأيت في خبرتك برتقالات كثيرة ليست كلها سواء، فاللون فيها على شيء من الاختلاف، والاستدارة فيها على شيء من التفاوت، والطعم فيها على كثير من التباين، وهكذا، لكنها - على ما بينها من اختلاف في بعض التفصيلات - تشترك كلها في صفات بحيث يستحيل أن تكون هنالك برتقالة إلا وقد اتصفت بتلك الصفات، هذه الصفات المشتركة هي التي تجمع بعضها إلى بعض في رأسك، وهي التي تتكون منها معرفتك بالبرتقالة. ولكن لاحظ أن هذه «البرتقالة العامة» التي رسمت لها صورة في ذهنك تختلف عن أية برتقالة تصادفك في العالم الواقع؛ لأنك عندما ركبت صورة «البرتقالة العامة» كنت قد طرحت من حسابك بعض التفصيلات التي تختلف فيها برتقالات الواقع التي عرضت لك في خبرتك، وإذن فهذه الصورة العامة التي لديك، والتي هي في الحقيقة معرفتك بالبرتقالة، ليست صورة مطابقة تمام المطابقة لأفراد البرتقال في الواقع. وحسبنا هذا المثل الواحد لنعلم أن الواقعية الساذجة قد أخطأت حين قالت إن معرفتنا هي صورة مطابقة للشيء المعروف. ولنعلم كذلك أن الأمر يحتاج إلى تحليل، وليس هو بالبساطة التي أخذته بها الواقعية الساذجة، وذلك ما فعله بعض الفلاسفة حين تناولوا نظرية المعرفة بالبحث الدقيق. نسوق لك منهم مثالا «جون لوك».
1
إذا ألقيت على «لوك» السؤال المطروح أمامنا الآن، وهو: ما المعرفة في طبيعتها؟ ماذا أعني على وجه الدقة حين أنظر إلى برتقالة - مثلا - وأقول: إنني «أعرف» أن هذه برتقالة؟ إذا كانت معرفتي هذه بالبرتقالة هي علاقة قائمة بيني وبين شيء أدركه، فما نوع هذه العلاقة؟ أهي علاقة التطابق التي تقوم بين الصورة والشيء المصور كما يقول أنصار الواقعية الساذجة؟
لا، ليست هي علاقة التطابق التام الشامل، هكذا يجيبك «لوك» عن سؤالك؛ ذلك أن صفات البرتقالة ليست كلها على درجة سواء، بحيث تكون معرفتك إياها من نوع واحد وطبيعة واحدة، فلو أحصيت صفات البرتقالة: شكلها الكري ولونها الأصفر وطعمها ... إلخ؛ وجدت أن هذه الصفات تقع في قسمين مختلفين، فبعضها متصل بالبرتقالة اتصالا يستحيل انفصاله، وأما بعضها الآخر فليس في الحقيقة قائما في البرتقالة ذاتها، بل نشأ حين اتصلت البرتقالة بحاسة من حواسك. ويطلق «لوك» على النوع الأول اسم «الصفات الأولية» وعلى النوع الثاني اسم «الصفات الثانوية».
فشكل البرتقالة الكري جزء لا يتجزأ من البرتقالة كما هي في الواقع، فهي كرية سواء رأيتها بعينيك أو لم ترها، لمستها بأصابعك أو لم تلمسها. وإذن فإذا عرفت عنها أنها كرية الشكل، فهذا الجانب من معرفتي مطابق لحقيقة الشيء كما هي خارج نفسي، ولا دخل لي في تكوين هذا الشكل أو إحداثه، إنما أتلقاه كما هو، وهكذا قل في درجة صلابتها وفي امتدادها وفي حركتها أو سكونها وفي عددها. كل هذه صفات للبرتقالة، إذا عرفتها كانت «معرفتي» مطابقة للأصل الذي في الخارج.
لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لبعض صفات أخرى كاللون والصوت والطعم، وهي التي أسماها «لوك» بالصفات الثانوية، خذ اللون مثلا: فأنت إذ تصف البرتقالة بأنها صفراء، فإن لونها هذا ليس فيها على نفس الصورة التي تراه فيها، فالذي ينبعث من البرتقالة ليلتقي بعينيك هو موجات ضوئية ذات طول معين، ولا تتحول هذه الموجات الضوئية إلى اللون الأصفر كما تعرفه إلا بعد أن تلتقي بعينيك وتنتقل عن طريق أعصابك إلى المخ، أما الموجات الضوئية نفسها التي انتقلت من البرتقالة إليك فليست صفراء، ولو كانت صفراء في ذاتها لرأيت خطوطا صفراء ممتدة من البرتقالة إلى عينيك، لكن المسافة التي بينكما لا تكون ذات لون على الرغم من أن موجات الضوء المنبعثة من البرتقالة تنتقل من خلالها. ومعنى ذلك كله هو أن اللون الأصفر قد تم تكوينه داخل جسمك على أساس الأشعة الضوئية التي جاءتك من الخارج، وإذن فليس اللون الذي «تعرفه» عن البرتقالة مطابقا لما هو موجود فيها.
Shafi da ba'a sani ba