Nazariyyar Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Nau'ikan
إن المثالية - في رأينا - تعبير عن موقف معنوي أو أخلاقي
moral
بأوسع معاني هذه الكلمة، وليس تعبيرها المعرفي أو الميتافيزيقي إلا نتيجة لهذا الموقف المعنوي للإنسان، نتيجة ينبغي أن تكون لها المرتبة الثانية لا المرتبة الأولى، ومن الملاحظ أن مؤرخ الفلسفة - متأثرا في ذلك بالفيلسوف المثالي نفسه - يصور الأمر كما لو كانت النظريات المعرفية أو الميتافيزيقية للمثالي تظهر أولا، ثم تستخلص منها نتائج عملية أخلاقية فيما بعد، ولكن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك: فالمثالية من حيث هي نظرية معرفية أو ميتافيزيقية مناقضة للموقف الطبيعي للإنسان، وبوصفها مذهبا يتنافى مع إمكان تعامل الإنسان مع العالم الخارجي، لا يمكن أن تظهر «تلقائيا» في ذهن الإنسان، بل لا بد أن قوة «معنوية» معينة هي التي تدفع الإنسان إلى تجاهل ميله الطبيعي إلى معاملة العالم الخارجي على أنه خارجي بالفعل، وتجعله يقول بمثل هذا المذهب الذي يتعارض تطبيقه العملي في مجال المعرفة، مع إمكان تعامل الإنسان مع العالم ومع بقية الأذهان. لا بد أن نوعا معينا من الأخلاق أو من النظرة إلى مجتمع الناس هي التي تدفع الإنسان إلى القول بهذا المذهب، ومن الجلي أن هذه الأخلاق وهذه النظرة إلى المجتمع ينبغي أن يكون لها صلة بالزهد وباحتقار العالم المادي؛ إذ إن المثالية تنكر الوجود المادي للعالم الخارجي، وتؤكد أنه يوجد - بمعنى ما يختلف من مذهب إلى آخر - في الذهن، وهو عادة مرتبط بالنفس أو بالروح أو بالمبدأ غير المادي وغير الجسمي في الإنسان، فإذا أصبح كل شيء «ذهنا» بمعان مختلفة أيضا، فلا شك في أن هذا يؤدي إلى دعم نوع معين من الأخلاق، ونوع معين من تقويم الإنسان ومجتمعه، هذا النوع من الأخلاق ومن التقويم هو القوة الأولى الدافعة إلى ظهور المثالية، وليست النظريات المثالية المعرفية أو الميتافيزيقية إلا نتيجة لاحقة له، وتأييدا تاليا لاتجاهه. •••
ومن الجلي أن الأمثلة التي سنختارها لتأييد هذا الرأي ينبغي أن تبدأ بأفلاطون: فعند أفلاطون يظهر أول - وربما أوضح - ارتباط بين القول بمثالية المعرفة، وبين نزعة أخلاقية ومعنوية معينة، يمكن وصفها عموما بأنها زاهدة.
ونستطيع أن نقول: إن محاورة «فيدون» تمثل بأسرها تأييدا مفصلا للرأي الذي نقول به ها هنا، ففي هذه المحاورة تعبير واضح عن ارتباط الحط من دور الحواس في المعرفة، وبالتالي الخروج عن الموقف الطبيعي، بالاعتقاد بضرورة ضآلة دور الحواس في حياة الإنسان المعنوية، وباحتقار الحس والجسم بوجه عام، وفي فيدون يتحدث أفلاطون عن الحواس بوصفها شواهد غير دقيقة في اكتساب المعرفة، وذلك «في سياق» حملته على الجسم ودعوته إلى تخليص النفس من شروره «فالوجود الحقيقي يتكشف للنفس في الفكر ... والفكر يكون أصلح ما يكون عندما ينطوي الذهن على ذاته ولا يعكر صفوه شيء من هذه الأشياء كالمسموعات أو المرئيات أو الألم أو اللذة، وعندما تنصرف النفس عن البدن، ولا تربطهما به إلا أدنى صلة، ولا تعود لديها حاسة أو رغبة جسدية، بل تصبو إلى الوجود الحق.»
1
وهنا يظهر الارتباط والامتزاج واضحا بين الدعوة إلى تأكيد دور الفكر في المعرفة - وهي القضية التي يرتد إليها كل مذهب مثالي - وبين نوع من الاحتقار الأخلاقي للحس وللجسم، وهذا الارتباط أمر معترف به لدى أفلاطون، ولكن الأمر الذي لا يعترف به بمثل هذا القدر من الشيوع هو الارتباط السلبي بين هاتين الظاهرتين، فعلى عكس النظرة الشائعة إلى الوجه الأخلاقي أو الاجتماعي لفلسفة ما على أنه ثمرة للتفكير النظري في هذه الفلسفة، نود هنا أن نؤكد أن التفكير المثالي النظري لم يكن إلا نتيجة لمذهب أخلاقي أو اجتماعي معين، وأن الاحتقار المعنوي للحس وللجسم قد تولدت عنه محاولة نظرية للإقلال من شأن الحواس في المعرفة، ولإنكار وجود حقيقة أصيلة للجسم، وبالتالي للأجسام الأخرى، وللعالم الخارجي بأسره.
ولنضرب مثلا آخر لفكرتنا هذه في فلسفة ديكارت، ففي الجزء الرابع من المقال في المنهج - حين يعرض ديكارت شكه المنهجي الذي أدى به في نهاية الأمر إلى الكوجيتو - ترد تلك العبارة ذات الدلالة البالغة: «رأيت أنني أستطيع أن أتصور نفسي بغير بدن، وبغير عالم أو مكان أكون فيه.» وهنا لا يستطيع الإنسان الذي يحتفظ بقدر من سلامة الموقف الطبيعي إلا أن يهتف: كيف؟! وعلى أي أساس؟! من هذا الذي يستطيع أن يتصور نفسه بغير بدن وبغير عالم وبغير مكان يوجد فيه؟ أهو إنسان؟ محال! إن الذهن الإنساني ليستبعد تماما إمكان تصور هذه الحالة، حتى لو كان المقصود من هذا التصور حالة من الشك الافتراضي الذي سيتجاوز فيما بعد، فليس في وسع الذهن أن يتصور ذاته - حتى من حيث هو مفكر فحسب - إلا من حيث هو مرتبط بالإنسان كله، من عقل وجسم معا، ومن حيث هو ناتج عن الطبيعة الكاملة للإنسان الحاضر ، بكل ما فيها من عناصر.
فكيف إذن تسنى لديكارت - بهذه البساطة وبهذه الجرأة - أن يصرح بهذه القضية الخطيرة جدا، والمشكوك فيها إلى أبعد حد؟ لا يمكن تفسير ذلك إلا على أساس وجود رأي مثالي سابق، ذي طبيعة أخلاقية أو معنوية، ينطوي على نوع من الإقلال من شأن الجسم إلى الحد الذي يتيح التفكير في استبعاده،
2
Shafi da ba'a sani ba