Nazariyyar Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Nau'ikan
15
ولو كان هيوم قد تأمل جيدا فكرة وجود الإحساس - وبالتالي الانطباع بالقوة - لما حاول أن يجعل للانطباع كيانا يغني عن الموضوع؛ إذ إن فكرة أرسطو ذاتها لا تنطوي على القول بازدواجية بين الانطباع والشيء، بل تجعل الانطباع إمكانية كامنة يحققها ظهور الشيء، ولا تكون هي ذاتها إلا تعبيرا عن هذا الظهور. (6) العالم الخارجي بوصفه ظاهرة عند كانت
الأشياء الخارجية تتميز - قبل كل شيء - بأنها أشياء توجد في المكان، والمكان عند كانت صورة للحدس، أي صورة ذاتية تجعل التجربة الحسية ممكنة، وإذن فخارجية الأشياء ترجع إلى نشاط الذات حين تضفي على الأشياء هذه الصورة الخارجية، «فعن طريق الحاسة الخارجية - وهي صفة لذهننا - نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا ، وموجودة كلها بلا استثناء في المكان.»
16
هذه هي نقطة بداية بحث كانت في مشكلة العالم الخارجي، وهي نقطة بداية تنطوي في ذاتها على كل النتائج المثالية، رغم ما سنراه من تأرجح موقف كانت بين قبول المثالية في صورتها المتطرفة وبين القول بنوع مخفف من المثالية «اللاأدرية»، ومنذ هذه اللحظة الأولى، يقرر كانت معارضة الموقف الطبيعي؛ إذ يجعل خارجية الأشياء راجعة إلى «صفة لذهننا»، ومنذ هذه اللحظة أيضا يستخدم كانت اللغة المثالية بلا تحفظ، وبكل ما فيها من افتقار إلى التحديد، فما معنى كوننا «نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا»؟ لنتساءل مرة أخرى - كما قلنا ونحن في صدد شرح نظرية هيوم: هل هذه العملية واعية مقصودة لدى الإنسان؟ أي هل كانت للأشياء طبيعة أخرى ثم «مثلناها لأنفسنا» على نحو مخالف؟ أم أنها عملية تحدث تلقائيا ودون وعي منا؟ وإذا كانت كذلك، فعلى أي أساس عرف بها كانت؟ وعلى أي أساس عرف أن طبيعتنا غيرت الأشياء ومثلتها على أنها خارجة عنا؟ ثم ما هو المقصود بكلمة «نحن» في هذه الحالة؟ هل المقصود منها «نحن» بوصفنا أذهانا فردية أم أذهانا جماعية أم أجساما أم مجرد نوع إنساني؟ وإذا كان يبدو أن المعنى الأخير هو الأقرب إلى قصد كانت - الذي يتحدث كثيرا عن «طريقتنا في الإدراك» - فهل لا يوجد لدى الحيوان إحساس مكاني؟ وإن كان مثل هذا الإحساس موجودا لديه، فبأي معنى إذن ننسب المكان إلى «التركيب الذاتي لذهننا».
وهكذا تظهر جميع صعوبات المثالية في ذلك النص الذي يستهل به كانت الفصل الخاص ب «الحساسية الترنسندنتالية» من كتاب «نقد العقل الخالص»، وتتحدد معالم الموقف المثالي بوضوح منذ أن يقلب كانت العلاقة المألوفة بين فكرة المكان والتجربة الخارجية: فنحن نعتقد - في موقفنا الطبيعي - أن تجربتنا للأشياء الخارجية هي التي توحي إلينا بفكرة المكان، وأننا نرى الأشياء في الداخل وفي الخارج وفوق وتحت وعلى اليمين واليسار، فنستنتج من كل هذا - وبالتجريد - فكرة «المكان» بوجه عام، أما كانت فيرفض هذا الأصل التجريبي لفكرة المكان؛ إذ إن فكرة الخارجية ذاتها، وكذلك فكرة التجاور واليمين واليسار ... إلخ، كل هذه تفترض مقدما تصور المكان، وإذن فليست فكرة المكان مستمدة من التجربة الخارجية، بل إن التجربة الخارجية لا تصبح ممكنة إلا بفضل فكرة المكان.
وقد يكون رأي كانت هذا صحيحا بالنسبة إلى المرحلة الحالية لتفكير الإنسان المتمدين الناضج، ولكن أية نظرة إلى هذه المشكلة من الزاوية التاريخية - التي أهملها كانت في كتاباته إهمالا تاما - تجعلنا نقتنع، دون تفكير طويل، بأن معنى المكان، في الأدوار «التكوينية» للإنسان، لا بد أن يكون قد استمد بالتجريد من علاقات الأشياء الخارجية، فليس صحيحا أن الإنسانية قد كونت فكرة المكان أولا، أو اهتدت إليها في ذاتها بوصفها جزءا من تركيبها الباطن، ثم استمدت منها معنى الخارجية على أساس أنها ما يكون في مكان مغاير، بل يحدث عكس ذلك: إذ يبدأ الإنسان بالمرور ب «التجارب المكانية» - كالقرب والبعد واليمين واليسار - أولا، ومنها يستخلص فكرة المكان بالتجريد، وليس من المستبعد أو من المستحيل مطلقا أن نتصور إنسانا، أو مجتمعا كاملا، يستخدم المعاني المكانية، دون أن تكون لديه فكرة عن هذا التصور المجرد، أي المكان، ولكن هذه - بطبيعة الحال - طريقة في التفكير تقتضي النظر إلى الأمور من الزاوية التاريخية أو الاجتماعية التي لم يقم لها كانت أي وزن.
وهكذا يؤدي رأي كانت في طبيعة المكان بوصفه صورة للحساسية وشرطا ذاتيا لإمكان التجربة تؤدي هذه الفكرة ذاتها إلى فكرة «ظاهرية» العالم الخارجي مباشرة: «فلا شيء مما يدرك بالحدس في المكان هو شيء في ذاته، وليس المكان صورة كامنة في الأشياء ذاتها بوصفه صفة متأصلة فيها، ولا سبيل لنا مطلقا إلى معرفة الأشياء في ذاتها، وليس ما نسميه بالأشياء الخارجية إلا مجرد تمثلات لحساسيتنا، التي يكون المكان صورتها.»
17
وكما أدى بحث «صورة الحدس» إلى هذه النتيجة، فكذلك يؤدي إليها استنباط التصورات الخالصة للذهن، ولا سيما «الاستنباط» كما ورد في الطبعة الأولى ل «نقد العقل الخالص»، فالاستنباط يؤدي بكانت إلى القول بأننا «نحن أنفسنا الذين نبعث في المظاهر ذلك الترتيب والنظام الذي نسميه «بالطبيعة»، وما كان في وسعنا أن نجد ذلك الترتيب والنظام في المظاهر، ما لم نكن نحن أنفسنا - أو طبيعة ذهننا - نبعثها أصلا ...»
Shafi da ba'a sani ba