Nazariyyar Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Nau'ikan
فأين تقع الفلسفة بين هذين الموقفين؟ أعني هل ينتمي البحث الفلسفي إلى مجال الموقف الطبيعي أم إلى مجال الموقف العلمي؟ مثل هذا السؤال يثير في واقع الأمر مشكلة طبيعة التفكير الفلسفي بأسرها، وهي مشكلة تتعدد الآراء فيها بقدر ما تتعدد المذاهب الفلسفية ذاتها.
ولكي نستطيع أن نحدد المجال الذي ينبغي أن نحصر فيه بحثنا لهذه المسألة، علينا أن نعرض السؤال بطريقة أدق: فما هي بالضبط طبيعة العمل الذي يقوم به الفيلسوف حين يفكر؟ أهو بحث علمي؟ إن الأفكار الفلسفية كثيرا ما أثرت في العلم وتأثرت به، ولكني لا أظن أن الكثيرين يعجزون عن تمييز طبيعة مهمة العالم من مهمة الفيلسوف، فهل يمثل تفكير الفيلسوف إذن تعبيرا عن الموقف الطبيعي؟ الرد المألوف على هذا السؤال هو أن الفلسفة مبحث قائم بذاته، لا تستطيع أن تقول عنه: إنه بحث علمي بالمعنى الدقيق للكلمة، أو مجرد تعبير عن الموقف الطبيعي المعتاد، الذي يكاد الفلاسفة يخرجون عنه في معظم الأحوال.
ومع ذلك، فإن عرض السؤال ما زال في حاجة إلى مزيد من الإيضاح، فقد تحدثنا من قبل عن الموقف الطبيعي من حيث هو موقف الإنسان في حياته العملية المعتادة، حين ينظر إلى العالم على أن فيه «أشياء»، وحين يعد هذه الأشياء ذات وجود مستقل خارج عنه، وذكرنا أن الموقف العلمي يبحث عن أوجه كامنة من وراء الوجه الذي يراه إدراكنا المعتاد؛ وذلك لأغراض مختلفة تماما عن أغراض هذا الإدراك، أعني لأغراض الفهم والتفسير، لا السلوك العملي والحيوي وحده، والآن فما الذي يتيح للعلم اتخاذ مثل هذا الموقف المستقل عن الموقف الطبيعي؟ أعني كيف يتسنى له أن يكون عن عالمنا هذا صورة مختلفة عن تلك التي نكونها في حياتنا اليومية؟ لا شك أن الذي أتاح له ذلك هو المنهج من جهة، والمعدات من جهة أخرى، فبفضل المنهج المنظم الدقيق وبفضل الآلات العلمية - بأوسع معاني هذه الكلمة - أمكن كشف هذه الصور المتعاقبة للعالم، التي يزيدها العلم دقة على الدوام كلما تقدمت مناهجه ومعداته.
ولكن هل توافر لدى الفيلسوف مثل هذا المنهج وهذه المعدات؟ أما المعدات فهي بطبيعة الحال منعدمة تماما، وأما المنهج فهو ما اعتدنا أن نسميه في الفلسفة «دقة التفكير»، وهو لا يعدو - في رأيي - أن يكون قدرة الفيلسوف على اتباع قواعد الاستدلال دون خطأ، وهذا التعريف للمنهج - فضلا عن ذلك - نظري بحت، ويمكن أن يؤدي إلى نتيجة عكسية؛ إذ إن الإلمام الدقيق بقواعد الاستدلال يكسب المرء قدرة خفية على الخروج على هذه القواعد بطريقة بارعة لا يسهل كشفها، ومن هنا كانت تلك الأخطاء الاستدلالية التي لم يسلم منها فيلسوف، والتي لا نستطيع أن نقول: إنها كلها ترتكب عن عمد، ولكنها تدل - على أية حال - على أن منهج الفلسفة مخالف للمنهج العلمي؛ لأن الأخير - رغم قابليته للتطور والتجديد المستمر - ينمو بطريقة تراكمية إلى حد ما، بينما لا تزال أكثر الموضوعات الفلسفية الأولية موضوعا للجدل حتى اليوم.
وإذن فليست لدى الفيلسوف «وسائل» كتلك التي تمكن بها العلم من الخروج عن الموقف المعتاد، وهنا تبدأ تلك الصفات المميزة للفلسفة في الظهور، فالفلسفة تبدأ بالفعل من موقفنا الطبيعي، و«الموضوعات» التي يبحثها الفيلسوف - ولا سيما في ميدان نظرية المعرفة - هي بعينها موضوعات الموقف الطبيعي، وقد يقال: إن العالم أيضا يبدأ من موضوعات الموقف الطبيعي، ولكن الواقع أن هذه ما هي إلا نقطة البداية الأولى، التي سرعان ما يتجاوزها العالم بقدر ما يمكنه منهجه ومعداته من تحويل الكيفيات في موضوعات الموقف الطبيعي إلى كميات، أما الفيلسوف فإنه يظل حتى النهاية في حدود هذه الموضوعات، ومع ذلك فإنه يريد منا في معظم الأحيان أن نصور هذه الموضوعات بصورة مخالفة لصورتها في موقفنا الطبيعي، وذلك بقوة قواعد الاستدلال وحدها.
والآن، فلنضرب بعض الأمثلة الكفيلة بتوضيح العبارات المجردة السابقة، فحين يشرح باركلي فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركا»، يلجأ دائما إلى أمثلة كهذه: «إنني حين أقول عن المنضدة التي أكتب عليها: إنها توجد، أعني أنني أراها وأحسها، وإذا غادرت غرفتي فسأقول: إنها موجودة، بمعنى أنني لو وجدت في غرفتي فسأدركها، أو أن روحا أخرى معينة تدركها بالفعل.»
1
وحين يناقش هيوم اعتقادنا بوجود فئة معينة من الانطباعات وجودا مستمرا، يضرب أمثلة كهذه: «تلك الجبال والبيوت والأشجار - التي تقع عليها الآن أنظاري - قد بدت لي دائما في نفس النظام، وعندما لا أعود أراها بإغماض عيني أو إدارة رأسي، فسرعان ما أجدها تعود إلي دون أدنى تغيير ...»
2
وحين يتحدث عن فكرة الوجود الخارجي للأشياء، يشرح رأيه من خلال هذا المثل: «إن نفس هذه المنضدة التي نراها بيضاء، ونشعر بصلابتها عند اللمس، يعتقد أنها توجد مستقلة عن إدراكنا، وأنها شيء خارج عن ذهننا الذي يدركها، وحضورنا لا يضفي وجودا عليها، كما أن غيابنا لا يزيلها، وهي تحتفظ بوجودها مطردا كاملا، مستقلا عن حالة الكائنات العاقلة التي تدركها أو تتأملها.
Shafi da ba'a sani ba