Nazariyyar Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Nau'ikan
ومن الحقائق المعروفة أن باركلي لم يصل إلى مثل هذا الموقف المثالي في المراحل الأولى لتفكيره؛ إذ إنه - في عهد تأليفه لكتاب «نظرية جديدة في الإبصار» - كان لا يزال يعد عالم اللمس حقيقيا، في حين أن عالم الإبصار فكري خالص، وكل هدفه في هذا الكتاب كان إثبات عدم تطابق هذين العالمين إلا على أساس اعتباطي
arbitrary ، بحيث تكون العلاقة بين العلامات البصرية والتفسيرات اللمسية أشبه بالعلاقة بين الرمز اللغوي وموضوعه؛
14
إذ إن العلامة البصرية لا تشبه الواقع الملموس، ولكنها بالتجربة تصبح دالة عليه، تماما كما يصبح اللفظ دالا على موضوعه بتكرار الارتباط بينهما، رغم عدم وجود أي تشابه بين طبيعتيهما.
ومنذ كتاب «مبادئ المعرفة البشرية» تكتمل عناصر الموقف المثالي بإزالة كل أثر باق للموقف الطبيعي في كتابته، والقول أن جميع الكيفيات سواء في ذاتيتها، فصفات الامتداد والشكل والحركة - التي يزعم أنها توجد في المادة - ليست إلا أفكارا توجد في الذهن، والخطأ الذي وقعت فيه نظريات المعرفة السابقة على باركلي، هو، في رأيه، أنها حاولت الفصل بين الكيفيات الأولى والثانية وجعلت لكل منهما مصدرا مستقلا، بينما يستحيل في واقع الأمر فصل كل من نوعي الكيفيات: فهل يستطيع أحد تصور امتداد أو شكل دون لون أو كيفية أخرى من الكيفيات الثانية؟ والنتيجة الواضحة لهذه المقدمة هي أن جميع صفات ما يسميه الموقف المعتاد ب «الأشياء الخارجية» تتوقف على الذهن الذي يدركها «فلن ينكر أحد أن خواطرنا وانفعالاتنا وأفكارنا التي تتكون بالخيال لا توجد بدون الذهن، ولا يقل عن ذلك وضوحا عندي أن مختلف الإحساسات أو الأفكار التي تنطبع على الحس ... لا يمكن أن توجد إلا في ذهن يدركها، وأعتقد أن المرء يستطيع أن يكتسب معرفة حدسية بهذا إذا ما فكر في المقصود من لفظ «يوجد» عندما يطبق على الأشياء المحسوسة، فأنا أقول عن المنضدة متى أكتب عليها أنها توجد، أي إنني أراها وأحسها، وإذا غادرت غرفتي فسأقول: إنها موجودة، وأعني بذلك أنني لو وجدت في حجرتي فسأدركها، أو أن روحا أخرى معينة تدركها بالفعل، وعندما يقال: إن هناك رائحة، فالمقصود أنها تشم، أو أن هناك صوتا، فالمقصود أنه يسمع ... أما ما يقال عن وجود الأشياء غير المفكرة وجودا مطلقا - دون أية صلة بكونها مدركة - فذلك ما لا أتصوره على الإطلاق، فوجود الأشياء هو كونها مدركة.»
15
هنا يعبر باركلي بوضوح عن أفكار ترددت من بعده بآلاف الصور، وما زالت إلى يومنا هذا تتكرر في أوساط الفلاسفة والعلماء المتفلسفين على السواء، وقد تتخذ شكلا أدق أو أعقد من الشكل الذي اتخذته عند باركلي، ولكنها - على أية حال - لا تخرج في نهاية الأمر عن مثل هذه الأفكار التي كرس باركلي مؤلفاته الفلسفية لعرضها، فعلى المرء أن يرجع إلى فلسفة باركلي كلما أراد تعبيرا واضحا عن الموقف المثالي الذي يرفض جميع عناصر الموقف الطبيعي، كما أن عليه أن يركز حملته على هذه الفلسفة كلما أراد نقد الموقف المثالي والدفاع عن تصور الذهن المعتاد للعالم الخارجي. (1)
والآن، فلنتساءل عن المعنى الحقيقي لفكرة ذاتية الكيفيات، ولنضرب مثلا بأقرب هذه الكيفيات إلى الطبيعة الذاتية - حسب الفرض المثالي - وهي اللون ، إن المثالي يعرض فكرته بقوله: إن هذا الحائط الذي يبدو لي أبيض، ليس «في حقيقته» أبيض، فما هو معنى هذه العبارة الأخيرة؟ ترتد الحجج المثالية التي تبرر هذه الفكرة في نهاية الأمر إلى أن التحليل العلمي للون الأبيض - سواء من ناحية طبيعة الموجات الضوئية أو كيفية التقاط حدقة العين لها - يطلعنا على حقيقة مختلفة عما تطلعنا عليه الحواس في موقفنا المعتاد، وهذا أمر لا يستطيع أحد أن ينكره، ولكن لا يصح أن نستنتج منه أن «الحائط ليس في حقيقته أبيض»؛ إذ إننا عندما نقول: إن الحائط أبيض نقصد أنه في مستوى الإدراك المعتاد أبيض، وهو بالفعل لا يمكن إلا أن يكون كذلك في هذه الحدود.
فالحجة المثالية إذن تنطوي على خلط بين الموقف المعتاد والموقف العلمي التفسيري، وتنقد الأول عن طريق حقائق لا تصح إلا في الثاني، ونستطيع أن ندعم هذا الرأي إذا لاحظنا أن فكرة ذاتية الكيفيات لم يعبر عنها بصورة واضحة إلا بعد وصول العلم إلى مرحلة معينة من التقدم، هي تلك التي أمكن فيها تحليل الألوان والأصوات إلى موجات لها ذبذبات أو أطوال معينة ... إلخ، ومما يزيد هذا الفرض قوة: ما لاحظه آرون
R. Aaron
Shafi da ba'a sani ba