الاعتقاديون والشكاك
نلقي على أنفسنا الآن سؤالا ثالثا وأخيرا عن المعرفة هو: ما حدودها؟ ما هو المدى الذي يستطيع الإنسان أن يبلغه بعلمه لو مكنته ظروف التحصيل؟ وأول ما يرد على أذهاننا من محاولات الفلاسفة في الإجابة عن هذا السؤال - إجابة صريحة أو متضمنة - أن ثمة فريقين يقفان أحدهما من الآخر موقف النقيض من نقيضه، فهنالك «الاعتقاديون» الذين يرون أن ليس للمعرفة الإنسانية نهاية تقف عندها، فإن قصر الإنسان في معرفته للكون بكل ما فيه، فما ذلك لقصور في طبيعة عقله أو في طبائع الأشياء، إنما هو قصور مرهون بزوال العوائق فيزول، وهنالك «الشكاك» من ناحية أخرى، يرون أن ليس للجهل الإنساني بحقائق العالم حد يقف عنده؛ إذ لا وسيلة أمام الإنسان في وسعه التماسها ليعرف شيئا خارج نفسه.
أما «الاعتقاديون» فهم بصفة عامة أصحاب المذهبين: العقلي والتجريبي على السواء؛ لأن كلا من هذين المذهبين - قبل «كانت» - كان يعتقد في مصدر المعرفة الذي يأخذ به، ثم لا يرى بعد ذلك أي مانع يمنع الإنسان من أن يستقي من ذلك المصدر علما بكل شيء، فإذا قال العقليون: إن العقل هو مصدر المعرفة؛ أي أننا نبدأ شوط المعرفة من مبادئ عقلية غير مكسوبة من خبرة الحواس، ثم نستطيع بعد ذلك أن نستولد هذه المبادئ علما كاملا بكل ما في الوجود من حق. إذا قال العقليون ذلك تضمن قولهم هذا أن ليس خارج العقل شيء يمكن أن يقف عقبة في سبيل تحصيله المعرفة كاملة. وكذلك إذا قال التجريبيون إن التجربة الحسية هي مصدر المعرفة تضمن قولهم أن ليس هنالك ما يحد من المعرفة إذا هيئت الظروف المناسبة للحواس أن تتصل بما يراد معرفته.
غير أن العقليين والتجريبيين على السواء لم يطرأ ببالهم أن هذا المصدر أو ذاك مما اتخذه كل منهم أساسا للمعرفة، هو في ذاته بحاجة إلى التحليل، أي أن نقطة الابتداء ليست في الحقيقة نقطة ابتداء، بل لها ما وراءها مما قد يظهره التحليل. و«الاعتقادية» كلمة تطلق لتعني هذا الموقف كائنا من كان واقفه، وهو الموقف الذي يتخذ فيه الإنسان لعلمه نقطة ابتداء يسير بعدها دون أن يتناولها هي نفسها بالتحليل والنقد. وعلى هذا الاعتبار يكون «العلماء» من الاعتقاديين بهذا المعنى؛ لأن العالم في علمه يفرض نقطة ابتداء يبني عليها بناءه العلمي، لكنه لا يحفر تحتها ليرى ماذا في الأساس. حتى الرياضة تبدأ بما تسميه تعريفات وبديهيات ثم تشتق من هذه البداية نظرياتها؛ فنظرياتها صحيحة إذا كانت مستدلة استدلالا سليما من تلك المسلمات الأولى، لكن الرياضي لا يجعل جزءا من عمله الرياضي تحليل المسلمات نفسها. وكذلك قل في العلوم الطبيعية حين يبدأ العالم بافتراض أشياء أو مبادئ كالمادة والمكان والزمان والسببية وما إلى ذلك، دون أن يجعل جزءا من عمله - باعتباره عالما - تحليل تلك الأشياء والمبادئ. نقول: إن «العلماء» في علومهم المختلفة «اعتقاديون» بهذا المعنى الذي أسلفناه، غير أن الكلمة تنصرف - إذا قيلت - أول ما تنصرف إلى المذاهب الفلسفية التي لا تناقش فروضها الأولى، كالعقليين حين لا يناقشون فكرة «العقل» نفسها، وكالتجريبيين حين لا يناقشون فرضهم الأول بأن المعرفة مستحيلة خارج حدود التجربة. وقد أسلفنا الحديث في الباب السابق عن هاتين الجماعتين من حيث رأيهما في مصدر المعرفة عند كل منهما، ونكتفي هنا بإثبات أنهما معا من «الاعتقاديين» حين يكون سؤالنا هو: هل المعرفة ممكنة؟ وما حدودها؟ لأن كلا منهما يجيب بما خلاصته: نعم، هي ممكنة وليس لها حدود تنتهي عندها. مع اختلاف كل منهما عن الأخرى فيما تراه مصدرا لتلك المعرفة.
وأما الشكاك - فعلى نقيض ذلك - إذ يرون أن المعرفة بمعنى العلم بالشيء كما هو في حقيقته الخارجية مستقلا عن ذات الشخص العارف فمستحيلة؛ إذ لا يسع الإنسان أن يعرف شيئا إلا في صلة ذلك الشيء بنفسه، ومنظورا إليه من وجهة نظره. وحتى لو فرضنا أن في وسع الإنسان أن يعرف شيئا ما كما هو في حقيقته الموضوعية، فليس في وسعه أن ينقل معرفته هذه إلى سواه؛ لأنها ستصبح جزءا من ذاته، وكل ما في مستطاعه إزاء الآخرين هو أن ينطق بكلمات، وليست الكلمات هي نفسها المعرفة الذاتية التي عرفها.
وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرق بين الفيلسوف الشاك والفيلسوف الذي يستخدم منهج الشك - مثل ديكارت - فبينما الأول يشك في إمكان حصول الإنسان على المعرفة إطلاقا، ترى الثاني يؤمن بإمكان المعرفة، وغاية ما في الأمر أن الوصول إلى المعرفة اليقينية يحتاج إلى حذر وحرص.
وسنضرب مثلا للفيلسوف الشاك «بروتاجوراس»
1
الذي أخرج كتابا أسماه «في الآلهة» بدأه هكذا: «أما عن الآلهة فلا أراني على يقين من وجودهم أو عدم وجودهم، ولا من شكلهم كيف يكون؛ ذلك لأن ثمة أشياء كثيرة تعوق المعرفة اليقينية، منها غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان.» حتى ليقال: إنه اتهم بالإلحاد واضطهد من أجل ذلك؛ ففر من أثينا.
ويصفه لنا أفلاطون في محاورة أسماها باسمه؛ إذ أسماها «بروتاجوراس»، وفي هذه المحاورة لا يقدمه أفلاطون في الصورة الجدية اللائقة به، لكنه يعود في محاورة أخرى هي محاورة «تياتيتوس» فيناقش - جادا - الرأي المشهور عن بروتاجوراس والذي يعد محور فلسفته، وهو الرأي القائل بأن «الإنسان مقياس كل شيء، فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة.» وهو رأي يفسرونه بأنه يعني أن كل فرد من الناس هو مقياس الأشياء جميعا، حتى إذا ما اختلف الناس على رأي ما، فليس هنالك حقيقة موضوعية يمكن الرجوع إليها لتصويب المصيب وتخطيء المخطئ.
Shafi da ba'a sani ba