3
ثم قسمها مرة أخرى من حيث كونها قبل الخبرة الحسية أو بعدها إلى قسمين: فقضايا قبلية وأخرى بعدية.
أما التقسيم الأول الذي يقسم الأحكام إلى ما هو تكراري وما هو إخباري فشرحه كما يأتي:
الجملة تكون تكرارية إذا كان الخبر الذي جاءت لتخبر به هو نفسه جزء من الموضوع الذي تتحدث عنه الجملة وتخبر عنه. ونضع هذا المعنى بلغة المنطق فنقول: إن القضية التكرارية هي التي يكون فيها المحمول جزءا من الموضوع، فمثلا إذا قلت لك: «إن المصباح المضي مصباح» أو «إن المثلث المتساوي الأضلاع مثلث» كان قولي تكراريا، الخبر فيه جزء من المخبر عنه؛ وإذن فهو قول لا يأتي بجديد سوى أن يبرز بعض عناصر الموضوع الذي هو مدار الحديث، وبالطبع لا يكون التكرار دائما في الجملة التكرارية بهذا الوضوح الذي تراه في المثلين السابقين، بل كثيرا ما يخفى على التفكير العابر السريع.؛ فمثلا إذا قلت «إن الكوكب هو ما يدور حول الشمس» فقد يخيل إليك للوهلة الأولى أنني هنا أجيئك بخبر جديد عن «الكوكب»، وأنني بهذه الجملة لا أكرر لفظ المخبر عنه في الخبر، لكنك إذا أمعنت النظر وجدتني في هذه الجملة أيضا أكرر الشيء الواحد مرتين دون أن أضيف خبرا جديدا؛ لأنك لو اعترضت علي بقولك: عرف لي الكوكب قبل أن تخبرني عنه بأنه يدور حول الشمس أو لا يدور؛ لما وجدت تعريفا للفظة «كوكب» أقوله لك سوى أنه «ما يدور حول الشمس»؛ وإذن فأنا في الحقيقة لم أزد في عبارتي التي قلتها أولا على أن وضعت الشيء وتعريفه، ولما كان الشيء مساويا لتعريفه، فقد وضعت في عبارتي الأولى لفظا وما يساويه؛ أي كررته مرتين، وإن يكن تكراره قد جاء في صورتين مختلفتين ظاهرا.
وأما الجملة الإخبارية فهي التي تضيف خبرا جديدا يقال عن موضوع الحديث، بحيث إذا عرفت هذا الموضوع جاء التعريف خاليا من ذلك الخبر الجديد، وكل معرفة تجيء عن طريق الخبرة الحسية هي من هذا القبيل، فلو قلت مثلا «كان السبت الماضي يوما ممطرا» كنت بهذا القول أخبر عن يوم السبت الماضي بخبر ليس بالضرورة جزءا من معناه، فمهما حللت معنى «السبت الماضي» فلن تجد جزءا من هذا المعنى أنه يوم ممطر؛ فوصفي له بهذه الصفة هو نتيجة الخبرة الفعلية التي خبرتها بحواسي.
فبينما الجملة التكرارية لا تحتاج إلى خبرة حسية تؤيدها أو تفندها؛ لأنها تكرر القول ولا تضيف جديدا، فالجملة الإخبارية مدار تأييدها أو تفنيدها على الخبرة الحسية. فإن قلت لك «إن المصباح المضيء مصباح» فليس هناك ما يدعو إلى مراجعة شيء في عالم الواقع لتعرف إن كان قولي هذا صحيحا أو خاطئا. أما إذا قلت لك «إن المصباح المضي مصنوع من الفضة» فها هنا إذا أردت التحقق من صدق قولي كان لا بد لك من الرجوع إلى الواقع لترى إن كان المصباح - الذي هو موضوع الحديث - مصنوعا من الفضة أو لم يكن، فإن كان صدق الجملة التكرارية متوقفا على اتساق أجزائها - أي على عدد التناقض بين أجزائها - فصدق الجملة الإخبارية متوقف على مطابقة الخبر للواقعة التي جاءت الجملة لتصورها وتخبر عنها.
وننتقل الآن إلى التقسيم الثاني لأحكامنا إلى ما هو قبل الخبرة وما هو بعدها، أو بالعبارة الاصطلاحية في الفلسفة: إلى ما هو «قبلي» وما هو «بعدي».
فالقضية البعدية - أو إن شئت فقل عنها القضية الخبرية أو التجريبية - لا نصل إليها إلا بعد إدراك حسي نقوم به نحن بأنفسنا أو يقوم به من نثق بشهادته، وكل حقائق التاريخ والجغرافيا هي من هذا القبيل؛ فكيف تعرف أن جبال الهملايا ارتفاعها كذا إلا إذا أدركتها بحواسك أو أدركها من تثق بشهادته؟ وكيف تعرف أن نابليون جاء إلى مصر سنة 1798 إلا إذا كان شاهد قد شهد ذلك بحواسه وأثبت شهادته هذه؛ فصدقت أنت شهادة الشاهد. وكذلك قل في كل قوانين العلوم الطبيعية، فهذه القوانين لا يمكن الوصول إليها إلا بعد ملاحظة وتجربة للأشياء التي صيغت القوانين الطبيعية عنها، فكون الماء يتركب من أوكسوجين وأيدروجين بالنسبة الفلانية يحتاج إلى تجربة في المخابير ألاحظها بعيني، وهكذا.
وأما القضية «القبلية» فشأنها مختلف؛ لأنها لا تعتمد على الخبرة الحسية؛ مثل قولي: 2 + 2 = 4، فحتى لو وصلت إلى هذه الحقيقة بادئ الأمر بالنظر إلى برتقالتين وبرتقالتين، أو قلمين وقلمين كما يفعل المدرس في تعليم الأطفال، فإنني بعد أن أجرد المعنى من البرتقال والأقلام وغيرها، فإني أدرك أن صدقه لا يتوقف على خبرة حسية، ولا أتطلب بعد ذلك أمثلة من دنيا الواقع لتأييده؛ لأنني أدرك فيه يقينا لا يتطرق إليه الشك، وكل قضايا الرياضة من هذا القبيل.
الآن وقد عرفت ما القضية التكرارية وما القضية الإخبارية، كما عرفت الفرق بين القضية القبلية والقضية البعدية؛ فقد بات الطريق ممهدا لوضع المشكلة كما رآها «كانت» وكيف كان حلها على يديه.
Shafi da ba'a sani ba