Nazariyyar Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Nau'ikan
ولا شك أن هذا الرأي يتفق تماما مع ما قلناه عن ارتباط الفلسفة بالموقف الطبيعي، ولكن الفارق بين الرأي المعروض في هذا البحث وبين رأي «جينز» يرجع إلى اعتقاد هذا الأخير بأن الحالة العلمية السائدة في عصور هؤلاء الفلاسفة هي التي جعلت معارفهم ترتبط بالعالم الملائم لحجم الإنسان، ففي رأي «جينز» أن مقولات «كانت» تنتمي إلى عصر كان العالم الملائم لحجم الإنسان فيه هو العالم الوحيد الذي يعترف به العلم، في حين أن أي فيلسوف في عصرنا هذا ينبغي عليه أن يستبعد فكرة الجوهر وفكرة العلية؛ لأنهما لا تصحان على عالم الفيزياء الذرية.
وهنا يظهر الفارق بوضوح: فنحن نرى أن مثل هذه المقولات والمبادئ الفلسفية تتحدث عن العالم الملائم لحجم الإنسان لا لأنه هو العالم الذي كان العلم يعرفه في عصر هؤلاء الفلاسفة، بل لأنه هو العالم الذي يحيا فيه الإنسان حياته اليومية، وهذا العالم - بمعناه الأخير - غير متغير، ولا يمكن أن تؤثر فيه أية كشوف علمية، وارتباط الفلاسفة بهذا العالم ارتباط لا مفر منه؛ إذ ليس لديهم من الوسائل ما يمكنهم من تجاوزه، ومن هنا كان الفارق بيننا وبين «جينز» ينحصر في أنه: إذا كان هذا الأخير قد رأى وجوب استبعاد فكرة الجوهر نهائيا في مجال الفكر، على أساس أنها لا تنطبق على عالم الفيزياء الذرية، فإنا نرى أن هذه الفكرة صحيحة في المجال الذي قصد بها الانطباق عليه، وهو مجال الحياة اليومية،
5
وستظل صحيحة في هذا المجال مهما تغير موقف العلم منها، ومهما كشف عن عوالم لا تصح عليها. •••
وإذن فللفلسفة تلك الصفة الفريدة، وهي أنها تبدأ من موضوعات الموقف الطبيعي ذاتها، ولا تملك الوسيلة التي تتيح لها تأمل هذه الموضوعات من منظور مخالف لهذا الرأي، وهي في ذلك تختلف عن العلم، الذي يستطيع بفضل منهجه ومعداته أن يتخذ لنفسه موضوعات خاصة به، لا تشترك مع موضوعات الموقف الطبيعي إلا في البدايات الأولى للعلم فحسب.
ولكن من الملاحظ - من جهة أخرى - أن البحث الفلسفي يؤدي في معظم الأحيان إلى نتائج مضادة للموقف الطبيعي، بل يستهدف القضاء على هذا الموقف منذ البداية، أما العلم فإنه حين يبدو مخالفا للموقف الطبيعي، يتخذ في واقع الأمر ميدانا مستقلا، تاركا الموقف الطبيعي وشأنه.
صحيح أن بعض العلماء قد حاولوا أن ينتقدوا هذا الموقف بناء على نتائج أبحاثهم، غير أن هذا الانتقاد في الواقع تطبيق «فلسفي» للنتائج العلمية وليس جزءا من صميم البحث العلمي، أما في الفلسفة فإن هذا الانتقاد يكاد - بالنسبة إلى معظم المذاهب - يكون نقطة البداية التي لا بد منها للتفلسف، وهكذا يقول العالم: إن هذه المنضدة تكون مجموعة من الذرات والموجات إذا استخدمنا في بحثها المنهج العلمي والمعدات العلمية، وهذا يعني الاعتراف ضمنا بأنك تستطيع أن تعاملها على أنها منضدة بالمعنى المألوف طالما أنك في موقف لا تحتاج فيه إلى استخدام هذه المعدات وهذا النهج، أما الفيلسوف فيقول: إن هذه المنضدة نفسها - كما تدركها أنت - ليست شيئا ماديا خارجيا، وإنما هي ذاتية، وإدراكك لها على أنها شيء خارجي هو إدراك باطل، وهكذا يكون ميدان المعركة في الفلسفة هو موضوعات الموقف الطبيعي ذاتها، ولا يتسنى للفلسفة - طالما أنها تلتزم حدودها - أن تحارب في أي ميدان غير هذا.
والمشكلة التي نود أن نبحثها في الفصول التالية هي: هل الفلسفة على حق حين تعترض على الموقف الطبيعي بقوة المنطق وحدها؟ أعني: هل تستطيع أن تخالف هذا الموقف أو تخرج عنه دون أن يكون لديها ما لدى العلم من وسائل، وأن تدعونا - عن طريق الاستدلالات وحدها - إلى أن ننظر إلى العالم على أنه «ليس» مكونا من أشياء خارجة عنا؟ أليس هناك احتمال قوي في أن تكون استدلالات الفلاسفة هنا باطلة، أو عاجزة عن الوصول إلى هذه النتيجة؟ بل أليس هناك احتمال قوي في ألا تكون المشكلة ذاتها قابلة للحل عن طريق الاستدلال أو المنطق عامة؟
مراحل المثالية
(1) الشك في الحواس
Shafi da ba'a sani ba