مقدمة لجامع الكتاب
1 - في نوادر البرامكة
2 - فى نوادر معن بن زائدة
3 - في نوادر حاتم الطائي
4 - في نوادر الخليفة المهدي
5 - في نوادر الخليفة هارون الرشيد
6 - في نوادر الأمين والمأمون
7 - نوادر متفرقة في الكرم
مقدمة لجامع الكتاب
1 - في نوادر البرامكة
2 - فى نوادر معن بن زائدة
3 - في نوادر حاتم الطائي
4 - في نوادر الخليفة المهدي
5 - في نوادر الخليفة هارون الرشيد
6 - في نوادر الأمين والمأمون
7 - نوادر متفرقة في الكرم
نوادر الكرام
نوادر الكرام
في الجاهلية والإسلام
تأليف
إبراهيم زيدان
مقدمة لجامع الكتاب
ما عبس وجه فقير أو أقطب حاجب معوز إلا وكان البخل سببه، والإمساك باعثا عليه، كأن يد البخيل مطبقة آلة كهربائية يمتد مجراها إلى كل طالب محتاج فيؤثر فيه دلائل الأسى وينقل إليه شكلها المنقبض، فيعود ذلك المسكين بقلب منكسر ونفس صغيرة يتهدده الجوع وما من مدافع، وينتابه الهلاك، وما من ناظر إليه أو عاطف عليه فيكاد يقضي بين ذلك لولا يد كريم تغار عليه فتنشله من هوة الفقر والهلاك بآلة تسطو على تلك الآلة الكهربائية وهي «الإحسان»، فتبطل تأثيرها ببعض دريهمات يبتسم لها وجه من عبثت به يد الأقدار، وينشرح لأجلها صدر من ضيقت عليه عوامل القضاء، فيكون قد خلص نفسا كادت تفارق الحياة بما يكسبه ثناء أهل الأرض وأجرا عظيما من رب السماء.
وهاك ما ورد في مدح الكرم وذم البخل:
وما ضاع مال أورث الحمد أهله
ولكن أموال البخيل تضيع •••
وليست أيادي الناس عندي غنيمة
ورب يد عندي أشد من الأسر •••
إذا كنت جماعا لمالك ممسكا
فأنت عليه خازن وأمين
تؤديه مذموما لي غير حامد
فيأكله عفوا وأنت دفين •••
ويظهر عيب المرء في الناس بخله
ويحجبه عنهم جميعا سخاؤه
تردى بأثواب السخاء فإنني
أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه •••
أترجو أن تسود بلا عناء
وكيف يسود ذو الدعة البخيل •••
ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد
ولا المجد في كف امرئ والدراهم
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم •••
ليس يعطيك للرجاء ولا لل
خوف لكن يلذ طعم العطاء •••
فإنك لا تدري إذا جاء سائل
أأنت بما تعطيه أم هو أسعد •••
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه
لا يذهب العرف بين الله والناس •••
يد المعروف غنم حيث كانت
تحملها كفور أم شكور
ففي شكر الشكور لها جزاء
وعند الله ما كفر الكفور •••
خل إذا جئته يوما لتسأله
أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفي صنائعه والله يظهرها
إن الجميل إذا أخفيته ظهرا •••
اعمل الخير ما استطعت وإن
كان قليلا فلن تحيط بكله •••
إن الصنيعة لا تكون صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا صنعت صنيعة فاعمل بها
لله أو لذوي القرابة أو دع •••
لعمرك ما المعروف في غير أهله
وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده
ومستودع ما عنده غير ضائع •••
وما الناس في شكر الصنيعة عندهم
وفي كفرها إلا كبعض المزارع
فمزرعة طابت وأضعف نبتها
ومزرعة أكدت على كل زارع •••
أبقيت مالك ميراثا لوارثه
فليت شعري ما أبقى لك المال
القوم بعدك في حال تسرهم
فكيف بعدهم حالت بك الحال
ملوا البكاء فما يبكيك من أحد
واستحكم القول في الميراث والقال
ألهتهم عنك دنيا أقبلت لهم
وأدبرت عنك والأيام أحوال •••
إذا كنت ذا مال ولم تك ذا ندى
فأنت إذا والمقترون سواء
على أن في الأموال يوما تباعة
على أهلها والمقترون براء
لأبي مسلم الخولاني:
إن المكارم كلها حسن
والبذل أحسن ذلك الحسن
كم عارف بي لست أعرفه
ومخبر عني ولم يرني
يأتيهم خبري وإن بعدت
داري وموعد عنهم وطني
إني لحر المال ممتهن
ولحر عرضي غير ممتهن
ولعبد العزيز بن مروان:
إذا طارقات الهم صاحبت الفتى
وأعمل فكر الليل والليل عاكر
وباكرني في حاجة لم يجد لها
سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همه عن كرامة
وزاوله الهم الطروق المساور
وكان له فضل علي بظنه
في الخير إني للذي ظن شاكر
ولغيره:
من ظن بالله خيرا جاد مبتدءا
والبخل من سوء ظن المرء بالله
ولغيره مضمنا قول بزرجمهر:
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة
فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها
فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وقيل أيضا:
يا من تجلد للزما
ن أما زمانك منك أجلد
سلط نهاك على هوا
ك وعد يومك ليس من غد
إن الحياة مزارع
فازرع بها ما شئت تحصد •••
والناس لا يبقى سوى
آثارهم والعين تفقد
أوما سمعت بمن مضى
هذا يذم وذاك يحمد
المال إن أصلحته
يصلح وإن أفسدت يفسد
ولحاتم الطائي:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله
ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى
ولكنما وجه الكريم خصيب
ولبكر بن النطاح:
أقول لمرتاد الندى عند مالك
تمسك بجدوى مالك وصلاته
فتى جعل الدنيا وفاء لعرضه
فأسدى بها المعروف قبل عداته
فلو بددت أمواله جود كفه
لقاسم من يرجوه شطر حياته
وإن لم يجز في العمر قسم لمالك
وجاز له أعطاه من حسناته
وجاد بها من غير كفر بربه
وإشراكه في صومه وصلاته
ولآخر:
ملأت يدي من الدنيا مرارا
وما طمع العواذل في افتقادي
ولا وجبت علي زكاة مال
وهل تجب الزكاة على الجواد
ولغيره:
عطاؤك لا يغني ويستغرق الثنا
وتبقى وجوه الراغبين بمائها
ولابن عبد ربه:
كريم على العلات جزل عطاؤه
ينيل وإن لم يعتمد لنوال
وما الجود من يعطي إذا ما سألته
ولكن من يعطي بغير سؤال
وللحسن بن هانئ:
فإن تولني منك الجميل فأهله
وإلا فإني عاذر وشكور
ولحاتم الطائي:
قد تأولت فيك قول رسول
الله إذ قال مفصحا إفصاحا
إن طلبتم حوائجا عند قوم
فتنقوا لها الوجوه الصباحا
فلعمري لقد تنقيت وجها
ما به خاب من أراد النجاحا
وإليك ما ورد في مدح الكرم وذم البخل:
قال أكثم بن صيفي حكيم العرب: «ذللوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلموها المكارم، ولا تقيموا على خلق تذمونه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتحلوا بالجود يلبسكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل فيوافيكم الفقر».
وقال خالد بن عبد الله القسري وهو على المنبر: «أيها الناس عليكم بالمعروف، فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه، وما ضعفت الناس عن أدائه قوى الله على جزائه».
وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر: «من رزقه الله رزقا حسنا فلينفق منه سرا وجهرا حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما ترك لأحد رجلين، أما المصلح فلا يقل عليه شيء، وأما المفسد فلا يبقى له شيء».
قال بزرجمهر: «إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تبقى».
وكان كسرى يقول: «عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله، ولو أن أهل البخل لم يدخل على من ضر بخلهم ومذمة الناس لهم وإطباق القلوب على بغضهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عظيما».
وقال عبد الله بن عباس: «سادات الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء».
وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي: «كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة أشد من حاجة صاحب الحاجة».
وقالت أسماء بنت خارجة: «أحب أن لا أرد أحدا في حاجة طلبها؛ لأنه لا يخلو أن يكون كريما فأصون له عرضه، أو يكون لئيما فأصون عرضي عنه».
وقيل: «الأيام مزارع فما زرعت فيها تحصد».
وقال الأحنف بن قيس: «ما ادخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء شيئا أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب».
وقيل: «أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظمه بالتصغير له».
وقالت الحكماء: «من تمام كرم المنعم التغافل عن حجته، والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته».
وقيل أيضا: «للمعروف ثلاث خصال: تعجيله وتيسيره وتستيره؛ فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه وسقط عنه الشكر».
وللنبي
صلى الله عليه وسلم : «من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه، فإن لم يقم بتلك المؤونة عرض النعمة للزوال».
وقال جعفر بن محمد: «لله خلقا من رحمته برحمته لرحمته، وهم الذين يقضون حوائج الناس، فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن».
وقال الإمام علي رضي الله عنه لأصحابه: «من كانت له إلي منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن المسألة ».
وقيل: «من بذل إليك وجهه فقد وفاك حق نعمتك».
وقيل: «أكمل الخصال ثلاث: وقار بلا مهابة، وسماح بلا طلب مكافأة، وحلم بغير ذل».
وقيل أيضا: «السخي من كان مسرورا ببذله، متبرعا بعطائه، لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله، ولا طلب مكافأة فيسقط شكره، ويكون مثله مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر لا يريد نفعها ولكن نفع نفسه».
محتويات كتاب نوادر الكرام:
القسم الأول:
في نوادر البرامكة
الثاني:
معن بن زائدة.
الثالث:
حاتم الطائي.
الرابع:
الخليفة المهدي.
الخامس:
هارون الرشيد.
السادس:
الأمين والمأمون.
السابع:
متفرقة في الكرم.
الفصل الأول
في نوادر البرامكة
الفضل بن يحيى وزائره
بينما كان الفضل بن يحيى في مجلسه محاطا بالوزراء والأحشاد أتاه الحاجب فقال: إن بالباب رجلا قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يدا عليك يكاد يميته كتمانها، فقال: أدخله، فدخل رجل جميل رث الثياب، فسلم بأفصح لسان، فأومأ إليه بالجلوس، فجلس، فسأله: ما حاجتك؟ قال: هل رأيت ما أنا عليه من رثاثة الثياب وضيق ذات اليد؟ قال: أجل، فما الذي لك علينا وقد كاد يقضي عليك كتمانه؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك، قال: أما الجوار فقد يمكن حصول ما ذكرت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أن يوم ولادتي كان موافقا يوم ولادتك، وأن والدك سماك الفضل فسمتني فضيلا إعظاما لاسمك وخشية أن ألحق بعالي مجدك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون، قال: صدقت هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما حال أمك؟ قال: توفيت رحمها الله، قال: فما منعك عن اللحوق بنا فيما مضى؟ قال: لم أرض بمقابلتك في زمن حداثة يقعدني عن لقاء الملوك، قال: يا غلام أعطه لكل عام من سنيه ألفا، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له، فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله.
يحيى بن خالد وأحد التجار
اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال:
سأرسل بيتا ليس في الشعر مثله
يقطع أعناق البيوت الشوارد
أقام الندى والبأس في كل منزل
أقام به الفضل بن يحيى بن خالد
فأمر له بمائة ألف درهم.
مروان بن أبي حفصة وزبيدة ابنة جعفر
قال أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتا ورفعها إلى زبيدة ابنة جعفر يمتدح ابنها محمدا وفيها يقول:
لله درك يا عقيلة جعفر
ماذا ولدت من العلا والسؤدد
إن الخلافة قد تبين نورها
للناظرين على جبين محمد
فأمرت أن يملأ فمه درا.
الفضل بن يحيى وأبو علي بن الجهم
قال أبو علي بن الجهم: أصبحت يوما وأنا في غاية من الضيق ما أهتدي إلى دينار ولا درهم ولا أملك إلا دابة عجفاء، وخادما خلقا وطلبت الخادم فلم أجده ثم جاء فقلت: أين كنت؟ فقال: في اجتهاد شيء لك وعلف لدابتك، فوالله ما قدرت عليه، فقلت: أسرج لي دابتي، فأسرجها، فركبت، فلما صرت في سوق يحيى إذا أنا بموكب عظيم، وإذا الفضل بن يحيى، فلما أبصرني قال: سر، فسرت قليلا، وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقا على باب ينادي جارية، فوقف الفضل طويلا، ثم قال: سر، فسرت، ثم قال: تدري ما سبب وقفتي؟ قلت: إن رأيت أن تعلمني، قال: كانت لأختي جارية وكنت أحبها حبا شديدا، وأستحي من أختي أن أطلبها منها، ففطنت أختي لذلك، فلما كان هذا اليوم ألبستها وزينتها وبعثت بها إلي، فما كان من عمري يوم أطيب من يومي هذا، فلما كان هذا الوقت جاءني رسول أمير المؤمنين فأزعجني وقطع لذتي، ولما صرت إلى هذا المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية فارتحت إلى ندائه، فقلت: أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث قال:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائرا كان في صدري
فقال: اكتب لي هذين البيتين، فعدلت لأطلب ورقة أكتب له هذين البيتين فيها، فلم أجد، فرهنت خاتمي عند بقال وأخذت ورقة وكتبتهما وأدركته بها، فقال لي: ارجع إلى منزلك فرجعت ونزلت، فقال لي الخادم: أعطني خاتمك أرهنه على قوتنا، فقلت: قد رهنته، فما أمسيت حتى بعث لي بثلاثين ألف درهم جائزة وعشرة آلاف سلفا عن شهر برزق أجراه لي في كل شهر.
جعفر والرشيد
لما غضب الرشيد على البرامكة، أصيب في خزانة الجعفر جرة فيها ألف دينار ونيف، كل دينار منها وزنه مائة مثقال ومثقال، على أحد جانبي كل دينار منها مكتوب:
واصفر من ضرب دار الملوك
يلوح على وجهه جعفر
يزيد على مائة واحد
متى تعطه معسرا يوسر
ابن العلوي والفضل
قال عبد الله بن العلوي: «أتيت الفضل بن يحيى فأكرمني وأجلسني معه على فراشه، فكلمته في ديني ليكلم أمير المؤمنين في قضائه عني، قال: وكم دينك؟ قلت: ثلاثمائة ألف درهم، قال: نعم، فخرجت من عنده وأنا مغموم لضعف رده علي، فمررت ببعض إخواني مستريحا إليه، ثم صرت إلى منزلي فوجدت المال قد سبقني من ماله خاصة.
هبات الفضل بن يحيى
وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعاتبه أبوه في هذا، فقال: إن هذا صحبني وأنا لا أملك شيئا، واجتهد في نصيحتي، وقال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
من كان يصحبهم في المركب الخشن
أبان بن عبد الحميد مع البرامكة
قيل: «إن أبان بن عبد الحميد الشاعر مولى بني (رقاش) قدم بغداد واتصل بالبرامكة، وعمل كتاب كليلة ودمنة شعرا، وله قصائد ومدائح في الرشيد والفضل بن يحيى».
ويقال: إن كل كلام نقل إلى الشعر، فالكلام أفصح منه إلا هذا، وأول قصيدته هذه قوله:
هذا كتاب أدب ومحنه
وهو الذي يدعى كليلة ودمنه
وعددها أربعة عشر ألف بيت مزدوجة في ثلاثة أشهر، قال: فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، فتصدق بثلث المال الذي أخذه.
حسن شمائل يحيى بن خالد
من كلامه: إن من بلغ رتبة فتاه بها فاعلم أن محله دونها . وقال: يدل على كرم المرء سوء أدب غلمانه. وقال لابنه: خذ من كل علم طرفا، فإن من جهل شيئا عاداه. وقال: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية، والكتاب، والرسول. وكان يقول لأولاده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وكان يقول: إذا أقبلت الدنيا، فأنفق، فإنها لا تغني، وإذا ولت فأنفق فإنها لا تبقى وإليه أشار الشاعر:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها
على الناس طرا قبل أن تتفلت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت
ولا البخل يبقيها إذا هي ولت
وكان صلات يحيى إذا ركب بأن يعرض له في طريقه مائتا درهم، فركب ذات يوم فعرض له أديب شاعر فقال له:
يا سمي الحصور يحيى أتيحت
لك من فضل ربنا حنتان
كل من مر في الطريق عليكم
فله من نوالكم مائتان
مائتا درهم لمثلي قليل
هي منكم للعابر العجلان
قال يحيى: صدقت، فأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله، فذكر له أنه كان تزوج وحلف بواحدة من ثلاث، إما أن يؤدى المهر وهو أربعة آلاف، وأما أن يطلق، وإما أن يقيم مجريا للمرأة ما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر وأربعة آلاف ثمن منزل، وأربعة آلاف للبنية، وأربعة آلاف لما يحتاج إليه، وأربعة آلاف ليستظهر بها فأخذ عشرين ألف درهم.
مديح يحيى بن خالد
وكان يحيى بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل نهار ألف درهم، فلما مات يحيى كان سفيان يقول في سجوده: اللهم إن يحيى بن خالد كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته.
حديث البرامكة في السجن
قال ابن خالد البرمكي لأبيه يحيى وهم في القيود، ولبس الصوف، والحبس: يا أبتاه بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة، أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس، فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول:
رب أقوام غدوا في نعمة
زمنا والدهر ربان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم
ثم أبكاهم دما حين نطق
جعفر البرمكي وأحمد بن جنيد
قال أحمد بن جنيد الإسكافي - وكان أحضر الناس بجعفر البرمكي خص، فكان الناس يقصدونه في حوائجهم إلى جعفر، وإن رقاع الناس كثرت في خف أحمد بن الجنيد فلم تزل إلى أن تهيأ له الخلوة بجعفر -، فقال له: جعلني الله فداءك، قد كثرت رقاع الناس معي وأشغالك كثيرة، وأنت اليوم خال، فإن رأيت أن تنظر فيها، قال له جعفر: على أن تقيم عندي اليوم، فقال: نعم، وصرف دوابه وأقام عنده، فلما تغذوا جاءه بالرقاع، فقال له: هذا وقت راحة فدعنا اليوم، فأمسك عنه وانصرف فلم ينظر في الرقاع، فلما كان بعد أيام خلا به فأذكره، فقال: نعم، على أن تقيم عندي اليوم فأقام عنه، ففعل به مثل الفعل الأول حتى فعل به ذلك ثلاثا، فلما كان في آخر يوم أذكره، فقال: دعني الساعة، وناما، فانتبه جعفر قبل أحمد بن الجنيد، فقال لخادم له: اذهب إلى خف أحمد فجئني بكل رقعة فيه، ولا يعلمه أحمد، فذهب الغلام وجاء بالرقاع فوقع جعفر فيها عن آخرها بخطه بما أحب أصحابها، ووكد ذلك ثم أمر الغلام أن يردها إلى الخف، فردها، فانتبه أحمد، فلم يقل له فيها شيئا وانصرف بها أياما، قال أحمد بن جنيد لكاتبه: ويحك، هذه الرقاع قد أخلقت خفي، وهذا ليس ينظرها فتصفحها وجدد ما أخلق منها، فأخذها الكاتب فنظر فيها، فوجد الرقاع موقعا عليها بما سأل أصحابها وأكثر، فتعجب من كرمه ونبل أخلاقه، ومن أنه قضى حاجته ولم يعلم بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه.
جود خالد بن برمك
روى الجاحظ قال: كان أصحابنا يقولون لم يكن يرى لجليس خالد بن برمك دارا إلا خالد قد بناها، ولا ضيعة إلا وهو قد اشتراها ولا ولدا إلا وهو اشترى أمه إن كانت أمة، وأمهرها إن كانت حرة، ولا دابة إلا هي من دوابه، وكان خالد البرمكي أول من سمى أهل الاستماحة والاسترفاد الزوار فقال بعض من قصده:
حذا خالد في جوده حذو برمك
فمجد له مستطرف وأثيل
وكانوا بنو الإعدام يدعون قبله
بلفظ على الإعدام فيه دليل
يسمون بالسؤال في كل موطن
وإن كان فيهم نابه وجليل
فسماهم الزوار سترا عليهم
وإستاره في المجتدين سدول
العطايا الثلاث التي وهبها الرشيد ويحيى وولداه
حج هارون الرشيد مرة ومعه يحيى بن خالد وولداه الفضل وجعفر، فلما وصلوا إلى المدينة جلس الرشيد ومعه يحيى فأعطيا الناس، وجلس الأمين ومعه الفضل بن يحيى فأعطيا الناس، وجلس المأمون ومعه جعفر فأعطيا الناس، فأعطوا في تلك السنة ثلاث أعطيات ضربت بكثرتها الأمثال، وكانوا يسمونه عام الأعطيات الثلات، وأثري الناس بسبب ذلك.
الفضل بن يحيى والشاعر
ولاه الرشيد خراسان فخرج إليه أبو الهول الشاعر مادحا معتذرا من شعر كان هجاه به فأنشده:
سرى نحوه من غضبة الفضل عارض
له لجة فيها البوارق والرعد
وكيف ينام الليل ملق فراشه
على مدرج يعتاده الأسد الورد
وما لي إلى الفضل بن يحيى بن خالد
من الجرم ما يخشى على مثله الحقد
فجد بالرضى لا أبتغي منك غيره
ودأبك فيما كنت عودتني بعد
فقال له الفضل: لا أحتمل تفريقك بين رضاي وإحساني وهما مقرونان، فإن أردتهما معا وإلا فدعهما معا، ثم وصله ورضي عنه.
الفضل وإسحاق الموصلي والجارية
حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كنت قد ربيت جارية وثقفتها وعلمتها حتى برعت، ثم أهديتها إلى الفضل بن يحيى، فقال لي: يا إسحاق إن رسول صاحب مصر قد ورد إلي يسألني حاجة أقترحها عليه، فدع هذه الجارية عندك فإني سأطلبها وأعلمه أني أريدها، فإنه سوف يحضر إليك ويساومك فيها فلا تأخذ فيها أقل من خمسين ألف دينار. قال إسحاق: فمضيت بالجارية إلى منزلي فجاء إلي رسول صاحب مصر وسألني عن الجارية فأخرجتها إليه، فبذل فيها عشرة آلاف دينار فامتنعت، فصعد إلى عشرين ألف دينار فامتنعت، فصعد إلى ثلاثين ألفا فما ملكت نفسي حتى قلت له: بعتك، وسلمت الجارية إليه وقبضت المال، ثم إنني أتيت من الغد إلى الفضل بن يحيى فقال: يا إسحاق بكم بعت الجارية؟ قلت: بثلاثين ألف دينار، قال: ألم أقل لك لا تأخذ منه أقل من خمسين ألفا؟ قلت: فداك أبي وأمي والله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين، فتبسم ثم قال: إن رسول صاحب الروم قد سألني أيضا حاجة وسأقترح عليه هذه الجارية وأدله عليك، فخذ جاريتك وانصرف إلى منزلك فإذا ساومك فيها فلا تأخذ منه أقل من خمسين ألف دينار.
فأخذت الجارية وانصرفت إلى منزلي، فأتاني رسول صاحب الروم وساومني في الجارية، فطلبت خمسين ألفا فقال: هذا كثير، ولكن تأخذ مني ثلاثين ألفا، فوالله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين ألفا حتى قلت له: بعتك، ثم قبضت المال منه وسلمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل بن يحيى فقال: ما صنعت؟ وبكم بعت الجارية يا إسحاق؟ قلت: بثلاثين ألفا، فقال: سبحان الله، ما أوصيتك أن لا تأخذ فيها أقل من خمسين ألفا؟ قلت: جعلت فداك والله إني لما سمعت قوله ثلاثين ألفا استرخت جميع أعضائي، فضحك وقال: خذ جاريتك واذهب إلى منزلك ففي غد يجيء إليك رسول صاحب خراسان فقو نفسك ولا تأخذ منه أقل من خمسين ألفا.
قال إسحاق: فأخذت الجارية ومضيت إلى منزلي، فجاءني رسول صاحب خراسان وساومني فيها فطلبت خمسين ألفا فقال لي: هذا كثير، ولكن تأخذ ثلاثين ألفا، فقويت نفسي وامتنعت، فصعد معي إلى أربعين ألف دينار، فكاد عقلي يذهب من الفرح ولم أتمالك أن أقول له بعتك، فأحضر المال وأقبضنيه وسلمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل فقال لي: بكم بعت الجارية؟ قلت: بأربعين ألفا، ووالله لما سمعتها منه كاد عقلي يذهب، وقد حصل عندي جعلت فداك مائة ألف دينار ولم يبق لي أمل، فأحسن الله جزاءك، فأمر بالجارية فأخرجت إلي وقال: يا إسحاق خذ جاريتك وانصرف، قال إسحاق: فقلت هذه الجارية والله أعظم الناس بركة، فأعتقتها وتزوجتها فولدت لي أولادي.
عمر بن العباس والفضل
قيل: إن محمد بن العباس حضر يوما عند الفضل بن يحيى ومعه سفط فيه جوهر، وقال له: إن حاصلي قد قصر عما أحتاج إليه، وقد علاني دين مقداره ألف ألف درهم وإني أستحي أن أعلم أحدا بذلك، وآنف أن أسأل أحدا من التجار أن يقرضني ذلك وإن كان معي رهن يفي بالقيمة، أبقاك الله لك تجار يعاملونك، وأنا أسألك أن تقرض لي من أحدهم هذا المبلغ وتعطيه هذا الرهن، فقال له الفضل: السمع والطاعة ولكن تقضي هذه الحاجة أن تقيم عندي اليوم، فأقام عنده، ثم إن الفضل أخذ السفط منه وهو مختوم بختمه وأرسل معه ألف ألف درهم وأنفذ الدراهم والسفط إلى منزله، وأخذ خط وكيله بقبضه، فأقام محمد في دار الفضل إلى آخر النهار، ثم انصرف إلى داره فوجد السفط ومعه ألف ألف درهم، فسر بذلك سرورا عظيما، فلما كان من الغد بكر إلى الفضل ليشكره على ذلك، فوجده قد بكر إلى دار الرشيد، فمضى محمد إلى دار الرشيد، فحين علم به خرج بباب آخر ومضى إلى منزله، فمضى محمد إليه واجتمع به وشكره على فعله وقال: إني بكرت إليك لأشكرك على إحسانك، فقال له الفضل: إني فكرت في أمرك فرأيت أن هذه الألف ألفا التي حملتها أمس إليك تقضي بها دينك ثم تحتاج إليه فتقترض، فبعد قليل يعلوك مثلها، فبكرت اليوم إلى أمير المؤمنين وعرضت عليه حالك وأخذت لك منه ألف ألف درهم أخرى، فلما حضرت إلى باب أمير المؤمنين خرجت أنا بباب آخر، وكذلك فعلت لما حضرت إلى باب أبي لأني ما كنت أوثر أن ألقاك حتى يحمل المال إلى منزلك، وقد حمل، فقال له محمد: بأي شيء أجازيك على هذا الإحسان، ما عندي شيء أجازيك به إلا أني ألتزم بالأيمان المؤكدة وبالطلاق والعتاق والحج إني ما أقف على باب غيرك ولا أسأل سواك، قيل: وحلف محمد أيمانا مؤكدة وكتب بها خطه وأشهد به عليه أن لا يقف بباب غير الفضل بن يحيى، فلما ذهبت دولة البرامكة وتولى الفضل بن الربيع الوزارة بعدهم احتاج محمد فقالوا له: لو ركبت إلى الفضل بن الربيع، فلم يفعل والتزم باليمين، فلم يركب إلى أحد ولم يقف على باب أحد حتى مات.
جعفر وعبد الملك بن صالح بن العباس
قيل: إن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يوما للشرب وأحب الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم وجلس معهم وقد هيئ المجلس ولبسوا الثياب المصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب أن لا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان، وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل، فاتفق أن هذا عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وأن لا يدخل غيره، فأذن الحاجب له فدخل عبد الملك بن صالح العباس على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله أن يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصة وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا، فأحضر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه وقال: اسقونا من شرابكم فسقوه رطلا وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا، ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحا عظيما وقال له: ما حاجتك، قال: جئت - أصلحك الله - في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها، أولها، أن علي دينا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه، ثانيا، أريد ولاية لابني يشرف بها قدره، وثالثها، أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة، فإنها بنت عمه وهو كفء لها، فقال جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث: أما المال ففي هذا المساء يحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليت ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله، فراح عبد الملك إلى منزله، فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد حضر عند الرشيد وعرفه ما جرى وإنه قد ولاه مصر وزوجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
في المكافأة
قال الحسن بن سهل: كنت يوما عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلى في مجلسه لإحكام أمر من أمور الرشيد، فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم، ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قياما أحمد بن أبي خالد الأحول فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال: يا بني إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثا فإذا فرغت من شغلي هذا فذكرني أحدثك، فلما فرغ من شغله وطعم قال له ابنه الفضل: أعزك الله يا أبي أمرتني أن أذكرك حديث أبي خالد الأحول، قال: نعم يا بني، لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرا لا يملك شيئا فاشتد به الأمر إلى أن قال لي من في منزلي: إن كتمنا حالنا زاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به، قال: فبكيت لذلك يا بني بكاء شديدا، وبقيت ولهان حيران مطرقا مفكرا ثم تذكرت منديلا كان عندي فقلت لهم: ما حال المنديل، فقالوا هو باق عندنا، فقلت: ادفعوه إلي، فأخذته ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له: بعه بما يسر، فباعه بسبعة عشر درهما، فدفعتها إلى أهلي وقلت: أوقفوها إلى أن يرزق الله غيرها، ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي، فإذا الناس وقوفا على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبا، فلما رآني سلم علي وقال: كيف حالك؟ فقلت: يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلا بسبعة عشر درهما، فنظر إلي نظرا شديدا وما أجابني جوابا، فرجعت إلى أهلي كسير القلب وأخبرتهم ما اتفق لي مع أبي خالد، فقالوا: بئس والله ما فعلت، توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك، فأزريت عنه بنفسك وصغرت عنه منزلتك بعد أن كنت عنده جليلا، فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين، فقلت: قد قضي الأمر الآن بما يمكن استدراكه، فلما كان من الغد بكرت إلى الخليفة، فلما بلغت الباب استقبلني رجل فقال لي: قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين، فلم ألتفت لقوله، فاستقبلني آخر فقال لي كمقالة الأول، ثم استقبلني حاجب أبي خالد فقال لي: أين تكون قد أمرني أبو خالد بإجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين، فجلست حتى خرج، فلما رآني دعاني وأمر لي بمركوب فركبت وسرت معه في منزله، فلما نزل قال: علي بفلان وفلان الحناطين ،فأحضرا، فقال لهما: ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم؟ قالا: نعم، قال: ألم أشترط عليكما شركة رجل معكما، قالا: بلى، قال: هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما، ثم قال لي: قم معهما، فلما خرجنا قالوا لي: ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون فيه الربح الهنيء، فدخلنا مسجدا، فقالا لي: إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء، فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله لك فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف؟ فقلت لهما: وكم تبذلان لي، فقالا: مائة ألف درهم، فقلت: لا أفعل، فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى أن قالا لي: ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا، فقلت: حتى أشاور أبا خالد، قالا : ذلك لك، فرجعت إليه وأخبرته، فدعا بهما وقال لهما: هل وافقتماه على ما ذكر، قالا: نعم، قال: اذهبا فقبضاه المال الساعة، ثم قال لي: أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل، فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به، فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار، ثم قال لولده الفضل: يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاؤه؟ قال: حق لعمري وجب عليك له، فقال: والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي وأوليه، ففعل ذلك، وهكذا تكون المكافأة.
سعيد بن سالم الباهلي مع الفضل وجعفر
قال سعيد بن سالم الباهلي: اشتد بي الحال في مرض هارون الرشيد واجتمع علي ديون كثيرة أثقلت ظهري وعجزت عن قضائها، وضاقت حيلي، وبقيت متحيرا لا أدري ما أصنع حيث عسر علي أداؤها عسرا عظيما، واحتاطت ببابي أرباب الديون، وتزاحم علي المطالبون ولازمني الوفاء، فضاقت حيلي وازدادت فكرتي، فلما رأيت الأمور متعسرة، والأحوال متغيرة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي والتمست منه أن يمدني برأيه، ويرشدني إلى باب الفرج بحسن تدبيره، فقال عبد الله بن مالك الخزاعي: لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمك إلا البرامكة، فقلت: ومن يقدر على احتمال تكبرهم ويصبر على تجبرهم؟ فقال: تحمل ذلك لأجل إصلاح حالك، فنهضت من عنده ومضيت إلى الفضل وجعفر ولدي يحيى بن خالد وقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما حالتي، فقالا: أسعدك الله بعونه وأغناك عن خلقه بمنه، وأجزل لك عظيم خيره، وقام لك بالكفاية دون غيره، إنه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.
فانصرفت من عندهما ورجعت إلى عبد الله بن مالك ضيق الصدر متحير الفكر منكسر القلب وأعدت ما قالاه، فقال: ينبغي أن تقيم اليوم عندنا لننظر ما يقدره الله تعالى، فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل وقال: يا سيدي إن ببابنا بغالا كثيرة بأحمالها ومعها رجل يقول: أنا وكيل الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى، فقال عبد الله بن مالك : أرجو أن يكون الفرج قد أقبل عليك، فقم وانظر ما الشأن، فنهضت من عنده وأسرعت عدوا إلى بيتي، فرأيت رجلا معه رقعة مكتوب فيها: إنك لما كنت عندنا وسمعنا كلامك توجهنا بعد خروجك إلى الخليفة وعرفناه أنه أفضى بك الحال إلى ذل السؤال، فأمرنا أن نحمل إليك من بيت المال ألف درهم، فقلنا له: هذه الدراهم يصرفها إلى غرمائه ويؤدي بها دينه، ومن أين يقيم وجه نفقاته؟ فأمر لك بثلاثمائة ألف درهم أخرى، وقد حمل إليك كل واحد منا من خالص ماله ألف ألف درهم فصارت الجملة ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم تصلح بها أحوالك وأمورك، فانظر إلى هذا الكرم العظيم.
الكتاب المزور
كان بين يحيى بن خالد وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها، وسبب العداوة بينهما أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك محبة عظيمة، بحيث إن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون: إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان طويل والحقد في قلوبهما، فاتفق أن الرشيد قلد ولاية أرمينية لعبد الله بن مالك الخزاعي وسيره إليها، فلما استقر في يختها قصده رجل من أهل العراق كان فيه فضل وأدب وذكاء وفطنة، إلا أنه ضاق ما بيده وفني ماله واضمحل حاله فزور كتابا على يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر إليه في أرمينية.
فلما وصل إلى بابه سلم الكتاب إلى بعض حجابه، فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، ففتحه وقرأه وتدبره فعلم أنه مزور، فأمر بإحضار الرجل فلما تمثل بين يديه دعا له وأثنى عليه وعلى أهل مجلسه، فقال له عبد الله بن مالك: ما حملك مع بعد المشقة على مجيئك إلي بكتاب مزور، ولكن طب نفسا، فإننا لا نخيب سعيك، فقال الرجل: أطال الله بقاء مولانا الوزير إن كان ثقل عليك وصولي فلا تحتج في منعي بحجة، فإن أرض الله واسعة، والرازق حي، والكتاب الذي أوصلته إليك من يحيى بن خالد صحيح غير مزور، فقال عبد الله: أنا أكتب كتابا لوكيلي ببغداد وآمره فيه أن يسأل عن حال هذا الكتاب الذي أتيتني به فإن كان ذلك حقا صحيحا غير مزور قلدتك إمارة بعض بلادي وأعطيتك مائتي ألف درهم مع الخيل والنجب الجليلة، وإن كان الكتاب مزورا أمرت بأن تضرب مائتي خشبة وأن تحلق لحيتك، ثم أمر عبد الله أن يحمل إلى حجرة وأن يجعل له فيها ما يحتاج إليه حتى يحقق أمره، ثم كتب كتابا إلى وكيله ببغداد مضمونه: إنه قد وصل إلي رجل ومعه كتاب يزعم أنه من يحيى بن خالد وأنا أسيء الظن بهذا الكتاب، فيجب أن لا تهمل هذا الأمر بل تمضي بنفسك وتتحقق أمر هذا الكتاب وتسرع إلي برد الجواد لأجل أن نعلم صدقه من كذبه.
فلما وصل إليه الكتاب ببغداد ركب من ساعته ومضى إلى دار يحيى بن خالد، فوجده جالسا مع ندمائه وخواصه، فسلم عليه وسلم إليه الكتاب، فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل: عد إلي من الغد حتى أكتب لك الجواب، ثم التفت إلى ندمائه بعد انصراف الوكيل وقال: ما جزاء من تحمل عني كتابا مزورا وذهب به إلى عدوي، فقال كل واحد من ندمائه مقالا، وجعل كل واحد منهم يذكر نوعا من العذاب، فقال لهم يحيى: قد أخطأتم فيما ذكرتم، وهذا الذي أشرتم به من دناءة الهمم وخستها، وكلكم تعرفون منزلة عبد الله من أمير المؤمنين، وتعلمون ما بيني وبينه من الغضب والعداوة، وقد سبب الله تعالى هذا الرجل وجعله واسطة في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليخمد نار الحقد من قلوبنا وهي تتزايد من مدة عشرين سنة، وتصلح واسطته شئوننا، وقد وجب علي أن أفي لهذا الرجل بتحقيق ظنونه وإصلاح شئونه وأكتب له كتابا إلى عبد الله بن مالك الخزاعي مضمونه: إنه يزيد في إكرامه ويستمر على إعزازه واحترامه، فلما سمع الندماء ذلك دعوا له بالخيرات وتعجبوا من كرمه ووفور مروته.
ثم إنه طلب الورقة والدواة وكتب إلى عبد الله كتابا بخط يده مضمونه:
بسم الله الرحمن الرحيم،
وصل كتابك أطال الله بقاك وسررت بسلامتك وابتهجت باستقامتك وشمول سعادتك، وكان ظنك أن ذلك الرجل الحر زور عني كتابا ولم يحمل مني خطابا، وليس الأمر كذلك، فإن الكتاب أنا كتبته وليس بمزور ورجائي من إكرامك وإحسانك وحسن شيمتك أن تفي لذلك الرجل الحر الكريم بأمله وأمنيته وترى له حق حرمته وتوصله إلى غرضه، وأن تخصه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان، ومهما فعلته فأنا المقصود به والشاكر عليه، ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه إلى الوكيل، فأنفذه الوكيل إلى عبد الله، فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر ذلك الرجل وقال له: أي الأمرين اللذين وعدتك بهما أحب إليك لأحضره لك بين يديك، فقال الرجل: العطاء أحب إلي من كل شيء، فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية خمسة منها بالجلال الحرير وخمسة بمروج المواكب المحلاة، وبعشرين تختا من الثياب وعشرة من المماليك ركاب خيل، وما يليق بذلك من الجواهر الثمينة، ثم خلع عليه وأحسن إليه ووجهه إلى بغداد في هيئة عظيمة.
فلما وصل إلى بغداد قصد دار يحيى بن خالد قبل أن يصل إلى أهله وطلب الإذن في الدخول عليه، فدخل الحاجب إلى يحيى وقال له: يا مولاي إن ببابنا رجلا ظاهر الحشمة جميل الخلقة حسن الحال كثير الغلمان يريد الدخول عليك، فأذن له بالدخول، فلما دخل عليه قبل الأرض بين يديه، فقال له يحيى: من أنت، فقال له الرجل: أيها السيد أنا الذي كنت ميتا من جور الزمان فأحييتني من رمس النوائب وبعثتني إلى جنة المطالب، أنا الذي زورت كتابا عنك وأوصلته إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال له يحيى: ما الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك؟ فقال: أعطاني من يدك وجميل طويتك وشمول نعمك وعموم كرمك وعلو همتك وواسع فضلك حتى أغناني وخولني وهداني، وقد حملت جميع عطيته ومواهبه، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يدك، فقال له يحيى: إن صنيعك معي أجمل من صنيعي معك، ولك علي المنة العظيمة واليد البيضاء الجميمة، حيث بدلت العداوة التي كانت بيني وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة والمودة، فها أنا أهب لك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك، ثم أمر له من المال والخيل والتخوت بمثل ما أعطاه عبد الله، فعادت لذلك الرجل نعمته كما كانت بمروءة هذين الكريمين.
شاعر البرامكة وأبو نواس
حدث ابن مناذر قال: حج الرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة وحج معه الفضل بن الربيع وكان مضيفا مملقا، فهيأت فيه قولا أجدت تنميقه وحسنت فيه، فدخلت إليه في يوم التروية، وإذا هو يسأل عني ويطلبني، فبادرني الفضل بن الربيع قبل أن أتكلم فقال: يا أمير المؤمنين هذا شاعر البرامكة ومادحهم، وقد كان البشر ظهر لي في وجهه لما دخلت، فتنكر وعبس في وجهي، فقال الفضل: مره يا أمير المؤمنين أن ينشدك قوله فيهم «أتانا بنو الأملاك من آل برمك».
فقال لي: أنشد، فأبيت، فتوعدني وأكرهني، فأنشدته:
أتانا بنو الأملاك من آل برمك
فيا طيب أخبار ويا حسن منظر
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغداد وتجلوا لنا الدجى
بمكة ما حجوا ثلاثة أقمر
فما خلفت إلا لجود أكفهم
وإقدامهم إلا لأعواد منبر
إذا راض يحيى الأمر ذلت صعابه
وناهيك من راع له ومدبر
ترى الناس إجلالا له وكأنهم
غرانيق ماء تحت باز مصرصر
ثم أتبعت ذلك بأن قلت: كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين أيام مدحتهم، وفي طاعتك لم يلحقهم سخطك ولم تحلل بهم نقمتك، ولم أكن في ذلك مبتدعا ولا خلا أحد من نظرائي من مدحهم، وكانوا قوما قد أظلني فضلهم وأغناني رفدهم فأثنيت بما أولوا، فقال يا غلام الطم وجهه، فلطمت والله حتى سدرت وأظلم ما كان بيني وبين أهل المجلس، ثم قال اسحبوه على وجهه.
ثم قال: والله لأحرمنك ولا تركت أحدا يعطيك شيئا في هذا العام، فسحبت حتى خرجت وانصرفت وأنا أسوأ الناس حالا في نفسي ومالي وما جرى علي، ولا والله ما عندي ما يقيم يومئذ قوت عيالي لعبدهم، فإذا شاب قد وقف علي ثم قال: اعذر علي والله يا كبيرنا بما جرى عليك، ودفع إلي صرة وقال: تبلغ بما في هذه، فظننتها دراهم فإذا هي ثلاثمائة دينار، فقلت له: من أنت جعلني الله فداك، قال: أنا أخوك أبو نواس فاستعن بهذه الدنانير واعذرني، فقبلتها وقلت: وصلك الله يا أخي وأحسن جزاءك.
كرم يحيى بن خالد البرمكي
استدعى هارون الرشيد رجلا من أعوانه يقال له صالح قبل الوقت الذي تغير فيه على البرامكة، فلما حضر بين يديه قال له: يا صالح سر إلى منصور وقل له: إن لنا عندك ألف ألف درهم، والرأي قد اقتضى أنك تحمل لنا هذا المبلغ في هذه الساعة، وقد أمرتك يا صالح أنه إن لم يحصل لك ذلك المبلغ من هذه الساعة إلى قبل المغرب أن تزيل رأسه عن جسمه وتأتيني به، فقال: سمعا وطاعة، وسار إلى منصور وأخبره ما ذكر أمير المؤمنين، فقال منصور: قد هلكت، فوالله إن جميع متعلقاتي وما تملكه يدي إذا بيعت بأغلى قيمة لا يزيد ثمنها على مائة ألف فمن أين أقدر يا صالح على التسعمائة ألف درهم الباقية؟ فقال له صالح: دبر لك حيلة تتخلص بها عاجلا وإلا هلكت، فإني لا أقدر أتمهل عليك لحظة بعد المدة التي عينها لي الخليفة، ولا أقدر أن أخل بشيء مما أمرني به أمير المؤمنين، فأسرع بحيلة تتخلص بها قبل أن تنصرم الأوقات، فقال منصور: أسألك من فضلك أن تحملني إلى بيتي لأودع أولادي وأهلي وأوصي أقاربي، قال صالح: فمضيت إلى بيته فجعل يودع أهله وارتفع الضجيج في منزله وعلا البكاء والصياح والاستغاثة بالله تعالى، فقال صالح: قد خطر ببالي أن الله يجعل لك الفرج على يد البرامكة فاذهب بنا إلى دار يحيى بن خالد.
فلما ذهب إلى يحيى بن خالد أخبره بحاله، فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه واستدعى خازن داره وقال له: كم في خزينتنا من المال، فقال له مقدار خمسة آلاف درهم، فأمر بإحضارها، ثم أرسل رسولا إلى ولده الفضل برسالة مضمونها: إنه قد عرض علي للبيع ضياع جليلة لا تخرب أبدا فأرسل لنا شيئا من الدراهم، فأرسل إليه ألف ألف درهم، ثم أرسل إنسانا آخر إلى ولده جعفر برسالة مضمونها: إنه قد حصل لنا شغل مهم ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فأنفذ له جعفر في الحال ألف ألف درهم، ولم يزل يحيى يرسل أناسا إلى البرامكة حتى جمع منهم لمنصور مالا كثيرا، وصالح ومنصور لا يعلمان بهذا الأمر، فقال منصور ليحيى: يا مولاي قد تمسكت بذيلك وما أعرف هذا المال إلا منك كما هو عادة كرمك فتمم لي بقية ديني واجعلني عتيقك، فأطرق يحيى وبكى وقال: يا غلام، إن أمير المؤمنين قد كان وهب لجاريتنا دنانير جوهرة عظيمة القيمة، فاذهب إليها وقل لها ترسل لنا هذه الجوهرة، فمضى الغلام وأتى بها إليه، فقال: يا صالح أنا ابتعت هذه الجوهرة لأمير المؤمنين من التجار بمائتي ألف دينار، ووهبها أمير المؤمنين لجاريتنا دنانير العوادة، وإذا رآها معك عرفها وأكرمك وحقن دمك من أجلنا إكراما لنا وقد تم الآن مالك يا منصور، قال صالح: فحملت المال والجوهرة إلى المنصور معي، فبينما نحن في الطريق إذ سمعته يتمثل بهذا البيت:
وما حبا سعت قدمي إليهم
ولكن خفت من ضرب النبال
فعجبت من سوء طبعه وردائته وفساده، وخبث أصله وميلاده، ورددت عليه وقلت له: ما على وجه الأرض خير من البرامكة ولا أخبث ولا أشر منك، فإنهم اشتروك من الموت وأنقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم ولم تحمدهم ولم تفعل فعل الأحرار، بل قابلت إحسانهم بهذا المقال.
ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وأخبرته بجميع ما جرى، فتعجب الرشيد من كرم يحيى وسخائه ومروءته، وخساسة منصور وردائته، وأمر أن ترد الجوهرة إلى يحيى بن خالد، وقال: كل شيء قد وهبناه لا يجوز أن نعود فيه، وعاد صالح إلى يحيى بن خالد وذكر له قصة منصور وسوء فعله، فقال يحيى : يا صالح إذا كان الإنسان مقلا ضيق الصدر مشغول الفكر فمهما صدر منه لا يؤاخذ به لأنه ليس ناشئا عن قلبه، وصار يتطلب العذر لمنصور ... فبكى صالح وقال: لا يجري الفلك الدائر بإبراز رجل إلى الوجود مثلك، فوا أسفاه كيف يتوارى من له خلق مثل خلقك وكرم مثل كرمك تحت التراب، وأنشد هذين البيتين:
بادر إلى أي معروف هممت به
فليس في كل وقت يمكن الكرم
كم مانع نفسه إمضاء مكرمة
عند التمكن حتى عاقه الندم
جعفر البرمكي مع بائع الفول
حكي أن جعفرا البرمكي لما صلبه هارون الرشيد أمر بصلب كل من نعاه أو رثاه، فكف الناس عن ذلك، فاتفق أن أعرابيا كان ببادية بعيدة وفي كل سنة يأتى بقصيدة إلى جعفر البرمكي فيعطيه ألف دينار جائزة على تلك القصيدة فيأخذها وينصرف ويستمر ينفق منها على عياله إلى آخر العام، فجاء الأعرابي بالقصيدة على عادته، فلما جاء وجد جعفرا مصلوبا، فجاء إلى المحل الذي هو مصلوب فيه وأناخ راحلته وبكى بكاء شديدا وحزن حزنا عظيما وأنشد القصيدة ونام، فرأى جعفرا البرمكي في المنام يقول له: إنك قد أتعبت نفسك وجئتنا فوجدتنا على ما رأيت، ولكن توجه إلى البصرة واسأل عن رجل اسمه كذا وكذا من تجار البصرة وقل له: إن جعفرا البرمكي يقرئك السلام ويقول لك: أعطني ألف دينار بأمارة الفولة، فلما انتبه الأعرابي من نومه توجه إلى البصرة فسأل عن ذلك التاجر واجتمع به، وبلغه ما قاله جعفر في المنام، فبكى التاجر بكاء شديدا حتى كاد يفارق الدنيا، ثم إنه أكرم الأعرابي وأجلسه عنده وأحسن مثواه ومكث عنده ثلاثة أيام مكرما، ولما أراد الانصراف أعطاه ألفا وخمسمائة دينار وقال له: الألف هي المأمور لك بها والخمسمائة إكرام مني إليك ولك في كل سنة ألف دينار، وعندما حان انصراف الأعرابي قال للتاجر: بالله عليك أن تخبرني بخبر الفولة حتى أعرف أصلها، فقال له: إني كنت في ابتداء الأمر فقير الحال أطوف بالفول الحار في شوارع بغداد وأبيعه حيلة على المعاش، فخرجت في يوم بارد ماطر وليس على بدني ما يقيني من البرد فتارة أرتعد من شدة البرد وتارة أقع في ماء المطر، وأنا في حالة كريهة تقشعر منها الجلود، وكان جعفر في ذلك اليوم جالسا في قصر مشرف على الشارع وعنده خواصه، فوقع نظره علي فرق لحالي وأرسل إلي بعض أتباعه فأخذني إليه وأدخلني عليه، فلما رآني قال لي: بع ما معك من الفول على طائفتي، فأخذت أكيله بمكيال كان معي، فكل من أخذ كيلة فول يملأها ذهبا حتى فرغ جميع ما معي ولم يبق في القفة شيء، ثم جمعت الذهب الذي حصل لي على بعضه، فقال لي: هل بقي معك شيء من الفول، قلت: لا أدري، ثم فتشت القفة فلم أجد فيها سوى فولة واحدة فأخذها مني جعفر وفلقها نصفين، فأخذ نصفها وأعطى النصف الثاني إحدى نسائه وقال: بكم تشترين نصف هذه الفولة؟ قالت: بقدر هذا الذهب مرتين، فصرت متحيرا في أمري وقلت في نفسي: هذا محال، فبينما أنا متعجب وإذ بالمرأة أمرت بعض جواريها فأحضرت ذهبا قدر الذهب المجتمع مرتين، فقال جعفر: وأنا أشتري النصف الذي أخذته بقدر الجميع مرتين، ثم قال جعفر: خذ ثمن فولك، وأمر بعض خدامه فجمع المال كله ووضعه في قفتين فأخذته وانصرفت، ثم جئت إلى البصرة، واتجرت بما معي من المال فوسع الله علي ولله الحمد والمنة، فإذا أعطيتك في كل سنة ألف دينار من بعض إحسان جعفر ما ضرني شيء، فانظر مكارم أخلاق جعفر والثناء عليه حيا وميتا.
حكم الوادي ويحيى بن خالد والجارية دنانير
قال حكم الوادي: دخلت يوما على يحيى بن خالد فقال لي: يا أبا يحيى، ما رأيك في خمسمائة دينار قد حضرت؟ قلت: ومن لي بها، قال: تلقى لحنك في «ذكرتك إن فاض الفراق بأرضنا» على دنانير، فها هي ذه، وهذا سلام واقف معك ومخرجها إليك، وأنا راكب إلى أمير المؤمنين ولست أنصرف من مجلس المظالم إلى وقت الظهر فكدها فيه، فإذا أحكمته فلك خمسمائة، فقالت دنانير : يا سيدي، أبو يحيى يأخذ خمسمائة دينار وينصرف وأنا أبقى معك أقاسمك عمري كله، فقال لها: إن حفظتيه فلك ألف دينار، وقام فمضى، فقلت لها: يا سيدتي اشغلي نفسك بذا، فإنك أنت تهبين لي الخمسمائة دينار بحفظك إياه وتفوزين بالألف الدينار، وإلا بطل هذا، فلم أزل معها أكدها وأغني ونغني حتى انصرف يحيى، فدعا بماء وطشت، ثم قال: يا أبا يحيى غن الصوت كما كنت تغنيه، فقلت: هلكت، يسمعه مني وليس هو ممن يخفى عليه، ثم يسمعه منها فلا يرضاه، فلم أجد بدا من الغناء، ثم قال: غنه أنت الآن فغنيت، فقال: والله ما أرى إلا خيرا، فقلت: جعلت فداك أنا أمضغ هذا منذ أكثر من خمسين سنة كما أمضغ الخبز وهذه أخذته الساعة وهو بذل لها بعدي وتجترئ عليه وتزداد حسنا في صوتها، فقال: صدقت، هات يا سلام له خمسمائة دينار ولها ألف دينار، ففعل، فقلت له: وحياتك يا سيدي لأشاطرن أستاذي الألف دينار، قال: ذلك إليك، ففعلت فانصرفت وقد أخذت بهذا الصوت ألف دينار.
إسحاق التميمي الشاعر والفضل بن يحيى
هو عبد الله بن يعقوب ويكنى أبو محمد مولى بني تميم، حدث إسحاق قال: كنت على باب الفضل بن يحيى فأتاني التميمي الشاعر بقصيدة في قرطاس وسألني أن أوصلها إلى الفضل فنظرت فيها ثم خرقت القرطاس، فغضب أبو محمد وقال لي: أما كفاك أن استخففت بحاجتي ومنعتني أن أدفعها إلى غيرك، فقلت له: أنا خير لك من القرطاس، ثم دخلت إلى الفضل فلما تحدثنا قلت له: معي هدية وصاحبها بالباب وأنشدته، فقال: وكيف حفظتها؟ قلت: الساعة، دفعها إلي على الباب فحفظتها، فقال: دع الآن، فقلت له: فأدخله، فأدخل، فسأله عن القصة: فأخبره ثم خرج التميمي، فقلت: خذ في حاجة الرحل، فقال: أما إذا عنيت به فقد أمرت له بخمسة آلاف درهم، فقلت له: أما إذا أقللتها فعجلها، فأمر بها فأحضرت، فقلت له: أليس لإعناتك إياي ثمن، قال: نعم، قلت: فهاته، قال: لا أبلغ بك في الإعنات ما بلغت بالشاعر في المديح، فقلت: فهات ما شئت، فأمر بثلاثة آلاف درهم فضممتها إلى الخمسة آلاف ووجهت بها إليه.
إبراهيم الموصلي يستوهب بالغناء ثمن ضيعة من البرامكة
حدث مخارق قال: اشتغل الرشيد يوما واصطبح واصطبحت السماء تطش طشا خفيفا، فقلت: والله لأذهبن إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، فأمرت من عندي أن يسووا مجلسا لنا إلى وقت رجوعي، فجئت إلى إبراهيم الموصلي فإذا بالباب مفتوح والدهيلز قد كنس، والبواب قاعد، فقلت: ما خبر أستاذي، فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو جالس في رواق له وبين يديه قدور تغرغر وأباريق تزهر والستارة منصوبة والجواري خلفها، وإذا قدامه طست فيه رطليه وكوز وكأس، فدخلت أترنم ببعض الأصوات وقلت له: ما بال الستارة لست أسمع من ورائها صوتا، فقال: اقعد ويحك، إني أصبحت على الذي ظننت فأتاني خبر ضيعة تجاورني كنت والله طلبتها زمانا وتمنيتها فلم أملكها وقد أعطى بها مائة ألف دينار، فقلت: وما يمنعك منها؟ والله لقد أعطاك الله أضعاف هذا المال وأكثر، قال: صدقت ولكن لست أطيب نفسا أن أخرج هذا المال، فقلت: ومن يعطيك الساعة مائة ألف درهم والله ما أطمع في ذلك من الرشيد فكيف من دونه، فقال: اجلس خذ هذا الصوت، ونقر بقضيب معه على الدواة وألقى علي هذين البيتين:
نام الخليون من هم ومن سقم
وبت من كثرة الأحزان لم أنم
يا طالب الجود والمعروف مجتهدا
اعمد ليحيى حليف الجود والكرم
فأخذته فأحكمته، ثم قال لي: امض الساعة إلى باب الوزير يحيى بن خالد، فإنك تجد الناس عليه وتجد الباب قد فتح ولم يجلس عليه بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل إليه أحد فإنه سينكر عليك مجيئك، ويقول: من أين أقبلت في هذا الوقت، فحدثه بقصدك إياي وما ألقيت إليك من خير الضيعة، وأعلمه أني صنعت هذا الصوت وأعجبني، ولم أر أحدا يستحقه إلا فلانة جاريته، وإني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها فيستدعي بها ويأمر بالستارة أن تنصب ويوضع له كرسي ويقول لك: ألقه عليها بحضرتي ، فافعل وأتني بالخبر بعد ذلك، قال: فجئت باب يحيى فوجدته كما وصف وسألني فأعلمته ما أمرني به، ففعل كل شيء قاله لي إبراهيم وأحضر الجارية فألقيت عليها، ثم قال لي: تقيم عندنا يا أبا المهنا أم تنصرف؟ فقلت: أنصرف أطال الله بقاءك فقد علمت ما أذن لنا فيه، فقال: يا غلام احمل مع أبي المهنا عشرة آلاف درهم واحمل إلى أبي إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضيعة، فحملت العشرة آلاف درهم إلي وأتيت منزلي، فقلت: أسر يومي هذا وأسر من عندي، ومضى الرسول إليه بالمال، فدخلت منزلي ونثرت على من عندي من الجواري دراهم من تلك البدرة وتوسلتها وأكلت وشربت وطربت وسررت يومي كله فلما أصبحت قلت: والله لآتين أستاذي ولأعرفن خبره، فأتيته فوجدت الباب كهيئته بالأمس ودخلت فوجدته على مثل ما كان عليه، فترنمت وطبت فلم يتلق ذلك بما يجب، فقلت له: ما الخبر ألم يأتك المال، قال بلى، فما كان خبرك أنت بالأمس، فأخبرته بما كان وهب لي وقلت: ما كان ينتظر من تحت الستارة، فقال: ارفع السجف فرفعته، فإذا عشرة بدر، فقلت: وأي شيء بقي عليك في أمر الضيعة؟ قال: ويحك ما هو والله إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها فصارت مثل ما حويت قديما، فقلت: سبحان الله العظيم فتصنع ماذا، قال: قم حتى ألقي عليك صوتا صنعته يفوق ذلك الصوت، فقمت وجلست بين يديه فألقى علي:
ويفرح بالمولود من آل برمك
بغاة الندى والسيف والرمح والنصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
فلما ألقى علي الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قط وصغر عندي الأول فأحكمته، ثم قال: انهض الساعة إلى الفضل بن يحيى فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد وهو يريد الخلوة مع أهله اليوم فاستأذن عليه وحدثه بحديثنا أمس وما كان من أبيه إلينا وإليك، وأعلمه أني قد صنعت هذا الصوت وكان عندي أرفع منزلة من الصوت الذي صنعته بالأمس وإني ألقيته عليك حتى أحكمته ووجهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته، فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت وسألني ما الخبر، فأعلمته بخبري في اليوم الماضي وما وصل إلي وإليه من المال، فقال: أخزى الله إبراهيم فما أبخله على نفسه ثم دعا خادما فقال: اضرب الستارة، فضربها فقال لي: ألقه، فلما غنيته لم أتمه حتى أقبل يجر بطرفه ثم جلس على وسادة دون الستارة وقال: والله لقد أحسنت وأستاذك يا مخارق، فلم أخرج حتى أخذته الجارية وأحكمت، فسر بذلك سرورا شديدا وقال: أقم عندي اليوم، فقلت: يا سيدي إنما بقي لنا يوم واحد ولولا أني أحب سرورك لم أخرج من منزلي، فقال: يا غلام احمل مع أبي المهنا عشرين ألف درهم واحمل إلى إبراهيم مائتي ألف درهم، فانصرفت إلى منزلي بالمال، ففتحت بدرة نثرت منها على الجواري وشربت وسررت أنا ومن عندي يومنا، فلما أصبحت بكرت إلى إبراهيم أتعرف خبره وأعرفه خبري فوجدته على الحال التي كان عليها أولا وآخرا، فدخلت أترنم وأصفق فقال لي: ادن، فقلت: ما بقي؟ فقال: اجلس وارفع سجف هذا الباب، فإذا عشرون بدرة مع العشرة الأول فقلت: ما تنتظر الآن، فقال: ويحك ما هو والله إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدم، فقلت: ما أظن أحدا نال في هذه الدولة ما نلته فلم تبخل على نفسك بشيء عنيته دهرا وقد ملكك الله أضعافه، ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت، وألقى علي صوتا إنسانيا - والله - صوتي الأولين:
إلى جعفر صارت بنا كل حرة
طواها سراها نحوه والتهجر
إلى واسع للمنتدين فناؤه
تروح عطاياه عليهم وتبكر
ثم قال لي: هل سمعت مثل هذا؟ فقلت: ما سمعت قط مثله، فلم يزل يرد علي حتى أخذته، ثم قال لي: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأخيه وأبيه، قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك وخبرته ما كان منهما وعرضت عليه الصوت فسر به ودعا خادما فأمره بضرب الستارة وأحضر الجارية وقعد على كرسي، ثم قال: هات مخارق، فاندفعت فألقيت الصوت عليها حتى أخذته، فقال: أحسنت والله يا مخارق وأحسن أستاذك، فهل لك في المنام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيدي هذا آخر أيامنا، وإنما جئت لموقع الصوت مني حتى ألقيته على الجارية، فقال: يا غلام احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلي ثلاثمائة ألف درهم، فصرت إلى منزلي بالحال فأقمت ومن معي مسرورين نشرب بقية يومنا ونطرب، ثم بكرت إلى إبراهيم فتلقاني قائما وقال لي: أحسنت يا مخارق، فقلت: ما الخبر، فقال: اجلس، فجلست، فقال لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم فيه ثم رفع السجف فإذا المال، فقلت: ما خبر الضيعة، فأدخل يده تحت مسورة هو متكئ عليها فقال: هذا صك الضيعة ثم سئل عن صاحبها فوجد ببغداد، فاشتراها منه يحيى بن خالد وكتب إلي: قد علمت أنك لا تسخو نفسا بشراء الضيعة من مال يحصل لك ولو حيزت لك الدنيا كلها، وقد ابتعتها لك من مالي ووجهت لك بصكها ووجه إلي بصكها - وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال لي: يا مخارق إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، وإذا مدحت فامدح مثلهم، هذه ستمائة ألف وضيعة بمائة ألف وستون ألف درهم لك حصلنا ذلك أجمع، وأنا جالس في مجلسي لم أبرح منه فمتى يدرك مثل هؤلاء؟!
قيل في محمد بن يحيى بن خالد البرمكي:
سألت الندى والجود ما لي أراكما
تبدلتما عزا بذل مؤبد
وما بال ركن المجد أمسى مهدما
فقال أصبنا بابن يحيى محمد
فقلت فهلا متما بعد موته
وقد كنتما عبديه في كل مشهد
فقالا أقمنا كي نعزى بفقده
مسافة يوم ثم نتلوه في غد
يحيى بن خالد وأحد الشعراء
دخل أحد الشعراء على يحيى بن خالد البرمكي فأنشده:
سألت الندى هل أنت حر فقال لا
ولكنني عبد ليحيى بن خالد
فقلت شراء قال: لا، بل وراثة
توارثني من والد بعد والد
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
الفضل بن يحيى والأعرابي
روى الأصمعي عن الفضل بن يحيى قال: خرج يوما للصيد والقنص، وبينما هو في موكبه إذ رأى أعرابيا على ناقة قد أقبل من صدر البرية يركض في سيره، قال: هذا يقصدني فلا يكلمه أحد غيري، فلما دنا الأعرابي ورأى المضارب تضرب، والخيام تنصب والعسكر الكثير، الجم الغفير، وسمع الغوى والضجة ظن أنه أمير المؤمنين، فنزل وعقل راحلته وتقدم إليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: اخفض عليك ما تقول: فقال: السلام عليك أيها الأمير، قال: الآن قاربت اجلس، فجلس الأعرابي، فقال له الفضل: من أين أقبلت يا أخا العرب؟ قال: من قضاعة، قال: من أدناها أو من أقصاها؟ قال: من أقصاها، فقال: يا أخا العرب: مثلك من يقصد من ثلاثمائة فرسخ إلى العراق لأي شيء، قال: قصدت هؤلاء الأماجد الأنجاد الذين قد اشتهر معروفهم في البلاد، قال من هم؟ قال: البرامكة، قال الفضل: يا أخا العرب، إن البرامكة خلق كثير، وفيهم جليل وخطير، ولكل منهم خاصة وعامة، فهل أفرزت منهم لنفسك من اخترته لنفسك وأتيته لحاجتك؟ قال: أجل أطولهم باعا وأسمحهم كفا، قال: من هو؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد، فقال له: الفضل يا أخا العرب، إن الفضل جليل القدر عظيم الخطر، إذا جلس للناس مجلسا عاما لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمناظرون للعلم، أعالم أنت؟ قال: لا، قال: أوردت على الفضل بكتاب وسيلة، قال: لا، فقال: يا أخا العرب غرتك نفسك، مثلك يقصد الفضل بن يحيى وهو ما عرفتك عنه من الجلالة، بأي ذريعة أو وسيلة تقدم عليه، قال: والله يا أمير ما قصدته إلا لإحسانه المعروف، وكرمه الموصوف، وبيتين من الشعر قلتهما فيه، فقال الفضل: يا أخا العرب أنشدني البيتين، فإن كانا يصلحان أن تلقاه بهما أشرت عليك بلقائه، وإن كانا لا يصلحان أن تلقاه بهما بررتك بشيء من مالي ورجعت إلى باديتك، وإن كنت لا تستحق بشعرك شيئا، قال: أفتفعل أيها الأمير، قال: نعم، قال: فإني أقول:
ألم تر أن الجود من عهد آدم
تحدر حتى صار يمتصه الفضل
ولو أن أما مسها جوع طفلها
غذته باسم الفضل لاغتذأ الطفل
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك: هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر وأخذ الجائزة عليهما فأنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: أقول:
قد كان آدم حين حان وفاته
أوصاك وهو يجود بالحباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم
وكفيت آدم عولة الأبناء
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك: ممتحنا، هذا البيتان أخذتهما من أفواه الناس، فأنشدني غيرهما، فما تقول وقد رمقتك الأدباء بالأبصار وامتدت الأعناق إليك وتحتاج أن تناضل عن نفسك، قال: إذن أقول:
ملت جهابذ فضل وزن نائله
ومل كاتبه إحصاء ما يهب
والله لولاك لم يمدح بمكرمة
خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: إذن أقول:
ولو قيل للمعروف: ناد أخا العلا
لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل
ولو أنفقت جدواك من رمل عالج
لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذا البيتان مسروقان أيضا، أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال أقول:
وما الناس إلا اثنان صب وباذل
وإني لذاك الصب والباذل الفضل
على أن لي مثلا كما ذكر الورى
وليس لفضل في سماحته مثل
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: أقول أيها الأمير:
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد
فقامت به التقوى وقام به العدل
وقام به المعروف شرقا ومغربا
ولم يك للمعروف بعد ولا قبل
قال: أحسنت، فإن قال: قد ضجرنا من الفاضل والمفضول أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم، فما تقول؟ قال: إذن أقول:
ألا يا أبا العباس يا واحد الورى
ويا ملكا خد الملوك له نعل
إليك تسير الناس شرقا ومغربا
فرادى وأزواجا كأنهم نحل
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدنا غير الاسم والكنية والقافية، قال: والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعد هذا لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليهن أعرابي ولا أعجمي، ولئن زادني بعدها لأجمعن قوائم ناقتي هذه وأجعلها في فم الفضل، ولأرجعن إلى قضاعة خاسرا ولا أبالي، فنكس الفضل رأسه وقال للأعرابي: يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة، قال: أقول:
ولائمة لامتك يا فضل في الندى
فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
انتهين فضلا عن عطاياه للغنى
فمن ذا الذي ينهى السحاب عن القطر
كأن نوال الفضل في كل بلدة
تحدر هذا المزن في مهمة قفر
كأن وفود الناس في كل وجهة
إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر
قال: فأمسك الفضل عن فيه وسقط على وجهه ضاحكا، ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب أنا والله الفضل بن يحيى سل ما شئت، فقال: سألتك بالله أيها الأمير إنك لهو، قال نعم، قال له: فأعطني الأمان، قال: عليك الأمان، اذكر حاجتك، قال عشرة آلاف درهم، قال الفضل: ازدريت بنا وبنفسك يا أخا العرب، تعطى عشرة آلاف درهم في عشرة آلاف، وأمر بدفع المال، فلما صار المال إليه حمده وزير الفضل وقال: يا مولاي هذا إسراف، يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيه بهذا المال، فقال: استحقه بحضوره إلينا من أرض قضاعة، قال الوزير: أقسمت عليك إلا أخذت سهما من كنانتك وركبته في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي، فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر، وإلا فاستعطف مالك ويكون له في بعضه كفاية، فأخذ الفضل سهما وركبه في كبد قوسه وأومأ به إلى الأعرابي وقال له: رد سهمي ببيت من الشعر فأنشأ يقول:
لقوسك قوس الجود والوتر الندي
وسهمك سهم العز فارم به فقري
فضحك الفضل وأنشأ يقول:
إذا ملكت كفي منالا ولم أنل
فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
على الله إخلاف الذي قد بذلته
فلا مبق لي بخلي ولا متلفي بذلي
أروني بخيلا نال مجدا ببخله
وهاتوا كريما مات من كثرة البذل
ثم قال الفضل لوزيره: أعط الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره ومائة ألف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته، فأخذ الأعرابي المال وانصرف وهو يبكي، فقال له الفضل: صم بكاءك يا أعرابي، أاستقلالا للمال الذي أعطيناك؟ قال: لا، ولكني أبكي على مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض، وتذكرت قول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال
ولا فرس تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر
يموت لموته خلق كثير
ثم انصرف الأعرابي مسرورا.
مروان بن أبي حفصة وجعفر البرمكي
دخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده:
أبر فما ترجو الجياد لحافه
أبو الفضل سباق الأخاصيم جعفر
وزير إذا ناب الخلافة حادث
أشار بما عنه الخلافة تصدر
فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده:
أقمنا باليمامة أو نسينا
مقاما لا نريد به زوالا
وقلنا أين نذهب بعد معن
وقد ذهب النوال فلا نوالا
وكان الناس كلهم لمعن
إلى أن زار حفرته عيالا
حتى فرغ من القصيدة، وجعفر يرسل دموعه على خديه فقال: هل أثابك على هذه المرثية أحد من أهل بيته وولده؟ قال: لا، قال: فلو كان معن حيا ثم سمعها منك كم كان يثيبك عليها، قال: أربعمائة دينار، قال: ما كنا نظن أنه يرضى لك بذلك، وقد أمرنا لك عن معن رحمه الله بالضعف مما ظننته وزدناك مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفا وستمائة دينار قبل أن تخرج، فقال: مروان يذكر جعفرا وما سمح به عن معن:
نفحت مكافئا عن جود معن
لنا فيما تجود به سجالا
فعجلت العطية بابن يحيى
لنادبه ولم ترد المطالا
فكافأ عن صدى معن جواد
بأجود راحة بذلت نوالا
بنى لك خالد وأبوك يحيى
بناء في المكارم لن ينالا
كأن البرمكي لكل مال
تجود به يداه يفاد مالا
إسحاق الموصلي عند الكرماء
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دعاني يحيى بن خالد فدخلت عليه، وكان عنده الفضل وجعفر ولداه فقال لي: أصبحت اليوم مهموما فأردت الصبوح لأتسلى، فغن صوتا لعلي أرتاح إليه فغنيته:
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجود أكفهم
وأرجلهم إلا لأعواد منبر
فسر وأمر لي بمائة ألف درهم، وأمر لي كل واحد من ولديه بمثل هذا المبلغ، فحملت المال وانصرفت.
كرم يحيى بن خالد
من مكارمه أن الرشيد لما نكب البرامكة واستأصل شأفتهم، حرم على الشعراء أن يرثوهم، وأمر بالمؤاخذة على ذلك، فاجتاز بعض الحرس ببعض الخربات، فرأى إنسانا واقفا وفي يده رقعة فيها شعر يتضمن رثاء البرامكة وهو ينشده ويبكي، فأخذه الحرس وأتى به إلى الرشيد وقص عليه الصورة، فاستحضره الرشيد وسأله عن ذلك فاعترف به، فقال له الرشيد: أما سمعت تحريمي إرثائهم لأفعلن بك وأصنعن؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذا أذنت لي في حكاية حالي حكيتها ثم بعد ذلك أنت ورأيك، قال: قل، قال: إني كنت من أصغر كتاب يحيى بن خالد وأرقهم حالا، فقال لي: أريد أن تضيفني في دارك يوما، فقلت: يا مولانا أنا دون ذلك، وداري لا تصلح لهذا، قال: لا بد من ذلك، قلت: فإن كان لا بد فأمهلني مدة حتى أصلح شأني ومنزلي، ثم بعد ذلك أنت ورأيك، قال: كم أمهلك؟ قلت: سنة، قال: كثير، قلت: فشهورا، قال نعم، فمضيت وشرعت في إصلاح المنزل وتهيئة أسباب الدعوة، فلما تهيأت الأسباب أعلمت الوزير بذلك: فقال: نحن غدا عندك، فمضيت وتهيأت في الطعام والشراب وما يحتاج إليه، فحضر الوزير في غد ومعه ابناه جعفر والفضل وعدة يسيرة من خواص أتباعه، فنزل عن دابته ونزل ولداه جعفر والفضل ومن معه وقال: يا فلان أنا جائع فعجل لي بشيء، فقال لي الفضل ابنه: الوزير يحب الفراريج المشوية فعجل منها ما حضر، فدخلت وأحضرت شيئا، فأكل الوزير ثم قام يتمشى في الدار وقال: يا فلان فرجنا في دارك، فقلت: يا مولانا هذه هي داري ليس لي غيرها، قال: بلى لك غيرها، قلت: والله لا أملك سواها، فقال: هاتوا بناء، فلما حضر قال له: افتح في هذا الحائط بابا، فمضى ليفتح فقلت: يا مولانا كيف يجوز أن يفتح باب إلى بيوت الجيران والله أوصى بحفظ الجار، قال: لا بأس في ذلك، ثم فتح الباب، فقام الوزير وأبناؤه فدخلوا فيه وأنا معهم فخرجوا منه إلى بستان حسن كثير الأشجار والماء يتدفق فيه وبه من المقاصير والمساكن ما يروق كل ناظر، وفيه من الآلات والفرش والخدم والجواري كل جميل بديع، فقال: هذا المنزل وجميع ما فيه لك، فقبلت يده ودعوت له وتحققت الفضة، فإذا هو من يوم حادثني في أمر الدعوة قد أرسل واشترى الأملاك المجاورة لي وعمرها دارا حسنة، ونقل إليها من كل شيء وأنا لا أعلم، وكنت أرى العمارة وأحسبها لبعض الجيران، فقال لابنه جعفر: يا بني هذا منزل وعمال، فالمادة من أين تكون له؟ قال جعفر: قد أعطيته الضيعة الفلانية بما فيها وسأكتب له بذلك كتابا، فالتفت إلى ابنه الفضل وقال له: يا بني فمن الآن إلى أن يدخل دخل هذه الضيعة ما الذي ينفق؟ قال الفضل: علي عشرة آلاف دينار أحملها إليه، فقال: عجلا له ما قلتما، فكتب لي جعفر بالضيعة وحمل الفضل إلي المال، فأثريت وارتفعت حالي وكسبت بعد ذلك معه مالا طائلا أنا أتقلب فيه إلى اليوم، فوالله يا أمير المؤمنين ما أجد فرصة أتمكن فيها من الثناء عليهم والدعاء لهم إلا انتهزتها مكافأة لهم على إحسانهم ولن أقدر على مكافأته، فإن كنت قاتلي على ذلك فافعل ما بدا لك، فرق الرشيد لذلك وأطلقه وأذن لجميع الناس في رثائهم.
رثاء امرأة لجعفر
قال أبو زيد الرياحي: كنت جالسا عند خشبة جعفر بن يحيى البرمكي أفكر في زوال ملكه وحاله التي صار إليها إذ أقبلت امرأة لها هيئة حسنة، فوقفت على جعفر وبكت واحترقت وتكلمت فأبلغت وقالت: أما والله لئن أصبحت للناس آية لقد بلغت الغاية، ولئن زال ملكك وخانك دهرك ولم يطل به عمرك فلقد كنت المغبوط الناعم بالا، يحسن بك الملك فاستعظم الناس فقدك، إذ لم يستخلفوا ملكا بعدك، فنسأل الله الصبر على عظيم الفجيعة وجليل الرزيئة الذي لا يستعاض بغيرك، والسلام عليك، وداع غير قال ولا ناس لذكرك ثم أنشأت تقول:
العيش بعدك مر غير محبوب
ومذ صلبت ومقنا كل مصلوب
أرجو لك الله ذا الإحسان أن له
فضلا علينا وعفوا غير محسوب
ثم سكتت ساعة وتأملته ثم أنشأت تقول:
عليك من الأحبة كل يوم
سلام الله ما ذكر السلام
لئن أمسى صداك برأي عين
على خشب حباك به الإمام
فمن ملك إلى ملك برغم
من الأملاك آن لك الحمام
المأمون وراثي البرامكة
قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا وسماهما لي - أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم -، واذهب مسرعا لما أقول لك فقد بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرا يذكرهم ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرابات، فاستتروا وراء بعض جدرانها فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وندب وأنشد أبياتا فأتوني به. فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات فإذا بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي جديد برفقته شيخ جميل الطلعة لطيفا مهابا فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفرا
ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي
عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها؛ فلما فرغ قبضنا عليه: وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعا شديدا وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياة، ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه، ثم سرنا به، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال له: من أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن للبرامكة أياد خطيرة عندي، فأذن لي أن أحدثك بحالي معهم، قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع مسقط رأسي أشار علي الأهل بالخروج إلى البرامكة.
فخرجت من دمشق مع ثلاثين رجلا من أهلي وليس معنا ما يباع أو يوهب، ثم دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد فاستترت بثياب أعددتها، وتركتهم جياعا لا شيء عندهم ودخلت شوارع بغداد سائلا عن البرامكة فإذا أنا بجامع مزخرف يغص بالجلوس وفي جانبه شيخ بأحسن زي وزينة وعلى الباب خادمان، فطفت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صنعتي، وإذا بالخادم مقبلا يدعو القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا بدكة له وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحدا وبين يديه عشرة من أولاده، وإذا بمائة واثني عشر خادم قد أقبلوا ومع كل خادم صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، وتغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي وقمت ولا أتلفت إلى ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فوصلت إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل: فأتى بي، فقال: ما لي أراك تتلفت يمينا وشمالا فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى، فأتاه به، فقال له: يا بني هذا رجل غريب خذه إليك واحفظه بنفسك ونعمتك، فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار له، فأكرمني غاية الإكرام وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين فاقبله عندك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم وفي الغد سلمني لأخيه أحمد ولم أزل في أيدي القوم يتداولونني تباعا مدة عشرة أيام لا أعرف شيئا عن عيالي أمواتا هم أم أحياء، فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم، فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: ويلاه سلبت الدنانير والصينية وأخرج على هذه الحالة، إنا لله وإنا إليه راجعون، فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به، فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حسنا ونورا، واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إلي عشرة آلاف دينار ومنشورا بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير، وأقمت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب، فلما دهمتهم البلية ونزل بهم ما نزل من الرشيد ألزمني عمرو بن مسعدة بدفع خراج على هاتين الضيعتين لا يفي دخلهما به فلما تجامل علي الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرابات دورهم فأندبهم وأذكر حسن صنعهم إلي وأبكي على إحسانهم، فدعا المأمون بعمرو بن مسعدة، فلما أتى به قال له: أتعرف هذا الرجل؟ قال يا أمير المؤمنين: هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضيعتيه، قال كذا وكذا، فقال له: رد إليه كل ما أخذته منه في مدته ليكون له ولعقبه من بعده، وللحال علا نحيب الرجل.
فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا قد أحسنا إليك فما يبكيك، قال يا أمير المؤمنين وهذا أيضا من صنيع البرامكة، لو لم آت خراباتهم فأبكيهم وأندبهم لما اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، فما كاد ينتهي من كلامه حتى فاضت عبرات المأمون وظهر عليه الحزن وقال: لعمري هذا من صنيع البرامكة، فعلى مثلهم يبكى وإياهم يشكر ولهم يوفى ولإحسانهم يذكر.
مقتل البرامكة
قال إسماعيل بن يحيى الهاشمي: كنت مع الرشيد يوما من الأيام راكبا إلى الصيد فبينما نحن نسير إذ نظرنا إلى موكب بالبعد اعترضنا فقال لي: يا إسماعيل لمن هذا، فقلت لأخيك جعفر بن يحيى فالتفت يمينا وشمالا إلى من معه في موكبه فإذا هي شرذمة يسيرة، ثم نظر إلى الموكب الذي فيه جعفر فلم يره فقال: يا إسماعيل ما فعل جعفر وموكبه، فقلت: يا سيدي قد مضى في طريقه ولم يعلم بموضعك ، فقال: ما رآنا أهلا أن يزيننا بموكبه ويجملنا بجيشه، فقلت: العفو يا أمير المؤمنين لو علم بمكانك ما تعداك وما سار إلا بين يديك واعتذرت بما حضر لي من الكلام، ثم سرنا حتى انتهينا إلى ضيعة عامرة ومواش كثيرة وكان الطريق يدور عليها فدرنا حتى رأينا باب القرية، فنظر الرشيد إلى البيدر وإلى كثرة الغلال والمواشي ويسار أهلها فالتفت إلي وقال: يا إسماعيل لمن هذه الضيعة، قلت: لأخيك جعفر بن يحيى، فسكت ثم تنفس الصعداء ثم سرنا، ولم يزل يمر بكل ضيعة أعمر من الأخرى، وكلما مر وسألني عن ضيعة قلت: لجعفر بن يحيى، حتى سرنا ووصلنا إلى المدينة، فلما أردت وداعه والانصراف إلى منزله نظر إلى من كان حواليه نظرة فعلموا ما أراد، فتفرقوا وبقيت أنا وهو فقال: يا إسماعيل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: انظر إلى البرامكة أغنيناهم وأفقرنا أولادنا وغفلنا أمرهم، فقلت في نفسي: بلية والله، ثم قلت: لماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: نظرت لهؤلاء وغفلت هؤلاء لأني لا أعرف لولد من أولادي ضيعة من مثل ضياعهم فإنك ترى ضياع البرامكة على طريق واحد قرب هذه المدينة، فكيف بما هو لهم غير ذلك على غير هذا الطريق في سائر البلدان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنما البرامكة عبيدك وخدمك والضياع وأموالهم وكل ما يملكونه لك، فنظر إلي نظرة جبار عنيد ثم قال: ما عد البرامكة بني هاشم إلا عبيدهم وإنهم هم الدولة وأن لا نعمة لبني العباس إلا وهم أنعموا عليهم بها، فقلت: أمير المؤمنين أبصر من غيره بخدمه ومواليه، فقال: والله يا إسماعيل إنك لتعلم أني قلت هذا وكأني أراك أن تعلمهم بكلامي فتتخذ لك عندهم يدا، وإني أود تكتم هذا الأمر فإنه ما علم به أحد غيرك ومتى بلغهم شيء مما جرى علمت أنه ما أفشاه إلا أنت، فقلت: يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون مثلي يفشي سرك، قال: وكان هذا القول أول ما ظهر من أمر البرامكة، ثم ودعته وانصرفت متفكرا في إيقاع الحيلة عنهم، فلما كان من الغد بكرت إليه وجلست بين يديه، وكان في محل يشرف على دجلة من شرق مدينة باب السلام وبإزائه، فنزل جعفر من الجانب الغربي، وكانت المواكب مع جميع الأصناف من قائد وأمير وعامل يردون في كل يوم إلى قصر جعفر، فالتفت إلي وقال: يا إسماعيل هذا ما كنا فيه بالأمس انظر كم على باب جعفر من الجيوش والغلمان والمواكب وأنا ما على باب داري أحد، فقلت: يا أمير المؤمنين ناشدتك الله أن لا تعلق نفسك بفكرك هذا وإن جعفرا إنما هو عبدك وخادمك ووزيرك وصاحب جيوشك إذا لم يكن الجيش على بابه فعلى باب من يكون؟ وإنما بابه باب من أبوابك، فقال: يا إسماعيل انظر إلى دوابهم ألست ترى أعجازهم إلى قصري وتروث بإزائنا ونحن ننظر إليها، والله هذا هو الاستخفاف بعينه، والله لا أصبرن على ذلك، ثم غضب غضبا شديدا وامتلأ غيظا فأمسكت عن الكلام وقلت: والله هذا قضاء من الله سابق وحكم لا محالة واقع، ثم استأذنته في الانصراف وعدت إلى منزلي، فلقيني جعفر في الطريق يريد الرشيد فتواريت عنه حتى مضى، فدخل إليه وسلم عليه فأجلسه عن يمينه وأكرمه غاية الإكرام وبش في وجهه وحادثه ساعة ووهب له خادما من خاصة خدمه وأنبلهم وأوضحهم وجها وأكملهم ظرفا كاتبا حاسبا لبيبا، فسر جعفر سرورا كاملا ووقع في قلبه أجل موقع، وكان دسيسا عليه وبلية لديه يرفع أخباره إلى الرشيد ويحصي عليه أنفاسه ساعة بساعة ووقتا بوقت، فخلا به جعفر يومه ذلك وليلته واحتجب من أجله عن الناس، فلما كان بعد ثلاثة أيام سرت إلى جعفر فسلمت عليه، فلما خلا مجلسه ولم يبق عنده غيري وذلك الخادم واقف فعلمت أن الخادم يحصي علينا أخبارنا، فقلت: أيها الوزير نصيحة أفتأذن لي في الكلام، وكان الرشيد ولاه كورة خراسان كلها وما يضاف إليها وما ينسب لها قبل هذا الكلام بأيام وخلع عليه وعقد له لواء وعسكرا بالنهروان، وضرب الناس مضاربهم بها وهم متأهبون للسفر، فقلت: يا سيدي أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده، فلما قلت هذا نظر إلي مغضبا وقال: والله يا إسماعيل ما أكل الخبز ابن عمك أو قال صاحبك إلا بفضلي ولا قامت هذه الدولة إلا بنا، أما كفى أني تركته لا يهتم بأمر شيء من نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله أموالا ولا زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته وأخذته لولدي وعقبي من بعدي وداخله حسد بني هاشم ودب فيه الطمع، وقال: والله لئن سألني شيئا من ذلك ليكونن وبالا عليه سريعا، فقلت: والله يا سيدي ما كان مما ظننت شيء ولا تكلم أمير المؤمنين بحرف قال: فما هذا الفضول منك، فجلست بعدها هنيهة ثم قمت إلى منزلي ولم أركب إليه ولا إلى الرشيد لأني صرت بينهما في حالة شبهة، وقلت في نفسي: هذا الخليفة وهذا وزيره وأي شيء لي بالدخول بينهما، وعلمت عند ذلك أن الخادم الذي وهبه الرشيد لجعفر كتب إلى الرشيد بما كان بيني وبينه وما تكلم به من الكلام الغليظ.
فلما قرأ الكتاب وفهم الخبر احتجب ثلاثة أيام متفكرا في إيقاع الحيلة على البرامكة، فدخل في اليوم الرابع على زبيدة فخلا بها وشكا لها ما في قلبه وأطلعها على الكتاب الذي رفعه إليه الخادم، وكان بين جعفر وزبيدة شر وعداوة قديمة فلما تملكت الحجة عليه بالغت في المكر بهم واجتهدت في هلاكهم، وكان الرشيد يتبرك بمشورتها فقال: علي برأيك الموفق الرشيد فإني خائف أن يخرج الأمر من يدي إن تمكنوا من خراسان وتغلبوا عليها، فقالت: يا أمير المؤمنين مثلك مع البرامكة كمثل رجل سكران غريق في بحر عميق، فإن كنت قد أفقت من سكرتك وتخلصت من غرقتك أخبرتك بما هو أصعب عليك وأعظم من هذا بكثير، وإن كنت على الحالة الأولى تركتك، فقال: قد كان ما كان والآن أسمع منك، فقالت: إن هذا الأمر أخفاه عنك وزيرك وهو أصعب مما أنت فيه وأقبح وأشنع، فقال لها: ويحك ما هو؟ فقالت: أنا أجل من أن أخاطبك به ولكن تحضر أرجوان الخادم وتشدد عليه وتوهنه ضربا فإنه يعرفك الخبر، وكان الرشيد قد أحل جعفرا محلا لم يحله أخوه ولا أبوه وفوض له أن يرى كل جواريه سوى امرأته زبيدة فإنه لم يكن رآها، فلما فسد قلب الرشيد وعزم على هلاك البرامكة وجدت عليهم سبيلا ومالت على جعفر، وكان جعفر يدخل إلى الحريم في غياب الرشيد فلا يستترن منه وكان ذلك بأمر الرشيد.
وقيل: إنه كان للرشيد مجلس بالليل مع جعفر البرمكي فقال له يوما: لا يطيب لي ذلك إلا بمحضر أختي العباسة، ولكن لا يجوز إلا أن نكتب لك عليها لإباحة النظر من غير أن تقربها، فاتفقا على ذلك وعقد له عليها ثم أحضرها فكانت تحضر ذلك المجلس إلا أنه زاد غرامها وعشقها فيه، وكان لجعفر البرمكي امرأة تزين له الجواري كل ليلة، فجاءتها العباسة ورشتها بالمال فزينتها له وأدخلتها عليه فظن أنها جارية.
فلما أصبحوا قالت له: أنا العباسة وقد كنت أسألك أن تساعدني على مودتك فتأبى، فلما أيست منك احتلت عليك بما رأيت في هذه الليلة وإن لم تواظب لأكونن سببا في سلب نعمتك وهل أنت إلا زوجي؟
فطار السكر من رأس جعفر وقال لها: أهلكتني وأهلكت نفسك فوالله لقد بعتيني رخيصا.
فلما بلغ الرشيد الخبر خرج واستدعى بأرجوان الخادم وأحضر السيف والنطع وقال: برأت من المنصور إن لم تصدقني حديث جعفر لأقتلنك، فقال: الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم لك الأمان، قال: أعلم أن جعفرا قد خانك في أختك العباسة وقد دخل بها منذ سبع سنين وولدت منه ثلاثة بنين الأول له ست سنين والاثنان قد أنفذهما إلى مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وهي حامل بالرابع وأنت أذنت له بالدخول على أهل بيتك وأمرتني أن لا أمنعه في أي وقت شاء ليلا ونهارا، قال: أمرتك أن لا تحجبه فحين حدثت هذه الحادثة لم لم تخبرني ، ثم أمر بضرب عنقه وقام من وقته ودخل على زبيدة وقال لها: أرأيت ما عاملني به جعفر وما ارتكب من هتك ستري ونكس رأسي، وفضحني بين العرب والعجم، فقالت: هذه شهوتك وإرادتك عمدت إلى شباب جميل الوجه حسن الثياب طيب الرائحة جابر في نفسه، أدخلته على ابنة خليفة من خلفاء الله وهي أحسن منه وجها وأنظف منه ثوبا وأطيب منه رائحة لكنها لم تر رجلا قط غيره، فهذا جزاء من جمع بين النار والحطب، فخرج من عندها مكروبا، فدعا بخادمه مسرور وكان قاسي القلب فظا غليظا قد نزع الله الرحمة من قلبه فقال: يا مسرور إذا ادلهم الظلام فأتني بعشرة من أقوياء الفعلة ومعهم خادمان، قال: نعم، فلما كان بعد العتمة جاء مسرور ومعه الفعلة والخادمان، فقام الرشيد وهم بين يديه حتى أتى المقصورة التي فيها أخته فنظر إليها وهي حامل فلم يكلمها بشيء ولم يعاتبها على ما فعلت وأمر الخادمين بإدخالها في صندوق كبير في مقصورتها بعد قتلها، ووضعها بحليها وثيابها كما هي وقفل عليها، وقد علمت أنه بعد قتل أرجوان لاحقها به، فلما علم أنه استوثق بها دعا الفعلة ومعهم المعاول والزنابيل فحفروا وسط تلك المقصورة حتى بلغوا الماء وهو قاعد على كرسي ثم قال: حسبكم هاتوا الصندوق فدلوه إلى تلك الحفرة، ثم قال: ردوا التراب عليه، ففعلوا وسدوا الموضع كما كان، ثم أخرجهم وأقفل الباب وأخذ المفتاح معه وجلس في موضعه والفعلة والخادمان بين يديه ثم قال: يا مسرور خذ هؤلاء القوم وأعطهم أجرتهم، فأخذهم مسرور وجعلهم في حد السيف وضبط عليهم بعد أن أثقلهم بالصخر والحصى ورماهم في وسط دجلة ورجع من وقته، فوقف بين يديه فقال: يا مسرور، فعلت ما أمرتك به؟ قال: دفعت لهم أجورهم، فرفع إليه مفتاح البيت وقال: احفظه حتى أسألك عنه وامض الآن وانصب في المحل القبة التركية، ففعل ذلك ووافاه قبل الصبح ولم يعلم أحد ما يريد.
فلما جلس في مجلسه وكان عصر الخميس يوم موكب جعفر: قال: يا مسرور لا تتباعد عني، ودخل الناس فسلموا عليه ووقفوا على مراتبهم، ودخل جعفر بن يحيى البرمكي فسلم عليه، فرد عليه السلام أحسن رد ورحب به وضحك في وجهه وجلس في مرتبته، وكانت مرتبته أقرب المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدثه ساعة وضاحكه فأخرج جعفر الكتب الواردة عليه من النواحي فقرأها عليه وأمر ونهى ومنع، وأنفذ الأمور، وقضى حوائج الناس، ثم استأذن جعفر في الخروج إلى خراسان في يومه ذاك، فدعا الرشيد بالمنجم وهو جالس بحضرته، فقال الرشيد: كم مضى من النهار، قال ثلاث ساعات ونصف، وحسب له الرشيد بنفسه ونظر في نجمه فقال: يا أخي هذا يوم نحوسك، وهذه ساعة نحس ولا أرى إلا أنه يحدث فيها حادث، ولكن تصلي الجمعة وترحل في صعودك وتبيت في النهروان، وتبكر يوم السبت وتستقبل الطريق بالنهار فإنه أصلح من اليوم، فما رضي جعفر بما قاله الرشيد حتى أخذ الإصطرلاب من يد المنجم وقام فأخذ الطالع وحسبه لنفسه وقال: والله صدقت يا أمير المؤمنين إن هذه الساعة ساعة نحس وما رأيت نجما أشد احتراما ولا أضيق مجرى من البروج في مثل هذا اليوم، ثم قام وانصرف إلى منزله والناس والقواد والخاص والعام من كل جانب يعظمونه ويبجلونه إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، وأمر ونهى وانصرف الناس، فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسرورا وقال له: امض إلى جعفر وائتني به الساعة وقل له: وردت كتب خراسان، هذا دخل الباب الأول أوقف الجند، وإذا دخل الباب الثاني أوقف الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدع أحدا يدخل معه من غلمانه بل يدخله وحده، فإذا دخل في صحن الدار فمل به إلى القبة التركية التي أمرتك بنصبها، فاضرب عنقه وائتني برأسه، ولا توقف أحدا من خلق الله على ما أمرتك به ولا تراجعني في أمره، وإن لم تفعل ما ذكرت أمرت من يضرب عنقك ويأتيني برأسك ورأسه جملة، وفي دون هذا كفاية وأنت أعلم، وأسرع قبل أن يبلغه الخبر من غيرك. فمضى مسرور واستأذن على جعفر فدخل وقد نزع ثيابه وطرح نفسه ليستريح، فقال: سيدي أجب أمير المؤمنين، فانزعج وارتاع منه وقال: ويلك يا مسرور أنا في هذه الساعة خرجت من عنده فما الخبر؟ قال: وردت كتب من خراسان يحتاج أن تقرأها، فطابت نفسه ودعا بثيابه فلبسها وتقلد بسيفه وذهب معه، فلما دخل من الباب الأول أوقف الجند، وفي الثاني أوقف الغلمان، فلما دخل من الباب الثالث التفت فلم ير أحدا من غلمانه ولا الخادم الفرد، فندم على ركوبه تلك الساعة ولم يمكنه الرجوع، فلما سار بإزاء تلك القبة المضروبة في صحن الدار مال به إليها وأنزله عن دابته، وأدخله القبة فلم ير فيها إلا سيفا ونطعا فاستحس بالبلاء وقال لمسرور: يا أخي ما الخبر؟ فقال له مسرور: أنا الساعة أخوك وفي منزلك تقول لي: ويلك أنت تدري ما القضية وما كان الله ليهملك ولا لينفعك، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحمل رأسك إليه الساعة، فبكى جعفر وجعل يقبل يدي مسرور ويقول: يا أخي يا مسرور قد علمت كرامتي لك دون جميع الغلمان والحاشية، وإن حوائجك عندي مقضية في سائر الأوقات، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين وما يوحيه إلي من الأسرار، ولعل أن يكونوا بلغوه عني باطلا وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا ودعني أهيم على وجهي، فقال: لا سبيل إلى الحياة أبدا، قال: توقف عني ساعة وارجع إليه وقل له: قد فرغت مما أمرتني به واسمع ما يقول وعد فافعل ما تريد، فإن فعلت ذلك وحصلت لي السلامة فإني أشهد الله وملائكته أني أشاطرك في نعمتي مما ملكته يدي وأجعلك أمير الجيش وأملكك أمر الدنيا، ولم يزل به وهو يبكي حتى طمع في الحياة، فقال له مسرور: ربما يكون ذلك، وحل منطقته وأخذها ووكل به أربعين غلاما من السودان يحفظونه، ومضى مسرور ووقف بين يدي الرشيد وهو جالس يقطر غضبا وفي يده قضيب الولع ينكت به في الأرض، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك ما فعلت في أمر جعفر؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد أنفذت أمرك فيه، فقال: فأين رأسه، فقال: في القبة، قال: فأتني برأسه الساعة، فرجع مسرور وجعفر يصلي وقد ركع ركعة فلم يمهله أن يصلي الثانية حتى سل سيفه الذي أخذه منه وضرب عنقه وأخذ رأسه بلحيته، فطرحه بين يدي أمير المؤمنين وهو يشخب دما.
فنظر الرشيد إلى الجلاد وقال: ائتني باثنين من الجنود، فأتاه بهما فقال لهما: اضربا عنق مسرور فإني لا أقدر أن أرى قاتل جعفر، ثم تنفس الصعداء وبكى بكاء شديدا وجعل ينكت في الأرض في أثناء كل كلمة ويقرع أسنانه بالقضيب ويخاطبه ويقول: يا جعفر ألم أحلك محل نفسي؟ يا جعفر ما كافأتني ولا عرفت حقي ولا تفكرت في صروف الدهر ولا حسبت تقلب الأيام واختلاف أحوالها، يا جعفر خنتني في أهلي وفضحتني بين العرب والعجم، يا جعفر أسأت إلي وإلى نفسك وما تفكرت في عواقب أمرك ولم يزل على هذا الحال طورا ينكت الأرض، وتارة يخاطب رأس جعفر إلى أن آن وقت صلاة الظهر، فخرج إلى الجامع وصلى بالناس جماعة ثم التفت إلى قصور جعفر ودوره وأقبل على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة ومواليهم وغلمانهم واستباح مالهم، وأمر بسلب جميع ما لهم من المضارب والخيام والسلاح وغير ذلك، فلما أصبح يوم السبت إذا هو قد قتل من البرامكة وحاشيتهم نحو ألف إنسان وترك من بقي منهم لا يرجع إلى وطنه وشتت شملهم في البلاد ولم يقدر أحد منهم على كسرة خبز.
ثم وجه إلى مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
فأتى بالصبيين ولدي جعفر من أخته العباسة فأدخلا عليه في بيته، فلما رآهما أعجب بهما وكانا في نهاية من الحسن والجمال فاستنطقهما فوجد لغتهما مدنية وفصاحتهما هاشمية وفي ألفاظهما عذوبة وبلاغة، فقال لكبيرهما: ما اسمك يا قرة عيني؟ قال: الحسن، وقال للصغير: ما اسمك يا حبيبي؟ قال: الحسين، فنظر إليهما وبكى بكاء شديدا، ثم قال: يعز علي حسنكما وجمالكما لا رحم الله من ظلمكما، ولم يدريا ما أراد بهما ثم أمر الجلاد بأخذهما إلى الأودة المعهودة وبقتلهما ودفنهما مع أمهما في الحفرة وهو مع ذلك يبكي بكاء شديدا حتى ظن أنه رحمهما، وأمر بعد ذلك ألا تذكر البرامكة في مجلس لأن ذلك كان مثيرا لأشجانه مجددا في قلبه عوامل الأسى، وكان قتل جعفر بن يحيى في ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة 187ه وهو ابن سبع وثلاثين سنة.
مقتل خالد بن جعفر
قال أبو عبيدة: كان الذي هاج الأمر بين الحارث بن ظالم وخالد بن جعفر أن خالد بن جعفر أغار على قوم الحارث بن ظالم وهم في واد يقال له حراض، فقتل الرجال والحارث يومئذ غلام، وكانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم، فلما قتلت رجالهن طفقن يدعون الحارث فيشد عصاب الناقة ثم يحلبنها ويبكين رجالهن ويبكي الحارث معهن، فنشأت في قلبه العداوة والبغضاء.
وأما خالد بن جعفر فإنه مكث برهة من دهره إلى أن أتى النعمان بن المنذر - ملك الحيرة - لينظر ما قدره عنده وأتاه بفرس، فلقي عنده الحارث بن ظالم وقد أهدى له فرسا، فقال: أبيت اللعن نعم صباحك وأهلي فداؤك، هذا فرس من خيل بني مرة لن يؤتى بمثله، ولقد كنت أرتبطه لغزو بني عامر بن صعصعة، فلما كرمت خالدا أهديته إليك، وقال الربيع بن زياد العبسي فقال: هذا فرس من خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنة لم يخفق في غزوة ولم يتعب في سفر وفضله في هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم، فغضب النعمان عند ذلك، وقال: يا معشر قيس أي خيلكم أشباهنا، أين التي أذنابها كالكلاب تعالك اللجم في أشداقها تدور على مذاودها كأنما يقضمن حصى؟ قال خالد: زعم الحارث أبيت اللعن أن تلك الخيل خيله وخيل آبائه، فغضب النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم، فلما أمسوا اجتمعوا يشربون فقال خالد لقينة تغني:
دار لهند والرباب وفرتني
ولبئس قول حوادث الأيام
وهن خالات الحارث بن ظالم، فغضب الحارث بن ظالم حتى امتلأ غيظا وغضبا وقال: ما تزال تتبع أولى بأخرة، ثم إن النعمان بن المنذر دعاهم بعد ذلك وقدم لهم تمرا، فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي نوى ما يأكل من التمر بين يدي الحارث، فلما فرغ القوم قال خالد بن جعفر: أبيت اللعن انظر إلى ما بين يدي الحارث بن ظالم من النوى فما ترك لنا تمرا إلا أكله.
فقال الحارث: أما أنا فأكلت التمر وألقيت النوى، وأما أنت يا خالد فأكلته بنواه، فغضب خالد وكان لا ينازع، فقال: تنازعني يا حارث وقد قتلت قومك وتركتك يتيما في حجور النساء، فقال الحارث: ذلك يوم لم أشهده وحسبي ما أنا عليه الآن، فقال خالد: فهلا تشكر لي إذا قتلت زهير بن جزيمة وجعلتك سيد غطفان، قال: بلى أشكرك على ذلك، فخرج الحارث بن ظالم إلى بنت عفزر فشرب عندها وقال لها أنشدي:
تعلم أبيت اللعن أني فاتك
من اليوم أو من بعده بابن جعفر
أخالد قد نبهتني غير نائم
فلا تأمنن فتكي مدى الدهر واحذر
أعيرتني أن نلت منا فوارسا
غداة حراض مثل جنات عبقر
أصابهم الدهر الخؤون بخترة
ومن لا يقي الله الحوادث يعثر
فعلك يوما أن تنوء بضربة
بكف فتى من قومه غير جيدر
يعض بها عليا هوازن والمنى
لقاء أبي جزء بأبيض مبتر
فبلغ خالد بن جعفر قوله فلم يحفل به، فقال عبد الله بن جعدة وهو ابن أخت خالد، وكان رجل قيس رأيا لابنه: يا بني ائت أبا جزء فأخبره أن الحارث بن ظالم سفيه موتور فأخف مبيتك الليلة، فإنه قد غلبه الشراب، فإن أبيت فاجعل بينك وبينه رجلا ليحرسك، فوضعوا رجلا بإذائه، ونام ابن جعدة دون الرجل، وعرف أن عروة وابن جعدة يحرسان خالدا، فأقبل الحارث فانتهى إلى ابن جعدة فتعداه، ومضى إلى الرجل وهو يحسبه خالدا فأكب عليه حتى أعدمه الرشاد ثم مال إلى خالد وهو نائم فضربه بالسيف فقتله، فقال لعروة: أخبر الناس أني قتلت خالدا، وقال في ذلك:
ألا سائل النعمان إن كنت سائلا
وحي كلاب هل فتكت بخالد
عشوت إليه وابن جعدة دونه
وعروة يكلا عمه غير راقد
وقد نصبا رجلا فباشرت جوزه
بكلكل مخشي العداوة حارد
فأضربه بالسيف يافوخ رأسه
وصمصم حتى نال نيط القلائد
وأفلت عبد الله مني بذعره
وعروة من بعد ابن جعدة شاهدي
موت يحيى بن خالد البرمكي
لما طالت مدة سجن يحيى بن خالد كتب إلى هارون الرشيد كتابا نصه: «إلى أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين هارون الرشيد من عبد أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه ومال به الزمان ونزل به الحدثان، فعالج البؤس بعد الدعة وافترش السخط بعد الرضى، واكتحل السهاد بعد الهجود ساعته شهر وليلته دهر قد عاين الموت وشارف الفوت جزعا لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفا على ما فات من قربك لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك وبك يا مولاي، وأما ما جناه ولدي خالد على نفسه فذاك أمر قدر فكان وأنت براء منه يا أمير المؤمنين، فانظر في أمري جعلت فداك وليمل هواك بالعفو عن ذنبي ولسوف تبدي لك الأيام براءة ساحتي وحقيقة أمري والسلام»، ثم اختتمها بهذه الأبيات:
يكفيك ما أبصرت من
ذلي وذل مكانيه
وبكاء فاطمة الكئي
بة والمدامع جاريه
ومقالها بتوجع
وا سوأتي وشقائيه
من لي وقد غضب الزما
ن على جميع رجاليه
يا لهف نفسي لهفها
ما للزمان وما ليه
يا عطفة الملك الرضا
عودي علينا ثانيه
فلما بلغ كتابه أمير المؤمنين أهمله ولم يجبه عليه، فاعتل يحيى وزادت آلامه حتى شعر بدنو الأجل فكتب رقعة إلى الرشيد أوصى السجان بأخذها بعد مفارقة روحه الجسد وفيها ما يأتي: «قد تقدم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت على الأثر، والله حكم عدل»، فلما مات يحيى وبلغ الرشيد تلك الرقعة حزن عليه غاية الحزن وندم على ما بدا منه.
رثاء بني برمك لسليمان بن برمك
أصبت بسادة كانوا عيونا
بهم نسقى إذا انقطع الغمام
فقلت وفي الفؤاد ضريم نار
والمعبرات من عيني انسجام
على المعروف والدنيا جميعا
ودولة آل برمك السلام
جزعت عليك يا فضل بن يحيى
ومن يجزع عليك فلا يلام
هوت بك عن أنجم المعروف فينا
وغر بفقدك القوم اللئام
ولم أر قبل قتلك يا ابن يحيى
حسام قده السيف الحسام
برين الحادثات له سهاما
فغالته الحوادث والسهام
ليهن الحاسدين بابن يحيى
أسير لا يضيم ويستضام
وإن الفضل بعد رداء عز
غدا ورداؤه ذال ولام
وقد آليت معتذرا بنذر
ولي فيما نذرت به اعتزام
بأن لا ذقت بعدكم مداما
وموتي أن يفارقني المدام
أألهو بعدكم وأقر عينا
علي اللهو بعدكم حرام
وكيف يطيب لي عيش وفضل
أسير دونه البلد الشآم
وجعفر ثاويا باللحد أبلت
محاسنه السمائم والقنام
أمر به فيغلبني بكائي
ولكن البكاء له اكتتام
أقول وقمت منتصبا لديه
إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش
وعين للخليفة لا تنام
لطفن بركن جزعك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
وقيل فيهم من مرثية:
الآن استرحنا واستراحت ركابنا
وأمسك من يجزى ومن كان يجتدي
فقل للمطايا: قد أمنت من السرى
وطئ الفيافي فرقدا بعد فرقد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر
ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضل تعطلي
وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفا هاشميا مهندا
أصيب بسيف هاشمي مهند
الفصل الثاني
فى نوادر معن بن زائدة
عفو معن بن زائدة عن أسراه
قيل: إن معن بن زائدة قبض على عدة من الأسرى فعرضهم على السيف، فالتفت إليه بعضهم وقال له: أصلح الله الأمير، لا تجمع علينا بين الجوع والعطش ثم القتل، فوالله إن كرم الأمير يبعد عن ذلك، فأمر لهم حينئذ بطعام وشراب فأكلوا وشربوا ومعن ينظر إليهم، فلما فرغوا من أكلهم قالوا له: أيها الأمير أطال الله بقاءك إننا قد كنا أسراك والآن صرنا ضيوفك، فانظر كيف تصنع بضيوفك، فعند ذلك قال لهم معن: قد عفوت عنكم، فقال أحدهم: والله أيها الأمير إن عندنا عفوك عنا أشرف من يوم ظفرك بنا، فسر معنا هذا الكلام وأمر لكل منهم بكسوة ومال.
كرم معن بن زائدة
حكي عن معن بن زائدة أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار، ثم قال له: لو علمت أن الله خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص ودراعة وسراويل وعمامة ومنديل ورداء وجورب وكيس، ولو علمنا لباسا غير هذا من الخز لأعطيناك، ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة وصب تلك الخلع عليه.
إجارة معن لرجل استغاث به من المنصور
روي أن أمير المؤمنين المنصور أهدر دم رجل كان يسعى بفساد دولته مع الخوارج من أهل الكوفة، وجعل لمن دل عليه أو جاء به مائة ألف درهم، ثم إن الرجل ظهر في بغداد، فبينما هو يمشي مختفيا في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فأخذ بمجامع ثيابه وقال: هذا بغية أمير المؤمنين، فبينما الرجل على هذه الحالة إذ سمع وقع حوافر الخيل فالتفت فإذا معن بن زائدة، فاستغاث به وقال له: أجرني أجارك الله، فالتفت معن إلى الرجل المتعلق به وقال له: ما شأنك وهذا؟ فقال له: إنه بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهم، فقال: دعه، وقال لغلامه: انزل عن دابتك واحمل الرجل عليها، فصاح الرجل المتعلق وصرخ واستجار بالناس وقال: حال بيني وبين بغية أمير المؤمنين، فقال له معن: اذهب فقل لأمير المؤمنين وأخبره أنه عندي، فانطلق الرجل إلى المنصور فأخبره، فأمر المنصور بإحضار معن في الساعة، فلما وصل أمر المنصور إلى معن دعا جميع أهل بيته ومواليه وأولاده وأقاربه وحاشيته وجميع من يلوذ به وقال لهم: أقسم عليكم بأن لا يصل إلى هذا الرجل مكروه أبدا وفيكم عين تطرف، ثم إنه سار إلى المنصور فدخل وسلم عليه فلم يرد عليه المنصور السلام، ثم إن المنصور قال له: يا معن أتتجرأ علي، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: ونعم أيضا، وقد اشتد غضبه، فقال معن: يا أمير المؤمنين كم من مرة تقدم في دولتكم بلائي وحسن عنائي، وكم من مرة خاطرت بدمي أفما رأيتم أهلا بأن يوهب لي رجل واحد استجار بي بين الناس بوهمه أنه عبد من عبيد أمير المؤمنين وكذلك هو، فمر بما شئت ها أنا بين يديك، فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقد سكن ما به من الغضب وقال له: قد أجرناكه يا معن، قفال له معن: إن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بين الأجرين فيأمر له بصلة فيكون قد أحياه وأغناه، فقال المنصور: قد أمرنا له بخمسين ألف درهم، فقال له معن: إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية، وإن ذنب الرجل عظيم فأجذل صلته، قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم، فقال له معن: عجل بها يا أمير المؤمنين، فإن خير البر عاجله، فأمر له بتعجيلها، فحملها وانصرف وأتى منزله وقال للرجل: يا رجل خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة الخلفاء في أمورهم بعد هذه.
جود معن بن زائدة
حكي عن معن بن زائدة أن شاعرا من الشعراء قصده فأقام مدة يريد الدخول عليه فلم يتهيأ له ذلك، فلما أعياه الأمر سأل بعض خدمه وقال له: أرجوك إذا دخل الأمير إلى البستان أن تعرفني، فلما دخل معن إلى بستانه ليتنزه جاء الخادم وأخبر الشاعر، فكتب الشاعر بيتا من الشعر على خشبة وألقاها في الماء الجاري إلى البستان، فاتفق أن معنا كان جالسا في ذلك الوقت على جانب الماء، فمرت عليه الخشبة فنظر فيها كتابة فأخذها وقرأها فوجد فيها:
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي
فما لي إلى معن سواك سبيل
فلما قرأها معن قال لخادمه: أحضر الرجل صاحب هذه الكتابة، فخرج وجاء به فقال له: ماذا كتبت، فأنشده البيت، فلما تحققه أمر له بألف درهم، ثم إن معنا وضع تلك الخشبة البساط مكان جلوسه، فلما كان اليوم الثاني جاء فجلس في مجلسه فآلمته الخشبة، فقام لينظر ما آلمه فرأى الخشبة فأمر خادمه أن يدعو الرجل، فمضى وجاء به فأمر له بألف درهم ثانية، ثم إنه في اليوم الثالث خرج إلى مجلسه فآلمته الخشبة فدعا الشاعر وأعطاه ألف درهم أيضا، فلما رأى الشاعر هذا العطاء الزائد لأجل بيت واحد من الشعر خاف أن معنا يراجعه عقله ويأخذ المال منه فهرب، ثم إن معنا خرج إلى مجلسه في اليوم الرابع فآلمته الخشبة فخطر الشاعر بباله فأمر خادمه أن يحضره ويعطيه ألف درهم، فمضى الخادم وسأل عنه فقيل له: إنه سافر، فرجع وأخبر مولاه، فلما بلغه أنه سافر اغتم جدا وقال: وددت والله لو أنه مكث وأعطيته كل يوم ألفا حتى لا يبقى في بيتي درهم.
الأعرابي ومعن بن زائدة
كان معن بن زائدة أميرا على العراق وكان له في الكرم اليد البيضاء وهو من الحلم على أعظم جانب، فقدم إليه أعرابي ذات يوم يمتحن حلمه، فلما وقف قال:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير
قال معن: أذكر ذلك ولا أنساه، فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكا
وعلمك الجلوس على السرير
قال معن: سبحانه على كل حال، فقال الأعرابي:
فلست مسلما إن عشت دهرا
على معن بتسليم الأمير
قال معن: يا أخا العرب السلام سنة تأتي بها كيف شئت، فقال الأعرابي:
سأرحل عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير
قال معن: يا أخا العرب إن جاورتنا فمرحبا بك، وإن رحلت مصحوب بالسلام.
فقال الأعرابي:
فجد لي يا ابن ناقصة بشيء
فإني قد عزمت على المسير
قال معن: أعطوه ألف دينار يستعين بها على سفره، فأخذها وقال:
قليل ما أتيت به وإني
لأطمع منك بالمال الكثير
قال معن: أعطوه ألفا آخر، فأخذها الأعرابي وقبل الأرض بين يدي الأمير وقال:
سألت الله أن يبقيك ذخرا
فما لك في البرية من نظير
فقال: من قد أعطيناه على هجائنا ألفي درهم فأعطوه على مديحنا أربعة آلاف، فأخذ الأعرابي المال وانصرف شاكرا له ومعجبا بحلمه العظيم.
معن وبعض أهل الكوفة
لما ولى المنصور معن بن زائدة أذربيجان قصده قوم من أهل الكوفة، فلما صاروا ببابه واستأذنوا عليه دخل الآذن فقال: أصلح الله الأمير، بالباب وفد من أهل العراق، قال: من أي العراق؟ قال: من الكوفة، قال: ائذن لهم، فدخلوا عليه، فنظر إليهم معن في هيئة ذرية وهو على أريكته فأنشد يقول:
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم
سمرتها فالدهر بالناس قلب
فأحسن ثوبيك الذي هو لابس
وأفره مهريك الذي هو يركب
وبادر بمعروف إذا كنت قادرا
زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
فوثب إليه رجل من القوم فقال: أصلح الله الأمير ألا أنشدك أحسن من هذا؟ قال: لمن؟ قال: لابن عمك ابن هرمة، قال: هات فأنشد:
وللنفس تارات بها تبخل العدى
وتسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرء لم ينفعك حيا فنفعه
أقل إذا ضمت عليه الصفائح
لأية حال يمنع المرء ماله
غدا فعدا والموت غاد ورائح
فقال معن: أحسنت وإن كان الشعر لغيرك يا غلام، أعطهم أربعة آلاف يستعينون بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد، فقال الغلام: يا سيدي اجعلها دنانير أو دراهم، فقال معن والله لا تكون همتك أعلى من همتي صفرها لهم.
معن ومروان بن أبي حفصة
لما قدم معن بن زائدة بغداد أتاه الناس وأتاه مروان بن أبي حفصة، فإذا المجلس غاص بأهله فأخذ بمصراع في الباب وقال:
وما أحجم الأعداء عنك تقية
عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الجود والحتف فيهما
أبى الله إلا أن تضر وتنفعا
فقال معن: احتكم يا أبا السمط، فقال: عشرة آلاف درهم، قال معن: يجب عليك أن تطلب تسعين ألفا.
ذكر ما قاله الحسين في معن بن زائدة
خرج المهدي يوما يتصيد فلقيه الحسين بن مطير فأنشد:
أضحت يمينك من جود مصورة
لكن يمينك منها صورة الجود
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقة
ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال المهدي: كذبت يا فاسق، وهل تركت في شعر موضعا لأحد مع قولك في معن بن زائدة:
ألما بمعن ثم قولا لقبره
سقتك الفؤاد مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن كنت أول حفرة
من الأرض حطت للمكارم مضجعا
أيا قبر معن كيف واريت جوده
وقد كان منه البر والبحر مترعا
ولكن حويت الجود والجود ميت
ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا
وما كان إلا الجود صور وجهه
فعاش ربيعا ثم ولى مودعا
فلما مضى معن مضى الجود والندى
وأصبح عرنين المكارم أجدعا
فأطرق الحسين ثم قال: يا أمير المؤمنين وهل معن إلا حسنة من حسناتك؟ فرضي عنه وأمر له بألفي دينار.
معن وبعض فصحاء العرب
دخل بعض فصحاء العرب على معن فقال: أصلح الله الأمير لو شئت أن أتوسل إليك ببعض من يثقل عليك لوجدت ذلك سهلا عليك، ولكن استشفعت بقدرك واستعنت عليك بفضلك، فإن أردت أن تضعني من كرمك حيث وضعت نفسي من رحلك، فإني لم أكرم نفسي عن مسألتك فأكرم وجهك عن ردي، فقال: سل حاجتك، قال: ألف درهم، قال: ربحت عليك ربحا مبينا، قال: مثلك لا يربح على سائله، قال: أضعفوا له ما سأل.
معن بن زائدة والثلاث جوار
كان معن بن زائدة يوما في الصيد فعطش فلم يجد مع غلمانه ماء، فبينما هو كذلك وإذا ثلاث جوار قد أقبلن حاملات ثلاث قرب فسقينه، فطلب شيئا من المال مع غلمانه فلم يجده، فدفع لكل واحدة منهن عشرة أسهم من كنانته نصولها من ذهب، فقالت إحداهن: ولكن لم تكن هذه الشمائل إلا لمعن بن زائدة، فلتقل كل واحدة منكن شيئا من الأبيات فقالت الأولى:
يركب في السهام نصول تبر
ويرمي للعدا كرما وجودا
فللمرضى علاج من جراح
وأكفان لمن سكن اللحودا
وقالت الثانية:
ومحارب من فرط جود بنانه
عمت مكارمه الأقارب والعدى
صيغت فصول سهامه من عسجد
كي لا يفوته التقارب والندا
وقالت الثالثة:
ومن جوده يرمي العداة بأسهم
من الذهب الإبريز صيغت نصولها
لينفقها المجروح عند انقطاعه
ويشتري الأكفان منها قتيلها
معن وأحد العامة
خرج معن بن زائدة يوما في جماعة إلى الصيد، فقرب منهم قطيع ظباء فافترقوا في طلبه، وانفرد معن خلف ظبي، فلما ظفر به نزل فذبحه، فرأى شخصا مقبلا من البرية على حمار فركب فرسه واستقبله ، فسلم عليه وقال له: من أين أتيت؟ قال له: أتيت من أرض قضاعة وإن لها مدة من السنين مجدبة، وقد أخصبت في هذه السنة فزرعت فيها قثاء، وقصدت الأمير معن بن زائدة لكرمه المشهور، ومعروفه المأثور، فقال له: كم أملت منه؟ قال: ألف دينار، قال له: إن قال لك هذا القدر كثير، فقال: خمسمائة دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: ثلاثمائة دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: مائتا دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: مائة دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: خمسين دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: ثلاثين دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: أدخلت قوائم حماري في فكه وأرجع إلى أهلي خائبا صفر اليدين، فضحك معن منه وساق جواده حتى لحق بعسكره ونزل في منزله وقال لحاجبه: إذا أتاك شخص على حمار بقثاء، فأدخله علي، فأتى ذلك الرجل بعد ساعة فأذن له الحاجب في الدخول، فلما دخل على الأمير معن لم يعرف أنه هو الذي قابله في البرية لهيبته وجلالته وكثرة خدمه وحشمه وهو متصدر في دست مملكته والحفدة قيام عن يمينه وعن شماله وبين يديه، فلما سلم عليه قال له الأمير: ما الذي أتى بك يا أخا العرب، قال: أملت الأمير وأتيت له بقثاء في غير أوانها، فقال له: وكم أملت منا، قال: ألف دينار، قال: هذا القدر كثير، قال: خمسمائة دينار قال: كثير، قال: ثلاثمائة دينار، قال: كثير، قال: مائتا دينار، قال: كثير، قال: مائة دينار، قال: كثير، قال: خمسين دينارا، قال: كثير، قال: ثلاثين دينارا قال: كثير، قال: والله لقد كان ذاك الرجل الذي قابلني في البرية مشؤوما، أفلا أقل من ثلاثين دينارا، فضحك معن وسكت فعلم الأعرابي أن هذا الرجل الذي قابله في البرية، فقال له: يا سيدي إذا لم تجئ بالثلاثين دينارا فها هو الحمار مربوط بالباب وها معن جالس، فضحك معن حتى استلقى على قفاه، ثم استدعى وكيله وقال له: أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائتي دينار وخمسين دينارا وثلاثين دينارا ودع الحمار مربوطا مكانه، فبهت الأعرابي وتسلم الألفين ومائة دينار وثمانين دينارا.
قيل في معن بن زائدة:
يقولون معن لا زكاة لماله
وكيف يزكي المال من هو باذله
إذا حال حول لم يكن في دياره
من المال إلا ذكره وجمائله
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
تعود بسط الكف حتى لو أنه
أراد انقباضا لم تعطه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
لمروان بن أبي حفصة يرثي بها معن بن زائدة
مضى لسبيله معن وأبقى
مكارم لن تبيد ولن تنالا
كأن الشمس يوم أصيب معن
من الإظلال ملبسة ظلالا
هو الجبل الذي كانت نزار
تهد من العدو به الجبالا
وعطلت الثغور لفقد معن
وقد يروى بها الأسل النهالا
وأظلمت العراق وأورثتها
مصيبة المجللة اعتلالا
وظل الشام يرجف جانباه
لركن العز حين وهى فمالا
وكادت من تهامة كل أرض
ومن نجد تزول غداة زالا
فإن يعلو البلاد له خشوع
فقد كانت تطول به اختيالا
أصاب الموت يوم أصاب معنا
من الإحياء أكرمهم فعالا
كأن الناس كلهم بمعن
إلى أن زار حفرته عيالا
ولم يك طالب للعرف ينوي
إلى غير ابن زائدة ارتحالا •••
مضى من كان يحمل كل عب
ويسبق فضل نائله السؤالا
وما عمد الوفود لمثل معن
ولا حطوا بساحته الرحالا
ولا بلغت أكف ذوي العطايا
يمينا من يديه ولا شمالا
وما كانت تجف له حياض
من المعروف مترعة سجالا
فليت الشامتين به فدوه
وليت العمر مد له فطالا
ولم يك كنزه ذهبا ولكن
سيوف الهند والسمر الصقالا
وذخرا في محامد باقيات
وفضل تقي به التفضيل نالا
مضى لسبيله من كنت ترجى
به عثرات دهرك أن تقالا
فلست بمالك عبرات عين
أبت بدموعها إلا انهمالا
فلهف أبي عليك إذ اليتامى
غدوا شعثا وقد أضحوا سلالا
ولهف أبي عليك إذ القوافي
لممتدح بها ذهبت ضلالا
أقمنا باليمامة إذ يئسنا
مقاما لا نريد لها نزالا
وقلن أين نرحل بعد معن
وقد ذهب النوال فلا نوالا
سيذكرك الخليفة غير قال
إذا هو في الأمور بلا الرجالا
ولا ينسى وقائعك اللواتي
على أعدائه جعلت وبالا
حباك أخو أمية بالمراثي
مع المدح الذي قد كان قالا
وألقى رحله أسفا وآلى
يمينا لا يشد له حبالا
الفصل الثالث
في نوادر حاتم الطائي
حاتم في صغره
كان حاتم من شعراء العرب وكان جوادا يشبه شعره جوده ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفرا إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق وكان يقسم بالله أن لا يقتل وحيد أمه، وكان إذا أهل الشهر الأصم الذي كانت مضر تعظمه في الجاهلية ينحر في كل يوم عشرا من الإبل فيطعم الناس ويجتمعون إليه، فكان ممن يأتيه من الشعراء الحطيئة وبشر بن أبي خازم، فذكروا أن أم حاتم أتيت وهي حبلى بالمنام فقيل لها: أغلام سمح يقال له حاتم أحب إليك أم عشرة غلمة كالناس، ليوث ساعة الباس، ليسوا بأوغال ولا أنكاس، فقالت: حاتم، فولدت حاتما، فلما ترعرع جعل يخرج أمامه فإن وجد من يأكل معه أكل، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له: الحق بالإبل، فخرج إليها، ووهب له جارية وفرسا وفلوها، فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحدا، فبينما هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم، فقالوا: يا فتى هل من قرى، فقال: تسألوني عن القرى وقد ترون الإبل، وكان الذين بصر بهم ابن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا بالقرى اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لا بد متكلفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت ولكن رأيت وجوها مختلفة وألوانا متفرقة فظننت أن البلدان غير واحدة فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى إلى قومه، فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فكان لكم الفضل علي وأنا أعاهد الله فأضرب عراقيب إبلي عن آخرها وتقدموا إليها فتقتسموها، ففعلوا فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيرا ومضوا على سفرهم إلى النعمان، وإن أبا حاتم سمع بما فعل، فأتاه فقال له: أين الإبل؟ فقال: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة لجيد الدهر وكرما لا يزال الرجل يحمله ببيت شعر أثنى به علينا عوضا عن إبلك، فلما سمع أبوه ذلك قال: والله لا أساكنك أبدا فخرج أبوه بأهله وتركه هائما ومعه جاريته وفرسه وفلوها، فقال يذكر تحول أبيه عنه:
وإني لعف الفقر مشترك الغنى
وتارك شكل لا يوافقه شكلي
وأجعل مالي دون عرضي جنة
لنفسي وأستفتي بما كان من فضلي
وما ضرني أن سار سعد بأهله
وأفردني في الدار ليس معي أهلي
سيكفي ابتناي المجد سعد بن حشرج
وأحمل عنكم كل ما حل من أزلي
ولي مع بذل المال في المجد صولة
إذا الحرب أبدت عن نواجذها العضل
وما من لئيم عاله الدهر مرة
فيذكرها إلا استحال إلى البخل
كرم حاتم
أغار قوم على طيئ فركب حاتم فرسه وأخذ رمحه ونادى في جيشه وأهل عشيرته، ولقي القوم فهزمهم وتبعهم فقال له كبيرهم: يا حاتم هبني رمحك فرمى به إليه، فقيل لحاتم: عرضت نفسك للهلاك ولو عطف عليك لقتلك، فقال: قد علمت ذلك ولكن ما جواب من يقول: هب لي؟
مفاخرة بين حاتم وسعد بن حارثة
خرج الحكم بن أبي العاصي ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة، وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لام بن عمر ريع الطريق طعمة لهم، وذلك لأن بنت سعد بن حارثة بن لام كانت عند النعمان وكانوا صهاره، فمر الحكم بن أبي العاصي بحاتم بن عبد الله فسأله الجوار في أرض طيئ حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت، فأكلوا ومع حاتم سلمان بن حارثة بن سعد بن الحشرج وهو ابن عمه، فلما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبه ذلك، فمر حاتم بسعد بن حارثة بن لام وليس مع حاتم من بني أبيه غير سلمان وحاتم على راحلته وفرسه تقاد، فأتاه بنو لام فوضع حاتم سفرته وقال: اطعموا حياكم الله، فقالوا: من هؤلاء معك يا حاتم؟ قال: هؤلاء جيراني، قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا، قال له: أنا ابن عمكم وأحق من لم تخفروا ذمته، فقالوا: لست هذاك، وأرادوا أن يفضحوه كما فضح عامر بن جوين قبله، فوثبوا إليه فتناول سعد بن حارثة بن لام حاتما، فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا، فقال حاتم في ذلك:
وددت وبيت الله لو أن أنفه
هواء فما مت المخاط عن العظم
ولكنما لاقاه سيف ابن عمه
فآب ومر السيف منه على الخطم
فقالوا لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك ونضع الرهن، ففعلوا ووضعوا تسعة أفراس رهنا على يد رجل من كلب يقال له امرؤ القيس بن عدي ووضع حاتم فرسه، ثم خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة، وسمع ذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر ويقويهم بماله وسلطانه المصهر الذي بينهم وبينه، فجمع إياس رهطه من بني حية وقال: يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مماجدته، فقال رجل من بني حية: عندي مائة ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء، وقام آخر فقال: عندي عشرة أحصنة على كل حصان منهم فارس مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك كلاء كثيرا فعلي كل خمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة، ثم قام إياس فقال: علي مثل جميع ما أعطيتم كلكم، كل ذلك وحاتم لا يعلم شيئا مما فعلوا، وذهب حاتم إلى مالك بن جبار ابن عم له بالحيرة كان كثير المال، فقال: يا ابن العم أعني على مفاخرتي ثم أنشد:
يا مال إحدى خطوب الدهر قد طرقت
يا مال ما أنتم عنها بزحزاح
يا مال جاءت حياض الموت واردة
من بين عمر فخضناه وضحضاح
فقال له مالك: ما كنت لأخرب نفسي ولا عيالي وأعطيك مالي، فانصرف عنه، وأتى ابن عم له يقال له وهم بن عمرو، وكان حاتم يومئذ معاد له لا يكلمه، فقالت له امرأته: أي وهم هذا، والله أبو سفانة حاتم قد طلع، فقال: ما لنا ولحاتم أثبتي النظر، فقالت: ها هو، قال: ويحك هو لا يكلمني فما جاء به إلي؟ فنزل حاتم فسلم عليه، فرد سلامه وحياه ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم، قال: خاطرت على حسبك وحسبي، قال: في الرحب والسعة هذا مالي - وكانت عدته يومئذ تسعمائة بعير - فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد، فقالت امرأته: يا حاتم أنت تخرجنا عن مالنا وتفضح صاحبنا، تعني زوجها، فقال: اذهبى عني فوالله ما كان الذي غمك ليردني عما قصدت، وقال حاتم:
ألا أبلغا وهم بن عمرو رسالة
فإنك أنت المرء بالخير أجدر
رأيتك أوفى الناس منا قرابة
وغيرك منهم كنت أحبو وأنصر
إذا ما أتى يوم يفرق بيننا
بموت فكن يا وهم من يتأخر
ثم قال إياس بن قبيصة: احملوني إلى الملك، وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه، فقال: أنعم صباحا أبيت اللعن، فقال النعمان: وحياك إلهك، فقال: إياس أتمد أختانك بالمال والخيل وتجعل بني ثعل في قعر الكنانة، أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين ولن يشعروا أن بني حية بالبلد، فإن شئت والله ناجزناك حتى يطفح الوادي دما، فليحضروا مماجدهم - مفاخرتهم - غدا بجمع العرب، فعرب النعمان الغضب في وجهه وكلامه فقال له: يا أحلمنا لا تغضب فإني سأكفيك، وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه: انظروا ابن عمكم حاتما فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه وما أطيق بني حية، فخرج بنو لام إلى حاتم فقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا، قال : لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم ويقلب مجادكم، فتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا: قبحها الله وأبعدها فإنما هي مقارف، فعمد إليها حاتم فعقرها وأطعمها الناس وسقاهم الخمر وقال حاتم في ذلك:
أبلغ بني لام بأن خيولهم
عقرى وإن مجادهم لم يمجد
ها إنما مطرت سماؤكم دما
ورفعت رأسك مثل رأس الأصيد
ليكون جيراني أكالى بينكم
نجلا لكندي وسبي مزبد
وابن النجود إذا غدا متلاظما
وابن العذور ذي العجان الأبرد
ولثابت عيني جدا متماوت
وللفظ أوسي عوى لمقلد
أبلغ بني ثعل بأني لم أكن
أبدا لأفعلها طوال المسند
لا جئتهم فلا وأترك صحبتي
نهبا ولم تغدر بقائمة يدي
ملك الروم وحاتم الطائي
من أعجب ما حكي عن حاتم الطائي أن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار حاتم فاستغرب ذلك، وكان قد بلغه أن لحاتم فرسا من كرام الخيل عزيزة عنده، فأرسل إليه بعض حجابه يطلب منه الفرس هدية إليه وهو يريد أن يمتحن سماحته بذلك، فلما دخل الحاجب ديار طيئ سأل عن أبيات حاتم حتى دخل عليه، فاستقبله ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب الملك، وكانت المواشي حينئذ في المراعي فلم يجد إليها سبيلا لقرى ضيفه فنحر الفرس وأضرم النار، ثم دخل إلى ضيفه يحادثه فأعلمه أنه رسول قيصر، وقد حضر يستميح الفرس، فساء ذلك حاتما وقال: هلا أعملتني قبل الآن فإني قد نحرتها لك إذ لم أجد جزورا غيرها بين يدي، فعجب الرسول من سخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا.
حاتم وامرأته ماوية
قيل: إن حاتما الطائي لما كان متزوجا بماوية بنت عفير كانت تلومه كثيرا على إتلاف المال فلا يلتفت إلى قولها ولا يكترث به، وكان لها ابن عم يقال له مالك فقال لها يوما: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد مالا ليتلفنه وإن لم يجد ليتكلفن، ولئن مات ليتركن أولاده عالة على قومك، فقالت ماوية: صدقت إنه كذلك. وكن يطلقن الرجال في الجاهلية، وذلك أن يقمن ضمن بيت من شعر فإن كان باب البيت من قبل المشرق حولته إلى المغرب وإن كان من قبل المغرب حولته إلى المشرق، وإن كان من قبل اليمن حولته إلى الشام وإن كان من قبل الشام حولته إلى اليمن، فإذا رأى الرجل ذلك علم أنها طلقته فلم يأتها، ثم قال لها ابن عمها طلقي حاتما وأنا أتزوجك فإني خير لك منه وأكثر مالا وأقل تبذيرا، فلم يزل بها حتى طلقته فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال حاتم لولده: يا عدي أترى ما فعلت أمك؟ فقال: قد رأيت ذلك، فأخذ ابنه وهبط بطن واد فنزل فيه فجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون وكانت عدتهم خمسين فارسا فضاقت بهم ماوية ذرعا وقالت لجاريتها: اذهبي إلى ابن عمي وقولي له: إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلا فأرسل لنا بشيء نقريهم ولبن نسقيهم، وقالت لها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن ضرب بلحيته على زوره ولطم رأسه فأقبلي ودعيه، فلما أتته وجدته متوسدا وطبا من لبن، فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت له: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكان حاتم، فلطم رأسه بيده وضرب بلحيته وقال أقرئيها السلام وقولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما لأجله وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم، فرجعت الجارية، فأخبرتها بما رأت وما قال لها، فقالت لها: اذهبي إلى حاتم وقولي له: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة ولم يعلموا مكانك فأرسل إلينا بناقة نقريهم ولبن نسقيهم، فأتت الجارية حاتما فصاحت به، فقال: لبيك ماذا تريدين؟ فأخبرته بما جاءت بسببه، فقال لها: حبا وكرامة، ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقالهما وصاح بهما حتى أتيا الخباء ثم ضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح: هذا الذي طلقتك بسببه تترك أولادنا وليس لهم شيء، فقال لها: ويحك يا ماوية، الذي خلقهم وخلق العالم بأسره متكفل بأرزاقهم.
جود حاتم الطائي
قالت نوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء، وضرب الجوع أطنابه حتى بتنا بالهلاك، فبقينا الليل على هذا الحال والموت يتهددنا ويتهدد أولادنا عبد الله وعديا وسنانة، فقام حاتم إلى الولدين، وقمت أنا إلى الابنة وما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت، فلما اسود الدجى إذا بصوت قد سمع ويد حركت الباب، فقال: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب فما وجدت سندا سواك يا أبا عدي، فقال: علي بهم فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي وراءها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فنحره، ثم كشط عن جلده ودفع المدية إلى المرأة وقال لها: شأنك، فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتا بيتا فيقول: هبوا أيها القوم عليكم بالنار، فاجتمعوا والتفع في ثوبه متنحيا ينظر إلينا بدون أن يذوق طعاما هو أحوج إليه منا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم وحافر، فأنشأ حاتم يقول:
مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا
ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه
مهلا وإن كنت أعطي الإنس والجبلا
يرى البخيل سبيل المال واحدة
إن الجواد يرى في ماله سبلا
ولحاتم الطائي وقد استنشدته ماوية:
أماوي قد طال التجنب والهجر
وقد غدرتني من طلابكم العذر
أماوي إن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي إني لا أقول لسائل
إذا جاء يوما حل في مالنا نذر
أماوي إما مانع فمبين
وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر
ومنها:
أماوي إن يصبح حداي بقفرة
من الأرض لا ماء هناك ولا خمر
ترى أن ما أهلكت لم يك ضرني
وأن يدي مما بخلت به صفر
أماوي إني رب واحد أمه
أحيرت فلا قتل عليه ولا أسر
وقد علم الأقوام لو أن حاتما
أراد ثراء المال كان له وفر
وإني لا آلو بمال صنيعة
فأوله زاد وآخره ذخر
يفك به العاني ويؤكل طيبا
وما إن تعريه القداح ولا الخمر
ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي
شهودا وقد أودى بإخوته الدهر
عنينا زمانا بالتصعلك والغنى
كما الدهر في أيامه العسر واليسر
كسبنا صروف الدهر لينا وغلظة
وكلا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة
غنانا ولا أدى بإحساننا الفقر
فقدما عصيت العاذلات وسلطت
على مصطفى مالي أناملي العشر
وما ضر جارا يا ابنة العم فاعلمي
يجاورني ألا يكون له ستر
بعيني عن جارات قولي غفلة
وفي السمع مني عن حديثهم وقر
وقال أحدهم في حاتم:
وحاتم طيئ إن طوى الموت جسمه
فنشر اسمه في الجود عاش مخلدا
وقال آخر:
لما سألتك شيئا
بدلت رشدا بغي
ممن تعلمت هذا
إلا تجود بشي
أما مررت بعبد
لعبد حاتم طي
وصادفت ابن الكلبي حاتما فأنشده:
وعاذلة هبت بليل تلومني
وقد غاب عبوق الثريا فغردا
تلوم على إعطائي المال ضلة
إذا ضل بالمال البخيل وصردا
تقول ألا أمسك عليك فإنني
أرى المال عند الممسكين معبدا
ذريني وشأني إن مالك وافر
وكل امرئ جار على ما تعودا
أعاذل لا آلوك إلا خليقتي
فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا
ذريني يكن مالي لعرضي جنة
يقي المال عرضي قبل أن يتبددا
أريني جوادا مات هزلا لعلني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وإلا فكفي بعض قولك واجعلي
إلى رأى من تلحين رأيك مسندا
ألم تعلمي أني إذا الضيف نابني
وعز القرى أقرى السديف المرهدا
أسود سادات العشيرة عارفا
ومن دون قومي في الشدائد مذودا
وألفي لأعراض العشيرة حافظا
وحقهم حتى أكون المسودا
يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد
وما كنت لولا تقولون سيدا
كلوا الآن من رزق الإله وأيسروا
فإن على الرحمن رزقكم غدا
سأذخر من مالي دلاصا وسابحا
وأسمر خطيا وعضبا مهندا
وذلك يكفيني من المال كله
مصونا إذا ما كان عندي متلدا
وأنشده أيضا:
ألا سبيل إلى مال يعارضني
كما يعارض ماء الأبطح الجاري
ألا أعان على جودي بميسرة
فلا يرد لدى كفي أقتاري
وأنشده أيضا:
أما والذي لا يعلم الغيب غيره
ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهى
مخافة يوما أن يقال لئيم
وما كان بي ما كان والليل ملبس
رواق له فوق الأكام بهيم
ألف مجلسي الزاد من دون صحبتي
وقد آب نجم واستقل نجوم
وأنشده أيضا:
وقائلة أهلكت بالجود مالنا
ونفسك حتى ضر نفسك جودها
فقلت دعيني إنما تلك عادتي
لكل كريم عادة يستعيدها
وأنشد حاتم يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك
ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردي
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني
أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما زال ثاويا
وما في إلا تلك من شيمة العبد
يزيد بن حاتم وربيعة الرأي
قيل: إن ربيعة الرأي قدم مصر فأتى يزيد السلمي فلم يعطه شيئا، ثم عطف على يزيد بن حاتم فشغل عنه لأمر ضروري فخرج وهو يقول:
أراني ولا كفران لله راجعا
بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فلما فرغ ابن حاتم من ضرورته سأل عنه فقيل له: إنه خرج وهو يقول كذا، وأنشد البيت فأرسل من يجد في طلبه فأتي به فقال: كيف قلت؟ فأنشد البيت، فقال يزيد: شغلنا عنك وعجلت علينا ثم أمر بخفيه فخلعا من رجله وملئا مالا وقال: ارجع بهما بدلا من خفي حنين.
مديح حاتم بعد الوفاة
خرج إليه رجل من الشعراء يمدحه فلما بلغ مصر وجده قد مات فقال فيه:
لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي
وأخلفني منها الذي كنت آمل
فما كل ما يخشى الفتى بمصيبة
ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل
وما كان بيني لو لقيتك سالما
وبين الغنى إلا ليال قلائل
حاتم الطائي بعد الوفاة
يحكى عن حاتم الطائي أنه لما مات دفن في رأس جبل وعملوا على قبره حوضين من حجرين ورسوم بنات محلولات الشعور من حجر، وكان تحت ذلك الجبل نهر جار، فإذا نزلت الوفود يسمعون الصراخ في الليل من العشاء إلى الصباح، فإذا أصبحوا لم يجدوا أحدا غير البنات المصورة من الحجر.
فلما نزل ذو الكراع ملك حمير بذلك الوادي خارجا عن عشيرته بات تلك الليلة هناك، وتقرب من ذلك الموضع، فسمع الصراخ فقال: ما هذا العويل الذي فوق هذا الجبل؟ فقالوا له: إن هذا قبر حاتم الطائي وإن عليه حوضين من حجر ورسوم بنات من حجر محلولات الشعور، وكل ليلة يسمع النازلون في هذا المكان هذا العويل والصراخ، فقال ذو الكراع ملك حمير يهزأ بحاتم الطائي: يا حاتم نحن الليلة ضيوفك ونحن خماص، قال: فغلب عليه النوم، ثم استيقظ وهو مرعوب وقال: يا عرب الحقوني وأدركوا راحلتي، فلما جاءوا وجدوا الناقة تضطرب فذبحوها وشووا لحمها وأكلوا، ثم سألوه عن سبب ذلك فقال: غفلت عيني فرأيت في منامي حاتم الطائي وقد جاءني بسيف وقال: جئتنا ولم يكن عندنا شيء، وضرب ناقتي بالسيف، فلو لم تحصلوها وتنحروها لماتت، فلما أصبح الصباح ركب ذو الكراع راحلة واحد من أصحابه وأردفه خلفه، فلما كانوا وسط النهار رأوا راكبا على راحلة وفي يده راحلة أخرى، فقالوا له من أنت؟ فقال أنا عدي ابن حاتم الطائي، ثم قال أين ذو الكراع أمير حمير؟ فقالوا له: هذا هو، فقال: اركب هذه الناقة عوضا عن راحلتك فإن ناقتك قد ذبحها أبي لك، قال ومن أخبرك، قال: أتاني الليلة في المنام وقال لي: يا عدي إن ذا الكراع ملك حمير استضافني فنحرت له ناقته فأدركه بناقة يركبها، فإني لم يكن عندي شيء، فأخذها ذو الكراع وتعجب من كرم حاتم حيا وميتا.
الفصل الرابع
في نوادر الخليفة المهدي
أبو دلامة والمهدي
ولد لأبي دلامة ابنة ليلا فأوقد السراج وجعل يخيط خريطة من شقيق، فلما أصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي واستأذن عليه وكان لا يمنعه الدخول فأنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم لقيل: اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج
إلى السماء فأنتم أكرم الناس
قال له المهدي: أحسنت والله أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ قال: ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين، قال: فهل قلت فيها شعرا؟ قال: نعم، قلت:
فما ولدتك مريم أم عيسى
ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمك أم سوء
إلى لباتها وأب لئيم
فضحك المهدي وقال: فما تريد أن أعينك به في تربيتها، قال: تملأ هذه يا أمير المؤمنين وانهار إليه بالخريطة بين إصبعيه، فقال المهدي وما عسى أن تحمل هذه، قال: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير، فمر أن تملأ مالا، فلما نشرت أخذت عليه صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم، فضحك المهدي حتى استلقى على قفاه.
أبو دلامة والمهدي
وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجا فأخذ به وهو سكران، فأتى به إلى المهدي فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يسجن في بيت الدجاج، فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج صاح: يا صاحب البيت، فاستجاب له السجان وقال: ما لك يا عدو الله؟ قال: ويلك من أدخلني مع الدجاج؟ قال: أعمالك الخبيثة أتى بك أمير المؤمنين وأنت سكران فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج، قال له: ويلك أوقد لي سراجا وجئني بدواة وورق فكتب أبو دلامة إلى المهدي:
أمن صهباء صافية المراج
كأن شعاعها لهب السراج
تهش لها النفوس وتشتهيها
إذا برزت ترقرق في الزجاج
أمير المؤمنين فدتك نفسي
علام حبستني وخرقت ساجي
أقاد إلى السجون بغير ذنب
كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست لهان ذاكم
ولكني حبست مع الدجاج
دجاجات يطيف بهن ديك
ينادي بالصياح إذا يناجي
وقد كانت تخبرني ذنوبي
بأني من عذابك غير ناجي
على أني وإن لاقيت شرا
لخيرك بعد ذاك الشر راجي
ثم قال: أوصلها إلى أمير المؤمنين، فأوصلها إليه السجان، فلما قرأها أمر بإطلاقه وأدخله عليه فقال له: أين بت الليلة أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج يا أمير المؤمنين، قال: فما كنت تصنع؟ قال: كنت أقوقي معهن حتى أصبحت، فضحك المهدي وأمر له بصلة جزيلة وخلع عليه كسوة شريفة.
المهدي وأبو دلامة الشاعر
لما اتصل بالمهدي خبر وفاة والده بمكة المكرمة اشتد منه الحزن واغرورقت عيناه بالدموع وقال: إن رسول الله قد بكى عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيما وقلدت جسيما، وبينما كان المهدي جالسا للتعزية بوالده والتهنئة بمبايعته، دخل عليه أبو دلامة فأنشد:
عيناي واحدة ترى مسرورة
بإمامها جذلة وأخرى تطرف
تبكي وتضحك مرة ويسوءها
ما أنكرت ويسرها ما تعرف
فيسوءها موت الخليفة محرما
ويسرها إذ قام هذا الأرأف
فأجزل له العطاء وكان أول من وصله.
المهدي والأعرابي
قيل: إن المهدي قعد قعودا عاما للناس، فدخل رجل في يده نعل ومنديل فقال: يا أمير المؤمنين هذه نعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد أهديتها إليك، قال: هاتها فدفعها إليه فقبل باطنها ورفعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم، فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه: أترون أني لم أعلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يرها، فضلا عن أن يكون لبسها، ولو كذبناه لقال للناس: أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فردها علي، فكان من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره، إذ كان من شأن العامة وأشكالها النصرة للضعيف على القوي، فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدقنا قوله ورأينا فعلنا أنجح وأرجح.
كرم المهدي
نزل المهدي بمنزل بعيساباذ لما بناها وأمر أن يكتب له أبناء المهاجرين وأبناء الأنصار، فكتبوا ودعي بنقبائهم وجلس مجلسا عاما لهم، ففرق ثلاثة آلاف درهم فأغنى كل فقير وجبر كل كسير وفرج عن كل مكروب، ثم قامت الخطباء ودخل الشعراء فأنشدوه ففرق فيهم خمسمائة ألف درهم، فكثر الداعي له في الطرقات والبوادي وقام في هذا اليوم مروان بن أبي حفصة فأنشده:
ما يلمع البرق إلا حن مغترب
كأنه من دواعي شوقه وصب
ما أنس لا أنس غيثا ظل وابله
علي من راحة المهدي ينسكب
شيئا فما أخلفتنا من مخائله
سحابة صوبها الأوراق والذهب
صدقت يا خير مأمون ومعتمد
ظني بأضعاف ما قد كنت أحتسب
أعطيت سبعين ألفا غير متبعها
منا ولست بمنان بما تهب
قد لاح للناس بالمهدي نور هدى
يضيء والصبح في الظلماء يحتجب
خليفة طاهر الأثواب معتصم
بالحق ليس له في غيره أرب
المهدي والواقدي
قال الواقدي: دخلت على المهدي بمحبرة ودفتر وكتب عني أشياء أحدثه بها ثم نهض وقال: كن مكانك حتى أعود إليك، ودخل دار الحريم ثم خرج متنكرا ممتلئا غضبا، فلما جلس قلت: يا أمير المؤمنين خرجت على خلاف الحال التي دخلت عليها، قال: نعم دخلت على الخيزران فوثبت إلي ومدت يدها وخزقت ثوبي وقالت لي: يا قشاش وأي خير رأيت منك؟ وإنما اشتريتها من نخاس ورأت مني ما رأت وعقدت لابنيها بولاية العهد، ويحك، وأنا قشاش، قال: قلت يا أمير المؤمنين قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام»، وقال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، وقال: «خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته»، وحدثته من هذا الباب بكل ما حضر لي فسكن غيظه وأسفر وجهه وأمر لي بألفي دينار، وقال أصلح بهذه من حالك وانصرفت، فلما وصلت إلى منزلي وافاني رسول الخيزران فقال تقرئك السلام سيدتي وتقول: يا عم قد سمعت جميع ما كلمت به أمير المؤمنين فأحسن الله جزاءك وهذا ألفا دينار إلا عشرة بعثت بها إليك لأني لم أحب أن أساوي صلة أمير المؤمنين، ووجهت لي بأثواب.
المهدي وأحد العبيد
أهدى له بعض العبيد عصيدة، فاشترى الضيعة التي فيها ذلك العبد والعبد بألف دينار، وأعتقه ووهبه الضيعة وأقدمه المهدي بغداد ثم رده المدينة لمنام رآه.
المهدي والمؤمل
قال المؤمل بن أميل: قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبيات، فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره فكتب إلى كاتب المهدي أن توجه إلي بالشاعر، فطلبت فلم يقدر علي، وكتب إلى أبي جعفر أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فأجلس المنصور قائدا من قواده على جسر النهروان وأمره أن يتصفح الناس رجلا رجلا فجعل لا يمر به قافلة إلا تصفح من فيها، حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل بن أميل، فتصفحه فلما سأله من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار المهدي، قال: إياك طلبت، قال المؤمل: فكاد قلبي يتصدع خوفا من أبي جعفر، فقبض علي وسلمني إلى الربيع، فدخل على أبي جعفر وقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، قال: أدخلوه إلي، فدخلت إليه وسلمت عليه تسليم مروع، فرد السلام وقال: ليس ههنا إلا خيرا، أأنت المؤمل بن أميل، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أتيت غلاما غرا فخدعته، قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه فأنشدته:
هو المهدي إلا أن فيه
مشابه صورة القمر المنير
مشابه ذا وذا فيما إذا ما
أنارا يشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل
وهذا في النهار ضياء نور
ولكن فضل الرحمن هذا
على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير
وما ذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر يحمد ذا وهذا
منير عند نقصان الشهور
فيا ابن خليفة الله المصفى
به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فقت الملوك وقد توانوا
إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى
بقوا ما بين كاب أو حسير
وجئت مصليا تجري جثيثا
وما لك حين تجري من فتور
فقال الناس ما هذان إلا
كما بين الفتيل من النقير
فإن سبق الكبير فأهل سبق
له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدا كبير
فقد خلق الصغير من الكبير
فقال له المنصور: والله لقد أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم وأين المال؟ قلت: ها هو ذا، فقال يا ربيع امض معه فأعطه ألف درهم وخذ منه الباقي ففعل الربيع ما أمره المنصور؟ قال: ثم إن المهدي ولي الخلافة بعد ذلك وولي ابن يونان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، فرفعت إليه قصة فلما وصلت إليه قصتي ضحك، فقال له ابن يونان: أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيء إلا من هذه القصة، فقال: نعم، هذه رقعة أعرف قصتها، ردوا عليه عشرين ألف درهم، فردوها إلي فأخذتها وانصرفت.
جود المهدي
خرج المهدي ذات يوم متنزها إلى الأنبار، وبينما هو في مجلسه دخل عليه الربيع ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين عجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من هذه الرقعة جاءني بها أعرابي وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين المهدي دلوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه وهذه الرقعة، فأخذها المهدي وضحك وقال: صدق وهذا خطي وهذا خاتمي، أفلا أخبركم بالقصة، قلنا: رأي الأمير أعلى منا في ذلك، قال: خرجت أمس إلى الصيد في غب سماء، فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحدا، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما لا يعلمه إلا الله وتحيرت عند ذلك، فذكرت دعاء سمعته من أبي يحكيه عن أبيه قال إذا أصبح وإذا أمسى: بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقى وشفى وكفى من الحرق والغرق والفرق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها رفع لي ضوء نار فقصدتها، فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له يوقد نارا بين يديه، فقلت: أيها الأعرابي هل من ضيافة؟ قال: انزل، فنزلت، فقال لزوجته: هات ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه، فابتدأت تطحنه، فقلت له: اسقني ماء، فأتاني بسقاء فيه مذقة من لبن أكثره ماء، فشربت منها شربة ما شربت أطيب منها، وأعطاني حلسا له فوضعت رأسي عليه ونمت، ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شاة فذبحها، فإذا امرأته تقول له: ويحك قتلت نفسك وصبيتك إنما كان معاشك من هذه الشاة فذبحتها، فبأى شيء تعيش؟ فقلت: لا عليك هات الشاة فشققت جوفها واستخرجت كبدها بسكين في خفى، فشرحتها ثم طرحتها على النار فأكلت، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب فيه؟ فجاءني بهذه القطعة، فأخذت عودا من الرماد الذي كان بين يديه فكتبت له هذا الكتاب وختمته بها الخاتم وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه، فإذا في الرقعة خمسمائة ألف درهم، فقال: لا والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جرت يدي بخمسمائة ألف درهم ولا أنقص والله منها درهما واحدا، ولو لم يكن في بيت المال غيرها احملوها معه، فما كان إلا قليلا حتى كثرت إبله وصار منزلا من المنازل ينزله كل من أراد الحج من الأنبار إلى مكة المكرمة، وسمي مضيف أمير المؤمنين المهدي.
المهدي والمختبئان
لما فرغ المهدي من بناء عيساباذ ركب في جماعة يسيرة لينظر البلد، فدخله مفاجأة وأخرج من كان هناك من الناس وبقي رجلان خفيا عن أبصار الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وقد دهش بالعقل، فقال: من أنت؟ قال: أنا أنا، فقال: ويلك من أنت؟ قال: لا أدري، قال: ألك حاجة؟ قال: لا لا، قال: أخرجوه أخرج الله نفسك، فدفع في قفاه، فلما خرج قال لغلام له: اتبعه من حيث لا يعلم فسل عن أمره ومهنته فإني أخاله حائكا، فخرج الغلام على أثره، ثم رأى الآخر فاستنطقه، فأجاب بقلب جريء، ولسان سليط، فقال: من أنت؟ قال: رجل من أبناء رجال دعوتك، قال: من جاء بك إلى ههنا؟ قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء الحسن فأتمتع بالنظر، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام النعمة ونماء العز والسلامة، قال: أفلك حاجة؟ قال: نعم، خطبت ابنة عم لي فردني أبوها، وقال: لا مال لك والناس يرغبون في المال، وأنا بها مشغوف ولها وامق، قال: قد أمرت لك بخمسين ألف درهم، قال: جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين، لقد وصلت فأجزلت الصلة ومننت فأعظمت المنة، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه وآخر أيامك خيرا من أولها، ومتعك بما أنعم به عليك وأمتع رعيتك بك، فأمر أن تعجل له الصلة ووجه بعض خاصته وقال: اسأل عن مهنته فإني أخاله كاتبا، فرجع الرسولان معا، فقال الأول: وجدنا الأول حائكا، وقال الآخر : وجدت الرجل كاتبا، فقال المهدي: لم تخف علي مخاطبة الكاتب والحائك.
المهدي وشعبة الشاعر
كان شعبة شاعرا متشاغلا بالعلم لا يكسب شيئا من الدنيا وكان له إخوة يقومون بأموره، واشترى أحد إخوته من السلطان طعاما فخسر به فحبس، فقدم شعبة على المهدي وكان له على أخيه ستة آلاف دينار، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، أنشد قتادة وسماك بن حرب لأمية بن أبى الصلت شعرا في عبد الله بن جدعان التيمي:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرع
له الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغيره صباح
عن الخلق الجميل ولا المساء
بأرضك كل مكرمة بناها
بنو تيم وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه من تعرضه الثناء
فقال: لا يا أبا بسطام لا تذكرها قد عرفناها وقضيناها لك، ادفعوا إليه أخاه ولا تأخذوا منه شيئا.
المهدي وإبراهيم بن طهمان
كان لإبراهيم بن طهمان جراية من بيت المال فاخرة وكان يفخر بذلك، فسئل يوما في مجلس الخليفة، فقال: لا أدري، فقالوا: تأخذ في كل يوم كذا وكذا ولا تحسن مسألة، فقال: إنما أخذت على ما أحسن ولو آخذ على ما لا أحسن لفني بيت المال ولا يفنى ما لا أدري، فأعجب أمير المؤمنين جوابه وأمر له بجائزة فاخرة وزاد في جرايته.
المهدي وأبو العتاهية الشاعر
قال أشجع السلمي الشاعر المشهور: أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه، فدخلنا مع أبي العتاهية فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد، وسكت المهدي فسكت الناس، فسمع بشار حسا فقال لي: من هذا، فقلت: أبو العتاهية، فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل، فقلت: أحسبه سيفعل، قال: فأمره المهدي فأنشد:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره
لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بناب القلوب
لما قبل الله أعمالها
فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع هل طار الخليفة عن فراشه؟ قال أشجع : فوالله ما انصرف أحد عن ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية.
الفصل الخامس
في نوادر الخليفة هارون الرشيد
إبراهيم الموصلي عند الرشيد
دخل إبراهيم الموصلي يوما على الرشيد فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري
فليس إلى ما تأمرين سبيل
فعالي فعال المكثرين تجملا
ومالي كما قد تعلمين قليل
فكيف أخاف الفقر وأحرم الغنى
ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال: لله أبيات تأتينا بها ما أحسن أصولها، وأبين فصولها، وأقل فضولها، يا غلام أعطه عشرين ألفا، قال: والله لا أخذت منها درهما، قال: ولم؟ قال: لأن كلامك يا أمير المؤمنين خير من شعري، قال: أعطوه أربعين ألفا.
الرشيد والمفضل الضبي
قال الرشيد للمفضل الضبي: قل ما أحسن ما قيل في النوائب ولك هذا الخاتم الذي في يدي، قال قول الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
فقال: ما ألقى هذا على لسانك إلا ذهاب الخاتم ورماه إليه، فاشترته أم جعفر بألف وستمائة دينار وبعثت به إليه، فقالت: قد كنت أراك تعجب به فألقاه إلى الضبي وقال: خذه وخذ الدنانير فما كنا نهب شيئا فنرجع فيه.
ابن الجامع والجارية والرشيد
قال ابن جامع: انتقلت من مكة إلى المدينة لشدة لحقتني فأصبحت يوما وما أملك إلا ثلاثة دراهم في كمي، فإذا بجارية على كتفها جرة تسعى بين يدي وتترنم بصوت شجي وتقول:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا
فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشي عيونهم
سراعا ولا يغشي لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى
جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما
نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قال: فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف، فقلت: يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك، فلو شئت أعدت، قالت: حبا وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدار وانبعثت تغنيه، فما دار لي منه حرف فقلت لها: لو تفضلت مرة أخرى، فارتدت إلى الوراء وقالت: أليس عجيب أن أحدكم يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها ، فضربت يدي إلى الدراهم الثلاثة فدفعتها إليها فأخذتها وقالت: تريد مني صوتا أحسبك تأخذ به ألف دينار وألف دينار وألف دينار ثم غنت ففهمته، ثم سافرت إلى بغداد فآل الأمر إلى أن غنيت الرشيد بهذا الصوت فرمى لي بثلاثة أكياس، فتبسمت فقال: مم تبسمت؟ فأخبرته خبر الجارية فعجب من إصابتها.
هارون الرشيد والعباس بن الأحنف
قال هارون الرشيد في الليل بيتا وأراد أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه فقال: علي بالعباس بن الأحنف، فلما طرق ذعر وخاف أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد قال: وجهت إليك لبيت قلته ورمت أن أشفعه فامتنع القول علي، فقال: يا أمير المؤمنين دعني حتى ترجع نفسي إلي فإني قد تركت عيالي على حال من القلق عظيم ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف فانتظر هنيهة ثم أنشد الرشيد:
حناق قد رأيناها
لم نر مثلها بشرا
فقال العباس:
يزيدك وجهها حسنا
إذا ما زدتها نظرا
فقال الرشيد زدني فقال:
إذا ما الليل مال علي
ك بالإظلام واعتكرا
ودج فلم تر قمرا
فأبرزها ترى قمرا
فقال الرشيد: قد أزعجناك وأفزعناك وأقل الواجب أن نعطيك ديتك، فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه.
الرشيد ويحيى البرمكي
كان يحيى يساير الرشيد يوما فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، عطبت دابتي، فقال: يعطى خمسمائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزل قال: يا يحيى أومأت إلي بشيء حينما أمرت بالدراهم فما هو؟ فقال: مثلك لا يجري هذا المقدار على لسانه إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف، عشرة آلاف ألف، قال: فإذا سئلت مثل هذا كيف أقول؟ فقال: تقول يشترى له دابة يفعل به فعل نظرائه.
الرشيد وهيلانة وابن الأحنف
كان الرشيد شديد الحب لهيلانة وكانت ليحيى بن خالد فاستوهبها منه حتى غلبت على قلبه، فأقامت عنده ثلاث سنين ثم ماتت، فوجد عليها وجدا شديدا وأمر العباس بن الأحنف أن يرثيها، فقال فيها:
يا من تباشرت القلوب بموتها
قصد الزمان مضرتي فرماك
أبغي الأنيس فلا أرى لي مؤنسا
إلا التردد حيث كنت أراك
ملك بكاك وطال بعدك حزنه
لو يستطيع بملكه لفداك
يحمي الفؤاد عن النساء حفيظة
كي لا يحل حمى الفؤاد سواك
فأمر له بأربعين ألف درهم لكل بيت عشرة آلاف درهم، وقال: لو زدت لزدناك.
الرشيد وبركة زلزل
وعمل ببغداد بركة للسبيل وكان يضرب بها المثل وأنشد نفطويه يصفها:
لو أن زهيرا وامرأ القيس أبصرا
ملاحة ما تحويه بركة زلزل
لما وصفا سلمى ولا أم سالم
ولا أكثرا ذكر الدخول فحومل
هارون الرشيد والكسائي
قال الكسائي: حضرت عند الرشيد فأخرج إلي محمد الأمين وعبد الله المأمون كأنهما بدران فقال لي: كيف تراهما؟ فقلت:
أرى قمري أفق وفرعي كرامة
بزينهما عرق كريم ومحتد
سليلي أمير المؤمنين وحارزي
مواريث ما أبقى النبي محمد
يسدان أنفاق النفاق بهمة
يؤيدها حزم ورأي وسؤدد
حياة وخصب للمولى ورحمة
وحرب لأعداء وسيف مهند
ثم قلت: فرع زكي أصله وطاب غرسه وتمكنت فروعه وعذبت مشاربه أداهما ملك أغر نافذ الأمر واسع العلم عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، سما بهما فسموا، فهما يتطاولان بطوله ويستضيئان بنوره وينطقان ببيانه، فأمتع الله أمير المؤمنين بهما وبلغه الأمل فيهما.
الفصل السادس
في نوادر الأمين والمأمون
الأمين مع جعفر بن موسى
حكي أن جعفر بن موسى الهادي كانت له جارية عوادة اسمها البدر الكبير، ولم يكن في زمانها أحسن منها وجها ولا أعدل قدا ولا ألطف معنى ولا أعرف بصناعة الغناء وضرب الأوتار، وكانت في غاية الجمال، ونهاية الظرف والكمال، فسمع بخبرها محمد الأمين بن زبيدة والتمس من جعفر أن يبيعها له، فقال له جعفر: أنت تعلم أنه لا يليق بمثلي بيع الجواري والمساومة على السراري، ولولا أنها تربية داري لأرسلتها هدية إليك ولم أبخل بها عليك، ثم إن محمدا الأمين بن زبيدة توجه يوما لقصد الطرب إلى دار جعفر فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب، وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه، فأصلحت الآلات وغنت بأطيب النغمات، فأخذ محمد الأمين بن زبيدة في الشراب والطرب وأمر السقائين أن يكثروا الشراب على جعفر حتى يسكروه، ثم أخذ الجارية معه وانصرف إلى داره.
فلما أصبح الصباح أمر باستدعاء جعفر، فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني له من داخل الستارة، فسمع جعفر صوتها فعرفها فاغتاظ لذلك ولكنه لم يظهر غيظا لشرف نفسه وعلو همته، ولم يبد تغيرا في منادمته، فلما انقضى مجلس الشراب أمر محمد الأمين بن زبيدة بعض أتباعه أن يملأ الزورق الذي ركب فيه جعفر إليه من الدراهم والدنانير وأصناف الجواهر واليواقيت والثياب الفاخرة والأموال الباهرة، ففعل ما أمر به حتى إنه وضع في الزورق ألف بدرة وألف درة قيمة الدرة عشرون ألف درهم، ولم يزل يضع فيه أصناف التحف حتى استغاث الملاحون وقالوا: ما يقدر الزورق أن يحمل شيئا آخر وأمر بحمله إلى دار جعفر.
أبو النواس والأمين
قال أبو النواس يمدح الأمين ويذكر فضل البرامكة:
يا دار ما صنعت بك الأيام
لم يبق فيك بشارة تمتام
عدم الزمان على الذين عهدتهم
بك قاطنين وللزمان عرام
أيام لا أخشى لزينب منزلا
إلا مخالسة علي لمام
ولقد نهزت مع الرواة بدراهم
وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه
فإذا غضارة كل ذاك أثام
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
فظهورهن على الرجال حرام
قربتنا من خير من وطئ الثرى
فلها علينا حرمة وذمام
رفع الحجاب لنا فبان لناظر
قمر تقطع دونه الأوهام
ملك أغر إذا نظرت بوجهه
لم يروك التبجيل والإعظام
أبو النواس والأمين وسليمان بن المنصور
حصلت عداوة بين أبي النواس وسليمان بن المنصور فأمر الأمين بحبس أبي النواس، فلما طال حبسه كتب إليه بهذه الأبيات:
تذكر أمين الله والعهد يذكر
مقالي وإنشاديك والناس حضر
ونثري عليك الدر يا در هاشم
فيا من رأى درا على الدر ينثر
أبوك الذي لم تملك الأرض مثله
وعمك موسى عدله المتخير
ومن مثل منصور بن منصور هاشم
ومنصور قحطان إذا عد مفخر
وجدك مهدي الهدى وشقيقه
أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا
وعبد مناف والداك وحمير
تحسنت الدنيا بحسن خليفة
وهو الصبح إلا أنه الدهر مسفر
يشب إليه الجود من وجناته
وينظر من أعطافه حين ينظر
مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة
كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن أك لم أذنب ففيم عقوبتي
وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر
فلما قرأ محمد الأبيات قال: أخرجوه وأجزوه ولو غضب أولاد المنصور كلهم.
النضر والمأمون
قال النضر: دخلت ليلة على المأمون للمسامرة بمرو وعلي قميص مرقوع، فقال: يا نضر ما هذا القشف؟ قلت: يا أمير المؤمنين أنا رجل كبير ضعيف وحر مرو شديد أتبدل بهذه الثياب الخليقة، قال: لا ولكنه تنسك، ثم تجاوبا في الحديث فقال المأمون: حدثني هشيم عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد عن عون»، قلت: صدق فوك عن هشيم يا أمير المؤمنين، حدثني عوف بن أبي جميلة الأعرابي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد عن عون»، وكان المأمون متكئا فانتصب وقال: كيف قلت يا نضر سداد بكسر السين، فقلت: يا أمير المؤمنين السداد بفتح السين هنا لحن، قال: أو تلحنني يا نضر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين ولكن لحن هشيم وكان لحانا، فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع الفقهاء، فقال: ما الفرق بينهما، قلت: السداد القصد في الدين والسبيل، والسداد البلغة وكل شيء سددت به شيئا هو سداد، قال: أوتعرف العرب هذا؟ قلت: نعم هذا العربي يقول وهو من ولد عثمان بن عفان:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
فأطرق المأمون مليا ثم قال: قبح الله من لا أدب له، ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت قاله العرب، فقلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعة
أقم علينا يوما فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها
وأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا يرادفه
هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلا
وها أنا ذا داخل فأعطني سلمي
فقال المأمون: لله درك، فكأنما فتح لك قلبي، أنشدني ألطف بيت للعرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المديني:
إني وإن كان ابن عمي غائبا
لمزاحم من خلفه وورائه
ومعيده نصري ولو كان امرءا
متزحزحا في أمره وسمائه
وأكون والي أمره فأصونه
حتى يحق علي وقت أدائه
وإذا الحوادث أحجمت بسوائهم
قربت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعي باسمي لأركب مركبا
صعبا ركبت له على سلمائه
وإذا ارتدى ثوبا كريما لم أقل
يا ليت أن على فضل ردائه
فقال: أحسنت يا نضر، أنشدني أقنع بيت قالته العرب فأنشدته:
أني امرؤ لم أزل وذاك من
الله أديبا أعلم الأدبا
أقسم بالله ما اطمئنت بي ال
دار وإن كنت نازحا طربا
لا أجتوي حلمة الصديق ولا
أبغي لنفسي شيئا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من ال
رزق بنفسي وأحمل الطلبا
وأجلب البرة الصفي ولا
أجهد أخلاف غيرها طلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا
رغبته في صنيعه رغبا
والعبد لا يطلب العلاء ولا
يعطيك شيئا إلا إذا وهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا
يحسن شيئا إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إل
لا الدين لما اختبرت والحسدا
لم يرزق الخافض المقيم ولا
شد بعنس رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر
راجل من لا يزال مغتربا
قال: أحسنت يا نضر فعندك ضدها؟ قلت: نعم أحسن منها، قال: هات، فأنشدته:
يد المعروف غنم حيث كانت
تحملها كفور أو شكور
قال: أحسنت يا نضر، ما تملك؟ قلت: أريضة تمر وأنصابها، قال: أولا نزيدك مع ذلك مالا؟ فقلت: إني إليه لمحتاج، فأخذ قرطاسا فكتب ولم أدر ما يكتب، ثم قال: كيف تقول من التراب إذا أمرت أن يترب؟ قلت: أتربه، قال من الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب ومطين، فقال: هذا أحسن من الأولى، ثم قال للغلام: أتربه وطنه - أي: هبه أرضا وطينا - ثم قام وصلى بنا العشاء فلما فرغ قال لخادمه: تسير معه إلى الفضل بن سهل، فلما وصلنا إليه وقرأ الورقة قال: يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب، فأفدته ولم أكذب، فقال: ولحنت أمير المؤمنين، قلت: لا، ولكن لحن هشيم وكان لحانا، فتبع أمير المؤمنين لفظته وقد تتبع الفقهاء، فأمر لي الفضل من عنده بثلاثين ألف درهم أخرى فقبضت ثمانين ألفا بكلمة استفادها.
المأمون وابن الأعرابي
قال المأمون لابن الأعرابي: أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب، فقال: يا أمير المؤمنين قوله:
تريك القذى من دونها وهي دونه
إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
قال: أشعر منه الذي يقول يعني أبا نواس:
فتمشت في مفاصلهم
كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت
مثل فعل الصبح في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها
كاهتداء السفر بالعلم
فقلت فائدة يا أمير المؤمنين، فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
من طارق هذا؟ فنظرت في نسبها فلم أجده، فقلت: يا أمير المؤمنين لا أعرف طارقا في نسبها، فقال: إنما أرادت النجم، فانتسبت إليه بحسنها من قوله تعالى:
والسماء والطارق (الطارق: 1) فقلت: فائدتان يا أمير المؤمنين، فقال: أنا لؤلؤ هذا الأمر وابن لؤلؤة. ثم رمى إلي بعنبرة كان يقلبها في يده فبعتها بخمسة آلاف درهم.
المأمون ومحمد بن الجهم
قال محمد بن الجهم: دعاني المأمون فقال: أنشدني بيت مدح نادر فأنشدته:
يجود بالنفس إن ضن الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فقال: قد وليتك همذان، فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته:
قبحت مناظره فحين خبرته
حسنت مناظره بقبح المخبر
قال: قد وليتك الدينور، فأنشدني بيت مرثية نادرا فأنشدته:
أرادوا ليضفوا قبره عن عدوه
فطيب تراب القبر دل على القبر
فقال: قد وليتك نهاوند، فأنشدني بيت غزل نادرا فأنشدته:
حب مجد وحبيب يلعب
والقلب ما بينهما معذب
تهنئة العباس للمأمون
ولما ولد جعفر بن المأمون هنئوه بصنوف التهاني، وكان فيمن دخل العباس بن الأحنف، فمثل قائما بين يديه ثم أنشأ يقول:
مد لك الله الحياة مدا
حتى ترا ابنك هذا جدا
ثم يفدا مثلما تفدا
كأنه أنت إذا تبدا
أشبه منك قامة وقدا
مؤزرا بمجده مردا
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
كرم المأمون
قال القاضي يحيى بن أكثم: وقد رآه وقع في يوم واحد بثلاثمائة ألف دينار وعرض عليه من القصص ما يزيد عن الحد، فوقع في الجميع ولم يضجر، فقلت يا أمير المؤمنين:
كأنك في الكتاب وجدت لاء
محرمة عليك فلا تحل
فما تدري إذا أعطيت مالا
أيكثر من عطائك أم يقل
فقال له: يا قاضي إنما تطلب الدنيا لتملك فإذا ملكت فلتهب.
الفصل السابع
نوادر متفرقة في الكرم
الهادي وإسحاق الموصلي
ذكر إسحاق الموصلي أن الهادي قال له: أنشدني وأطربني بإنشادك ما شئت فأنشدته:
فيا حبها زدني جوى كل ليلة
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
هجرتك حتى قيل: لا يعرف الهوى
وزرتك حتى قيل: ليس له صبر
فاستطابه وأمر أن أدخل بيت المال وآخذ منه ما أردت، فأخذت منه سبع بدر وانصرفت.
جعفر بن أبي طالب وأبو هريرة
قال أبو هريرة: ما وددت أما تلدني غير أم جعفر بن أبي طالب، تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي: ادخل، فدخلت ففكر حينا فما وجد في بيته شيئا إلا وعاء فيه قليل من السمن، فأنزله من رف لهم، ففتحه بين أيدينا فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن وهو ينشد ويقول:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها
ولا تجود يد إلا بما تجد
سوار القاضي وعبد الله بن طاهر
دخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر - صاحب خراسان - فقال: أصلح الله الأمير وأنشد:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
جن إذا فزعوا إنس إذا أمنوا
مرزؤون بها ليل إذا قصدوا
محسودون على ما كان من نعم
لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
كعب بن مامة الإيادي
أشهر ما جاد به أنه كان يوما مع رفيقه السعدي وقد اشتد الظمأ فآثره على نفسه وأعطاه ما عنده من الماء، فنجا السعدي ومات كعب ضحية كرمه ومروءته، وفيه يقول حبيب الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ولخبيب أيضا يمدح كعبا وحاتما الطائي
كعب وحاتم اللذان تقسما
خطط العلا من طارف وتليد
هذا الذي خلف السحاب ومات ذا
في الجهد ميتة خضرم صنديد
إلا يكن فيها الشهيد فقومه
لا يسمحون به بألف شهيد
عبد الله بن العباس والحسين بن علي
حبس معاوية عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت عليه حاله، فقيل: لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإنه قدم بنحو من ألف ألف درهم، فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله، وفوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا ذخر، ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان رقيق الفؤاد لين العطف انهملت عيناه، ثم قال: ويلك يا معاوية ما اجترحت يديك من الإثم حين أصبحت لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال، ثم قال إلى قهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب وثياب ومواش وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر، فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا دللتك على أمر يقيم حالك، فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال: إنا لله حملت والله على ابن عمي وما حسبته يجود علينا بهذا كله وأخذ المال جميعه.
عبيد الله بن العباس وأحد الأنصار
جاءه رجل من الأنصار فقال: يا ابن عم رسول الله، ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركا مني به وإن أمه ماتت، فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة، ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته، ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة، قال الأنصاري: لو سبقت حاتما بيوم واحد ما ذكرته العرب أبدا ولكنه سبقك فصرت له تاليا.
سعيد بن العاص ومعاوية ومروان
كان معاوية بديلا بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة فكان مروان يعارضه، فلما دخل معاوية قال له: كيف تركت أبا عبد الملك أي مروان، قال: تركته منفذا لأمرك مصلحا لعملك، قال معاوية: إنه كصاحب الخبزة كفي إنضاجها فأكلها، قال: كلا يا أمير المؤمنين، إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا ولا يحصدون إلا ما زرعوا، قال: فما الذي باعد بينك وبينه، قال: خفته على شرفي وخافني على مثله، قال: فأي شيء كان له عندك؟ قال: أسوؤه حاضرا وأسره غائبا، قال: يا أبا عواد، تركتنا في هذه الحروب، قال: حملت الثقل وكفيت الحزم، قال: فما أبطأك، قال: غناؤك أبطأني عنك، وكنت قريبا لو دعوت لأجبناك ولو أمرت لأطعناك، قال: ذلك ظننا بك، فأقبل معاوية على أهل الشام، فقال: يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم، ثم قال: أخبرني عن مالك فقد نبئت أنك تتحرى فيه، قال يا أمير المؤمنين لنا مال يخرج لنا منه فضل، فإذا كان ما خرج قليلا أنفقناه على قلته، وإن كان كثيرا فكذلك غير أنا لا ندخر منه شيئا عن معسر ولا طالب ولا محتاج ولا نأثر عليه شيئا من المآكل اللذيذة والمناظر البهيجة، قال: فكم يدوم لك هذا؟ قال: من السنة نصفها، قال: فما تصنع في باقيها؟ قال: نجد من يسلفنا ويسارع في معاملتنا، قال: ما أحد أحوج أن يصلح من شأنه منك، قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذا الحال، فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروتك، فقال: بل أشتري بها حمد وذكرا باقيا أطعم بها، وأفك بها العاني، وأواسي بها الصديق وأصلح بها حال الجار، فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم، فقال معاوية: ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود، وحسبك أن الله تعالى جعل الجود آخر صفاته.
عبيد الله بن معمر وأحد أهالي البصرة
من جوده أن رجلا أتاه من أهل البصرة مع جارية له نفيسة، قد استأدبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع الصفات الحميدة، ثم إن الدهر قعد بسيدها ومال عليه، وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه، فقالت لسيدها: إني أريد أن أذكر لك شيئا وأخشى أن يكون فيه بعض الجفاء غير أنه يسهل ذلك على ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك، وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال، وهذا عبيد الله بن معمر قدم وقد علمت شرفه وقدرته وسعة كفه وجود نفسه، فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقلك الله به وينهضك إن شاء الله، قال: فبكى وجدا عليها وجزعا لفراقها ثم قال لها: لولا ما نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبدا، ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله، فقال: أعزك الله هذه جارية ربيتها ورضيت بها لك فاقبلها مني هدية، فقال: مثلي لا يستهدى لمثلك، فهل لك في بيعها، فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى؟ قال: الذي تراه، قال: يقنعك مني عشر بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم، قال: والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور، فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه، وقال للجارية: ادخلي الحجاب، فقال سيدها: أعزك الله لو أذنت لي في وداعها قال: نعم، فوقفت وقام وقال لها وعيناه تدمعان:
أبوح بحزن من فراقك موجع
أقاسي به ليلا يطيل تفكري
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن
يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيادة بيننا
ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
قال عبيد الله بن معمر: قد شئت ذلك فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال، فذهب بجاريته وماله فعاد غنيا.
يزيد بن المهلب وأحد بني ضبة
قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة من بني ضبة فقال رجل منهم:
والله ما ندري إذا ما فاتنا
طلب إليك من الذي نتطلب
ولقد ضربنا في البلاد لم نجد
أحدا سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعادتنا التي عودتنا
أو لا فأرشدنا إلى من نذهب
فأمر له بألف دينار. فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال:
ما لي أرى أبوابهم مهجورة
وكأن بابك مجمع الأسواق
حابوك أم هابوك أم شاموا الندى
بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إني رأيتك للمكارم عاشقا
والمكرمات قليلة العشاق
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ابن طوق وأحد الشعراء
عرض رجل لابن طوق وقد خرج في طلب النزهة، فناوله رقعة فيها جميع حاجته ومصدرة بهذا البيت:
جعلتك دنياي فإن أنت جدت لي
بخير وإلا فالسلام على الدنيا
فقال: والله لأصدقن ظنك، فأعطاه حتى أغناه.
عبد الله بن طاهر ودعبل الشاعر
عرض دعبل بن علي الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني وهو راكب في حراقة له في دجلة فأشار إليه برقعة، فأمر بأخذها فإذا فيها:
عجبت لحراقة بن الحسي
ن كيف تسير ولا تغرق
ومجران من تحتها واحد
وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها
إذا مسها كيف لا تورق
فأمر له بخمسة آلاف درهم وجارية وفرس.
وخرج عبد الله بن طاهر فتلقاه دعبل برقعة فيها هذه الأبيات:
طلعت قناتك بالسعادة فوقها
معقودة بلواء ملك مقبل
تهتز فوق طريدتين كأنما
تهنو بناقلها جناحا أجدل
ربح البخيل على احتيال عرضه
بندى يديك ووجهك المتهلل
لو كان يعلم أن نيلك عاجل
ما فاض منه جدول في جدول
فأمر له بخمسة آلاف.
هشام ونصيب بن رياح
دخل نصيب بن رياح على هشام فأنشده:
إذا استبق الناس العلا سبقتهم
يمينك عفوا ثم حلت شمالك
فقال هشام: بلغت غاية المدح فسلني، فقال: يا أمير المؤمنين، يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة، قال: لا بد أن تفعل، قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فكسدها فلو أسعفها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها، قال: فأقطعها أرضا، وأمر لها بحلي وكسوة فنفقت السوداء.
ليلى الأخيلية والحجاج
دخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فأنشدته:
إذا ورد الحجاج أرضا مريضة
تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها
غلام إذا هز القناة سقاها
فقال لها: لا تقولي غلام ولكن قولي همام، ثم قال: أي النساء أحب إليك لأنزلك عندها، قالت: ومن نساؤك أيها الأمير، قال: أم الجلاس ابنة سعيد بن العاص الأموية وهند ابنة إسماعيل بن خارجة الفزارية وهند ابنة المهلب بن أبي جفرة العتكية، قالت: الحيثية أحب إلي، فلما كان من الغد دخلت عليه، قال: يا غلام أعطها خمسمائة، قالت: أيها الأمير أحسبها إبلا، قال قائل: إنما أمر لك بشاء، قالت: الأمير أكرم من ذلك، قال: اجعلوها إبلا ولا تخيبوا ظنها بنا.
الحسن بن سهل وعلي بن جبلة
قال الحسن بن رجاء الكاتب: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل والمأمون هناك عند خديجة ابنة الحسن بن سهل ونحن إذ ذاك نجري على نيف وسبعين ألف ملاح، ونحن في غاية من الانهماك فنزل بي فقلت له: قد كثر شغل الأمير، فقال: ألا تخبرنه بقدومي، قلت: أجل، فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه قال: ألا ترى ما نحن فيه؟ قلت: لست بمشغول عن الأمر، فقال: يعطى عشرة آلاف إلى أن نتفرغ له، فأعلمت علي بن جبلة فقال لي كلمة له:
أعطيتني يا ولي الحق مبتدءا
عطية كافأت حمدي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت ريقه
كأنما كنت بالجدوى تبادرني
المعتصم وأبو تمام
دخل أبو تمام الطائي على المعتصم بعد فتوحه عمورية والفوز على محاربيه فامتدحه بقصيدة بليغة أولها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
والسلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
وهي قصيدة طويلة عددها ثلاثة وسبعون بيتا، فأعطاه جائزة عليها ثلاثة وسبعين ألف دينار على كل بيت ألف دينار.
امتداح أبي البختري على كرمه
كان وهب بن منبه أبو البختري كثير العطاء أليف الندى وفيه قال الشاعر:
فهلا فعلت وقاك المليك
فينا فعال أبي البختري
تتبع إخوانه في البلاد
فأغنى المقل على المكثر
كثير وعمر بن عبد العزيز
دخل كثير على عمر بن عبد العزيز، فاستأذن في الإنشاد، فقال: قل ولا تقل إلا حقا فقال:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي
أتيت فأمسى راضيا كل مسلم
وقد لبست لبس الملوك ثيابها
ولاحت لك الدنيا بوجه ومعصم
وتومض أحيانا بعين مريضة
وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما
سقتك شرابا من سمام وعلقم
وقد كنت في أجبالها في ممنع
وفي بحرها من مزبد الموج مفعم
فلما أتاك الله غصبا ولم يكن
لطالب دنيا بعدها من تكلم
تركت الذي يغني وإن كان مونقا
وأكثرت ما يبقي برأي مصمم
فما لك هم في الفؤاد مورق
بلغت به أعلى البناء المقدم
فما بين شرق الأرض والغرب لم يكن
مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني
بأخذ لدينار أو بأخذ لدرهم
ولا بسط كف بامرئ غير مجرم
ولا السفك منه ظالما ملء محجم
فاربح بها من صفقة لمبايع
وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
فقال له: يا كثير، إنك تسئل عما قلته، ثم أجازه بأثمن العطايا.
مروان الشاعر والمتوكل
أمر المتوكل لمروان بن أبي الحبوب الشاعر بمائة وعشرين ألفا وخمسين ثوبا ورواحل كثيرة، فقال أبياتا في شكره فلما بلغ قوله:
فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد
فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا
فقال: والله لا أمسك حتى أغرقك بجودي وأمر له بضياع تقوم بألف ألف.
يزيد بن المهلب والحلاق
حج يزيد بن المهلب فطلب حلاقا يحلق رأسه، فجاؤوه بحلاق فحلق رأسه، فأمر له بخمسة آلاف درهم، فدهش الحلاق وقال: آخذ هذه الخمسة آلاف وأمضي إلى أم فلان أخبرها أني قد استغنيت، فقال: أعطوه خمسة آلاف أخرى، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك، وصادف أن الحجاج أمر بسجن يزيد على خراج وجب عليه مقداره مائة ألف درهم، فجمعت له وهو في السجن، فجاءه الفرزدق يزوره فقال للحاجب: استأذن لي عليه.
فقال: إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه، فقال الفرزدق: إنما أتيت متوجعا لما هو فيه ولم آت ممتدحا، فأذن فلما أبصره قال:
أبا خالد ضاقت خراسان بعدكم
وقال ذوو الحاجات أين يزيد
فما قطرت بالشوق بعدك قطرة
ولا اخضر بالمردين بعدك عود
وما لسرور بعد عزك بهجة
وما لجواد بعد جودك جود
فقال يزيد للحاجب: ادفع إليه المائة ألف درهم التي جمعت لنا، ودع الحجاج ولحمي يفعل فيه ما يشاء، فقال الحاجب للفرزدق هذا الذي خشيته حين منعتك من الدخول عليه، ثم دفعها إليه فأخذها وانصرف.
يزيد بن المهلب والعجوز
مر يزيد بن المهلب بعد خروجه من السجن بعجوز أعرابية فذبحت له عنزا، فقال لابنه: ما معك من النفقة؟ قال: مائة دينار، قال: ادفعها إليها، فقال: هذه يرضيها اليسير وهي لا تعرفك، قال: إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
أبو جعفر وأزهر الشاعر
وفد أزهر الشاعر على أبي جعفر فقال له: ما حاجتك، قال جئتك طالبا، فأمر له باثني عشر ألف درهم وقال: لا تأتنا بعد طالبا، فأخذها وانصرف، ولما كان بعد سنة أتاه، فقال له أبو جعفر: ما حاجتك يا أزهر، قال: جئت مسلما فقال: لا والله بل جئت طالبا، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفا فلا تأتنا طالبا ولا مسلما، فأخذها ومضى ولما كان بعد سنة أتاه فقال: ما حاجتك يا أزهر قال: أتيت عائدا، فقال: لا والله بل جئت طالبا ، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفا فاذهب ولا تأتنا بعد طالبا ولا مسلما ولا عائدا، فأخذها وانصرف، فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما حاجتك يا أزهر، قال: يا أمير المؤمنين دعاء كنت أسمعك تدعو به جئت لأكتبه فضحك أبو جعفر وقال: الدعاء الذي تطلبه غير مستجاب فإني دعوت الله به أن لا أراك فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفا. وتعال إذا شئت فقد أعيتنا الحيلة فيك.
السائل وعبيد الله
من جود عبيد الله بن عباس أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له: صدق، فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلا ألف درهم فاعتذر إليه، فقال له: وأين أنا من عبيد الله، قال: أين أنت منه في الحسب أم في كثرة المال، قال فيهما، قال: أما الحسب في رجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وكنت حسيبا، فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق الحال، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس، فأعطاه ألفا أخرى، فقال السائل: هذه هزة كريم حسيب، والله لقد جذبت قلبي بكريم الخصال التي قلما توجد في سواك من الرجال. •••
قال أحمد بن مطير: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتا كنت مدحت فيها بعض الولاة وهي:
له يوم بؤس فيه للناس أبؤس
ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيقطر يوم الجود من كفه الندى
ويقطر يوم البؤس من كفه الدم
فلو أن يوم البؤس لم يثن كفه
عن الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود فرغ كفه
لبذل الندى ما كان بالأرض معدم
فقال لي عبد الله: كم أعطاك؟ قلت: خمسة آلاف، قال: فقبلتها، قلت: نعم، قال لي: أخطأت؛ فما ثمن هذه إلا مائة ألف.
العتبي وعمه
قال العتبي: سمعت عمي ينشد لأبي عباس الزبيري:
وكل خليفة وولي عهد
لكم يا آل مروان الفداء
إمارتكم شفاء حيث كانت
وبعض إمارة الأقوام داء
فأنتم تحسنون إذا ملكتم
وبعض القوم إن ملكوا أساؤوا
هم أرض لأرجلكم وأنتم
لأيديكم وأرجلهم سماء
فقلت له: كم أعطى عليها؟ قال: عشرين ألفا.
خزيمة وعكرمة الفياض
كان في أيام خلافة سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد مشهور بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة من الكرم حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يؤاسيهم ويتفضل عليهم، فآسوه حينا ثم ملوه، فلما لاح منهم ذلك أتى امرأته وقال لها: يا ابنة العم رأيت من إخواني غير ما عهدته فيهم وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم إنه أغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد جميعه وبقي حائرا في أمره، وكان يومئذ عكرمة الفياض واليا على الجزيرة. فبينما هو جالس في ديوانه وعنده جماعة من أهل البلد من معارفه إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فسألهم عكرمة عن حاله فقالوا له: إنه في أشقى حال من الفقر وقد أغلق بابه ولزم بيته، فقال عكرمة الفياض: أفما وجد خزيمة بن بشر مواسيا أو مكافيا، فقالوا له: لا، فأمسك عكرمة عن ذلك، وكان بمنزلة عظيمة من الكرم وسمي الفياض لزيادة كرمه وجوده، فانتظر إلى الليل وعمد إلى أربعة آلاف دينار جعلها في كيس ثم ركب دابته وخرج سرا من عند أهله لا يصحبه إلا غلام واحد يحمل المال، فلم يزل سائرا حتى وصل إلى باب خزيمة، فنزل عن دابته إلى ناحية وأمسكها لغلامه وأخذ منه الكيس وأتى به وحده إلى الباب وقرعه، فخرج خزيمة فقال له عكرمة وقد أنكر صوته: خذ هذا أصلح به شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلا فوضعه وقبض على ذيل عكرمة وقال له: أخبرني من أنت جعلت فداك؟ فقال له عكرمة: ما جئتك في مثل هذا الوقت وأريد أن تعرفني، فقال له خزيمة: والله لا أقبله ما لم تخبرني من أنت، فقال له عكرمة: أنا جابر عثرات الكرام، فقال خزيمة: زدني إيضاحا، فقال له عكرمة: لا والله، وانصرف، فدخل خزيمة بالكيس إلى امرأته وقال له: أبشري فقد أتى الله بالفرج فقومي أسرجي، فقالت: لا سبيل إلى السراج لأنه ليس لنا زيت، فبات خزيمة يلمس الكيس فيجد خشونة الدنانير، ولما رجع عكرمة إلى منزله سألته امرأته فيم خرج بعد هدأة من الليل منفردا، فأجابها: ما كنت لأخرج في وقت كذا وأريد أن يعلم أحد بما خرجت إليه إلا الله فقط، فقالت له: لا بد لي أن أعلم ذلك، وصاحت وناحت وألحت عليه بالطلب، فلما رأى أنه ليس له بد قال لها: أخبرك بالأمر فاكتميه إذا، قالت له: قل ولا تبال بذلك، فأخبرها بالقصة على وجهها، أما ما كان من خزيمة فإنه لما أصبح صالح غرماءه وأصلح شأنه وتجهز للسفر يريد الخليفة سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب وأخبر سليمان بوصول خزيمة بن بشر، وكان سليمان يعرفه جيدا بالمروءة والكرم فأذن له، فلما دخل خزيمة وسلم عليه بالخلافة قال له سليمان: يا خزيمة ما أبطأك عنا، قال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك النهضة إلينا، قال خزيمة: ضعفي يا أمير المؤمنين وقلة ما بيدي، قال: فكم أنهضك الآن، قال خزيمة: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا والباب يطرق فخرجت فرأيت شخصا وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال له: أما عرفته، فقال خزيمة: ما سمعت منه يا أمير المؤمنين إلا حين سألته عن اسمه قال: أنا جابر عثراث الكرام، فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافأناه على مروءته، ثم قال: علي بالكاتب فحضر إليه، فكتب لخزيمة الولاية على الجزيرة وجميع عمل عكرمة وأجزل له العطاء وأحسن ضيافته، وأمره بالتوجه من وقته إلى الولاية فقبل الأرض خزيمة وتوجه من ساعته إلى الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وكان قد بلغه عزله وأقبل لملاقاة خزيمة مع جميع أعيان البلد، وسلموا عليه وساروا جميعا إلى أن دخلوا به البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة ويحاسب، فحوسب ففضل عليه مال كثير فطلبه جزية منه، فقال له عكرمة: والله ما إلى درهم منه سبيل ولا عندي منه دينارا، فأمر خزيمة بحبسه وأرسل يطالبه بالمال، فأرسل عكرمة يقول له: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت، فأمر خزيمة بقيده وضربه، فكبل بالحديد وضرب وضيق عليه، فأقام كذلك شهرا فأضناه ذلك وأضر به، فبلغ امرأته ضره فجزعت لذلك واغتمت غما شديدا، فدعت جارية لها ذات عقل وقالت لها: اذهبي الساعة إلى باب خزيمة وقولي للحاجب: إن عندي نصيحة للأمير فإذا طلبها منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلت عليه فسليه الخلوة فإذا فعل فقولي له: ما كان هكذا جزاء جابر عثرات الكرام منك بمكافأتك له بالضيق والحبس والحديد ثم بالضرب، ففعلت جاريتها ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه جابر عثرات الكرام غريمي، قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم وسار بهم إلى باب الحبس متغيرا وقد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة ووجوه أهل البلد أحشمه ذلك فنكس رأسه، فأقبل خزيمة وأكب على رأسه فقبله، فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك، قال خزيمة: كريم فعالك بسوء مكافأتي، فقال له عكرمة: يغفر الله لنا ولك، ثم إن خزيمة أمر بقيوده أن تفك وأن توضع في رجليه نفسه، فقال له عكرمة: ما مرادك بذلك، قال مرادي أن ينالني من الضر ما نالك، فقال له عكرمة: أقسم عليك بالله أن لا تفعل، وبعد ذلك خرجا جميعا وجاء إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف فلم يمكنه من ذلك، ثم أمر خزيمة بالحمام فأخلي ودخلا جميعا، وقام خزيمة نفسه فتولى خدمة عكرمة، ثم خرج فخلع عليه وحمل إليه مالا كثيرا وسأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، وكان يومئذ في الرحلة، فسار معه حتى قدما على سليمان، فدخل الحاجب وأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال في نفسه: والي الجزيرة يقدم علينا بدون أمرنا مع قرب العهد به، ما هذا إلا لحادث عظيم، فلما دخل عليه قال: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك، قال: يا أمير المؤمنين إني ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومن هو؟ قال: عكرمة الفياض، فأذن له في الدخول فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه وقال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها فقضيت على أتم وجه، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وأضاف له شيئا كثيرا من التحف والظرف وولاه على الجزيرة وإرمينية وما جاورهما، وقال له: أمر خزيمة بيدك إن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله مكرما يا أمير المؤمنين، ثم إنهما انصرفا جميعا ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته.
المرأة الكريمة
بينما كان عبد الله بن عباس قادما من الشام يقصد الحجاز عرج على منزل فطلب من غلمانه طعاما فلم يجدوا، فقال لوكيله: اذهب في هذه البرية فلعلك تجد راعيا أو حيا فيه لبن أو طعام، فمضى بالغلمان فوقعوا على عجوز في حي، فقالوا لها: عندك طعام نبتاعه، قالت: أما طعام البيع فلا، ولكن عندي ما يكفيني وأولادي، قالوا: فأين أولادك؟ قالت: في رعي لهم وهذا أوان عودتهم، قالوا: فما أعددت لك ولهم؟ قالت: خبزة مبتلة بالماء، قالوا: وما هو غير ذلك؟ قالت: لا شيء، قالوا: فجودي لنا بشطرها، فقالت: أما الشطر فلا أجود به وأما الكل فخذوه، فقالوا لها: تمنعين النصف وتجودين بالكل، فقالت: نعم؛ لأن إعطاء الشطر نقيصة وإعطاء الكل كمال وفضيلة، فإني أمنع ما يضعني وأمنح ما يرفعني، فأخذوها ولم تسألهم من هم ولا من أين جاءوا، فلما وصلوا إلى عبد الله وأخبروه بخبرها عجب من ذلك، ثم قال لهم: احملوها إلي الساعة فرجعوا إليها، وقالوا لها: انطلقي معنا إلى صاحبنا فإنه يريدك، فقالت: ومن صاحبكم، قالوا: عبد الله بن عباس، قالت: هو والله عنوان الشرف وأسماه فما يريد مني، قالوا: مكافأتك، قالت: أواه والله لو كان ما فعلت معروفا ما أخذت له بدلا فكيف وهو يجب على الخلق أن يشارك فيه بعضهم بعضا، فلم يزالوا بها حتى أخذوها إليه، فسلمت عليه فرد عليها السلام، وقرب مجلسها ثم قال لها: ممن أنت؟ قالت: من بني كلب، قال: فكيف حالك؟ قالت: أسهر اليسير وأهجع أكثر الليل وأرى قرة العين في شيء، فلم يكن من الدنيا شيء إلا وقد وجدته، قال: فما ادخرت لبنيك إذا حضروا، قالت: أدخر لهم ما روي عن حاتم طيء حيث قال:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المأكل
فازداد عبد الله تعجبا، وقال: لو جاءك بنوك وهم جياع ما كنت تصنعين؟ قالت: يا هذا لقد عظمت عندك هذه الخبزة حتى أشغلت بها بالك، دع عنك هذا فإنه يفسد النفس ويؤثر في العواطف، فقال عبد الله: علي بأولادها فأحضروهم فلما دنوا منه رأوا أمهم وسلموا، فأدناهم إليه وقال: إني لم أطلبكم وأمكم لمكروه، وإنما أحب أن أصلح من شأنكم، فقالوا: إن هذا قل أن يكون إلا عن سؤال أو مكافأة لفعل قديم، فقال: ليس شيء من ذلك ولكن جاورتكم الليلة فوددت وضع شيء من مالي عندكم، قالوا: يا هذا نحن في خفض عيش وكنان من الرزق فوجهه نحو من يستحق، وإن أردت النوال مبتدئا من غير سؤال فتقدم فمعروفك مشكور وبرك مقبول، فقال: نعم هو ذاك، وأمر لهم بعشرة آلاف درهم وعشرين ناقة، فقالت العجوز لأولادها: لقل كل واحد منكم شيئا وأنا أتبعكم في شيء منه، فقال الأكبر:
شهدت عليك بطيب الكلام
وطيب الفعال وطيب الخبر
وقال الأوسط:
تبرعت بالجود قبل السؤال
فعال عظيم كريم الخطر
وقال الأصغر:
وحق لمن كان ذا فعله
بأن يسترق رقاب البشر
وقالت العجوز:
فعمرك الله من ماجد
ووقيت كل الردى والحذر
جود ملك
قيل: إن الملك خسرو بن برويز كان يحب أكل السمك وكان يوما جالسا في المنظرة وشيرين عنده فجاءه صياد وعنده سمكة كبيرة، وأهداها لخسرو ووضعها بين يديه، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت شيرين : بئس ما صنعت، فقال الملك: لم؟ فقالت: لأنك إذا أعطيت بعد هذا لأحد من حشمك هذا القدر قال: قد أعطاني مثل عطية الصياد، قال: لقد صدقت ولكن يقبح بالملوك أن يرجعوا في هباتهم وقد فات الأمر، فقالت شيرين: أنا أدبر هذا الحال، فقال: وكيف ذلك؟ فقالت: تدعو الصياد وتقول له: هذه السمكة ذكر هي أم أنثى؟ فإن قال: ذكر، فقل: إنما طلبت أنثى، وإن قال: أنثى، فقل: إنما طلبت ذكرا، فنودي الصياد فعاد، وكان الصياد ذا ذكاء وفطنة، فقال له خسرو: هذه السمكة ذكر أم أنثى، فقبل الصياد الأرض وقال له: هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى، فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم؛ فمضى الصياد إلى الخازن وقبض منه ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب كان معه وحملها على عنقه وهم بالخروج فوقع من الجراب درهم واحد، فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه والملك وشيرين ينظران إليه، فقالت شيرين لخسرو: أرأيت خسة هذا الرجل وسفالته سقط منه درهم واحد، فألقى عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه ليأخذه غلام من غلمان الملك، فحرد خسرو من ذلك وقال: صدقت يا شيرين، ثم أمر بإعادة الصياد وقال له: يا ساقط الهمة لست بإنسان وضعت هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد وأسفت أن تتركه في مكانه، فقبل الصياد الأرض، وقال: أطال الله بقاءك أيها الملك إنني لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على وجهه صورة الملك وعلى الوجه الآخر اسم الملك، فخيشت أن يأتي أحد بغير علم يضع عليه قدميه فيكون ذلك استخفافا باسم الملك وأكون أنا المؤاخذ بهذا، فعجب خسرو من كلامه واستحسن ما ذكره فأمر له بأربعة آلاف درهم، فعاد الصياد ومعه اثنا عشر ألف درهم، وأمر خسرو مناديا ينادي لا يتدبر أحد برأي النساء، فإنه من تدبر برأيهن خسر درهمه.
الوفاء والفضل والمعروف عند بعض الكرماء
بينما كان عمر بن الخطاب جالسا في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإهابة، وهو في القضايا يحكم بين الرعايا، إذ أقبل عليه شاب من أحسن الشباب، نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشباب أيضا، وقد جذباه وسحباه، وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ولبياه، فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فقالا: يا أمير المؤمنين نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن رذائله، معروف بفضائله، ربانا صغارا، وأولادنا مننا غزارا، كما قيل في المعنى:
لنا والد لو كان للناس مثله
أب آخر أغناهم بالمناقب
فخرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقتطف يانع أثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب، فنسألك القصاص عما جناه، والحكم فيه بما أمرك الله، فنظر عمر إلى الشاب، وقال له: قد سمعت فما الجواب، والغلام مع ذلك ثابت الجنان، خال عن الاستيحاش، فخلع ثياب الهلع ونزع لباس الجزع، فتبسم عن مثل الجمان وتكلم بأفصح لسان وحيا بكلمات حسان، ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا فيما أدعياه وصدقا فيما نطقا وأخبرا بما جرى وعبرا عم طرا، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك، اعلم أني عريم من العرب العرباء نبت في منازل البادية وصحبت أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها نياق إلي حبيبات علي عزيزات بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج، فدنت النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولتها بمشفرها، فطردتها عن تلك الحديقة فإذا شيخ قد ظهر، وتسور الحائط وزفر، وفي يده اليمنى حجر، يتمادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذاك الحجر فأصابه فقتله وأباده، فلما رأيت الفحل سقط إلى جنبه وانقلب، وتوقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه فضربته به، فكان سبب حتفه ولقي سوء منقلبه، المرء مقتول بما قتل به، بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة، فأسرعت هاربا من مكاني، فلم أكن بأسرع من هذين الشابين فأمسكاني، وأحضراني كما تراني، قال عمر: وقد اعترفت، بما اقترفت، ويعذر الخلاص ووجب القصاص، ولات حين مناص، فقال الشاب سمعا وطوعا لما حكم الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، ولكن لي أخ صغير كان له أب خبير، خصه قبل وفاته بمال جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخدت لذلك مدفنا، ووضعته فيه ولا يعلم بذلك أحد إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الذهب، وكنت أنت السبب وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن انتظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافيا بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام، فأطرق عمر ساعة ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه، والعود إلى مكانه، فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين وقال هذا يكفلني، وهو الذي يضمنني، فقال عمر: أتضمنه يا أبا ذر على هذا الكلام؟ قال: نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام، فرضي الشابان بضمان أبي ذر، وانتظراه ذلك القدر، فلما انقضت مدة الإمهال وكان وقتها يزول أو زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذر قد حضر، والخصم ينتظر، فقال: أين الغريم يا أبا ذر وكيف يرجع من قد فر؟ فلا تبرح من مكاننا، حتى تفي بضماننا، فقال أبو ذر: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان، وأسلمت لنفسي وبالله المستعان، فقال عمر: والله إن تأخر الغلام لأفعلن في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام، فهملت عبرات الحاضرين، وأرفضت زفرات الناظرين، وعظم الضجيج وتزايد الكلام، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية، لكف الأذية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول، فبينما الناس يموجون تلهفا لما مر، ويصيحون تأسفا على أبي ذر، إذ أقبل الغلام، ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم سلام ، ووجهه يتهلل مشرقا، ويتكلل عرقا، وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخوالي، وأطلعتهم على مكان مالهم وأموالي ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر الأغر، فعجب الناس من صدقه ووفائه وإقدامه على الموت واجترائه، فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى رحمه الطالب وعفاه وتحققت أن الموت إذا حضر لم ينج منه احتراس، وبادرت كي لا يقال ذهب الوفاء من الناس، فقال أبو ذر: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنت هذا الغلام ولم أعلم من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم، ولكنه نظر إلى من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده إذ ليس في القصد من بأس، كي لا يقال ذهب الفضل من الناس، فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين قد وهبنا لهذا الغلام دم أبينا فلتبدل وحشته بإيناس، كي لا يقال ذهب المعروف من الناس، فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وعجب من صدقه ووفائه واستغزر مروءة أبي ذر دون جلسائه واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثناء وتمثل بهذا البيت:
من يصنع الخير لم يعدم جوائزه
لا يذهب العرف بين الله والناس
ثم عرض عليهما أمير المؤمنين أن يصرف لهما من بيت المال دية أبيهما فقالا: يا أمير المؤمنين إنما عفونا عنه ابتغاء لوجه الله، ومن نيته كذا، لا يتبع إحسانه من ولا أذى.
مرثية أبي الحسن الأنباري للوزير أبي طاهر
لما استعرت الحرب بين عز الدولة ابن بويه وابن عمر عضد الدولة ظفر عضد الدولة بوزير عز الدولة أبي طاهر محمد بن بقية، فسلمه وشهره وعلى رأسه برنس، ثم طرحه للفيلة فقتلته، ثم صلبه عند داره بباب الطاق وعمره نيف وخمسون سنة، ولما صلب رثاه أبو الحسن محمد بن عمران يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بهذه القصيدة الغراء، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: وددت لو أني المصلوب وتكون هذه القصيدة في:
علو في الحياة وفي الممات
لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا
وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا
وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء
كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوب الساقيات
لعظمك في النفوس بقيت ترعى
بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران ليلا
كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد
علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأس
تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جزعك قط جزعا
تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت
فأنت قتيل ثأر النائبات
وصير دهرك الإحسان فيه
إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعدا فلما
مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي
يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام
بفرضك والحقوق والواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي
ونحت بها خلاف النائحات
ولكني أصبر عنك نفسي
مخافة أن أعد من الجناة
وما لك تربة فأقول نسقي
لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى
برحمات غواد رائحات
وقال فيه حين أنزل عن الصليب:
لم يلحقوا بك عارا إذ صلبت بلى
باءوا باسمك ثم استرجعوا ندما
وأيقنوا أنهم في فعلهم غلطوا
وأنهم نصبوا من سؤدد علما
فاسترجعوك وواروا منك طود علا
بدفنه ودفنوا الأفضال والكرما
لئن بليت فلا يبلى نداك ولا
تنسى وكم هالك ينسى إذا قدما
تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما
ما زال مالك بين الناس يقتسما
جود عبيد الله بن العباس
من جوده أنه أتاه رجل وهو في داره فوقف بين يديه، وقال: يا ابن عباس، إن لي عندك يدا وقد احتجت إليها، فنظر إليه عبيد الله وأحدق فيه بصره فلم يعرفه فقال: ما يدك عندنا، قال: رأيتك واقفا بزمزم وغلامك يملأ من مائها والشمس ضربت أشعتها عليك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت، فقال: نعم إني أذكر لك ذلك، ثم قال لغلامه: ما عندك، قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم، قال: ادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا .
علي بن أبي طالب والأعرابي
كان علي بن أبي طالب رضى الله عنه يقول: من كان له إلي حاجة فليرفعها لي في كتاب لأصون وجهه عن المسألة، ففي ذات يوم جاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي إليك حاجة يمنعني من ذكرها الحياء، فقال: خطها في الأرض، فكتب: «إني فقير»، فقال: يا قنبر اكسه حلتي، فقال الأعرابي:
كسوتني حلة تبلى محاسنها
فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن نلت حسن الثنا قد نلت مكرمة
وليس تبغي بما قدمته بدلا
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه
كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به
كل امرئ سوف يجزى بالذي فعلا
فقال: يا قنبر زده مائة دينار، فقال: يا أمير المؤمنين لو فرقتها على الناس لأصلحت بها من شأنهم، فقال: رضي الله عنه: مه يا قنبر، فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يقول «اشكروا لمن أثنى عليكم وإذا أتاكم كريم قوم فاكرموه».
ابن عامر والرجل
أراد ابن عامر أن يكتب لرجل بخمسين ألف درهم فجرى القلم بخمسمائة ألف درهم فراجعه الخازن في ذلك فقال: أنفذه فما بقي إلا نفاذه فإن خروج المال أحب إلي من الاعتذار، فنظر إليه الخازن، فقال: إذا أراد الله بعبد خيرا صرف القلم عن مجرى إرادة كاتبه إلى إرادته، وأنا أردت شيئا وأراد الجواد الكريم أن يعطي عبده عشرة أضعافه، فكانت إرادة الله الغالبة وأمره النافذ.
خالد بن يزيد والشاعر
قصد شاعر خالد بن يزيد فأنشده شعرا يقول فيه:
سألت الندى والجود حران أنتما
فقالا يقينا إننا لعبيد
فقلت ومن مولاكما فتطاولا
إلي وقالا خالد ويزيد
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك فأنشد يقول:
كريم كريم الأمهات مهذب
تدفق يمناه الندى وشمائله
هو البحر من أي الجهات أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
جواد بسيط الكف حتى لو أنه
دعاها لقبض لم تجبه أنامله
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك، فأنشد :
تبرعت لي بالجود حتى نعشتني
وأعطيتني حتى حسبتك تلعب
وأنبت ريشا في الجناحين بعدما
تساقط مني الريش أو كاد يذهب
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى
حليف الندى ما للندى عنك مذهب
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك، فقال: حسب الأمير ما سمع وحسبي ما أخذت وانصرف.
خالد بن عبيد الله وأحد الشعراء
قدم أحد الشعراء على خالد بن عبيد الله وهو راكب للغزو، فقال له: قد قلت فيك بيتين من الشعر، قال: أنشدنيهما فقال:
يا واحد العرب الذي
ما في الأنام له نظير
لو كان مثلك آخر
ما كان في الدنيا فقير
فقال: يا غلام أعطه عشرين ألف دينار فأخذها وانصرف.
بذل الدراهم لجمع الدرهمين
دخل رجل على المهدي وامتدحه، فأمر له بخمسين ألف درهم فسأله أن يأذن له في تقبيل يده، فأذن له فقبلها وخرج، فما انتهى إلى الباب حتى فرق المال بأسره فعوتب على ذلك فاعتذر وأنشد يقول:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى
ولم أدر أن الجود من كفه بعدي
حسن الوفاء
كان الوزير محمد المهلبي قبل اتصاله بالسلطان ركيك الأحوال فسافر متطلبا ما يسد به أوده واشتهى اللحم يوما ولم يكن عنده درهم يشتري به لحما فأنشأ متأسفا يقول:
ألا موت يباع فأشتريه
يخلصني من الأمر الكريه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي
فهذا العيش ما لا خير فيه
إذا أبصرت قبرا من بعيد
وددت لو أنني ممن يليه
فسمعه رفيق كان معه فرق له واشترى له بدرهم ما سد رمقه وحفظ الأبيات وتفارقا فراق الزمان، ثم بعد مدة قصد رفيقه ببغداد وكتب للوزير برقعة بعثها إليه:
ألا قل للوزير فدته نفسي
فقال مذكرا ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش
ألا موت يباع فاشتريه
فلما وقف الوزير على ذلك بعث للرجل بسبعمائة درهم وكتب له على الرقعة:
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة (البقرة: 261) ثم دعاه وخلع عليه وقربه إليه.
ابن العباس وعمر بن الخطاب
ذكر ابن العباس، قال: خرجت ليلة حالكة قاصدا دار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فما وصلت إلى نصف الطريق إلا ورأيت شخصا أعرابيا جذبني بثوبي وقال: الزمني يا عباس، فتأملت الأعرابي فإذا هو أمير المؤمنين عمر وهو متنكر، فتقدمت إليه وسلمت عليه وقلت له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد جولة بين أحياء العرب في هذا الليل الدامس، فتبعته فسار وأنا وراءه وجعل يجول بين خيام الأعراب وبيوتهم ويتأملها إلى أن أتينا على جميعها، وأوشكنا أن نخرج منها فنظرنا، وإذا هناك خيمة وفيها امرأة عجوز وحولها صبية يعولون عليها ويبكون وأمامها قدر تشتعل من تحتها النار وهي تقول للصبية: رويدا رويدا بني قليلا ينضج الطعام فتأكلون، فوقفنا بعيدا من هناك وجعل عمر يتأمل العجوز تارة وينظر إلى الأولاد أخرى.
ولما طال الوقت، قلت: يا أمير المؤمنين ما الذي يوقفك سر بنا، فقال: والله لا أبرح حتى أراها قد صبت للصبية فأكلوا واكتفوا، فوقفنا وقد طال وقوفنا جدا ومللنا المكان خوفا من أن تستريب بنا العيون، والصبية لا يزالون يصرخون ويبكون والعجوز تقول لهم مقالتها: «رويدا رويدا بني قليلا ينضج الطعام فتأكلون»، فقال لي عمر: ادخل بنا عندها نسألها فدخل ودخلت وراءه، فقال لها: السلام عليك يا خالة، فردت عليه السلام أحسن رد، فقال: ما بال هؤلاء الصبية يتصارخون ويبكون؟ فقالت له: لما هم فيه من الجوع، فقال لها: ولم لم تطعميهم مما في القدر، فقالت له: وماذا في القدر لأطعمهم؟ ليس هو إلا علالة فقط إلى أن يضجروا من العويل فيغلبهم النوم، وليس لي شيء لأطعمهم، فتقدم عمر إلى القدر ونظرها، فإذا فيها حصى وعليها الماء يغلى فتعجب من ذلك وقال لها: ما المراد بذلك، فقالت: أوهمهم أن فيها شيئا يطبخ فيؤكل فأعللهم به حتى إذا ضجروا وغلب النوم عيونهم ناموا، فقال لها: ولماذا أنت هكذا؟ فقالت له: أنا مقطوعة لا أخ لي ولا زوج ولا قرابة، فقال لها : لم لم تعرضي أمرك على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فيجعل لك شيئا من بيت المال، فقالت له: لا حيا الله عمر ونكس أعلامه والله إنه ظلمني.
فلما سمع مقالتها ارتاع من ذلك وقال لها: يا خالة بماذا ظلمك عمر بن الخطاب، قالت له: نعم والله ظلمنا، إن الراعي عليه أن يفتش عن كل حال من رعيته لعله يوجد فيها من هو مثلي ضيق اليد كثير الصبية ولا معين ولا مساعد له فيتولى لوازمه، ويسمح له من بيت المال بما يقوته وعياله أو صبيته، فقال لها: ومن يعلم عمر بحالك وما أنت به من الفاقة مع كثرة الصبية؟ كان يجب عليك أن تتقدمي وتعلميه، فقالت: لا والله إن الراعي الحر يجب عليه أن يفتش عن احتياجات رعيته خصوصا وعموما، فلعل ذلك الشخص الفقير الحال الضيق اليد غلبه حياؤه ومنعه من التقدم إلى راعيه ليعلمه بحاله، فعلى عمر السؤال عن حال فقراء رعيته أكثر من تقدم الفقير إلى مولاه لإعلامه بحاله، والراعي الحر إذا أهمل ذلك فيكون هذا ظلما منه، وهذه سنة الله ومن تعداها فقد ظلم، فعند ذلك، قال لها عمر: صدقت يا خالة ولكن عللي الصبية والساعة آتيك.
ثم خرج وخرجت معه وكان قد بقي من الليل ثلثه الأخير، فمشينا والكلاب تنبحنا وأنا أطردها وأذبها عني وعنه إلى أن انتهينا إلى بيت الذخيرة، ففتحه وحده ودخله وأمرني فدخلت معه فنظر يمينا وشمالا فعمد إلى كيس من الدقيق يحتوي على مائة رطل وينيف، فقال لي: يا عباس حول على كتفي، فحملته إياه، ثم قال لي: احمل أنت هاتيك جرة السمن، وأشار إلى جرة هناك، فحملتها وخرجنا، وأقفل الباب وسرنا وقد انهار من الدقيق على لحيته وعينيه وجنبيه فمشينا إلى أن أنصفنا، وقد أتعبه الحمل لأن المكان كان بعيد مسافة، فعرضت نفسي عليه وقلت له: بأبي وأمي يا أمير المؤمنين حول الكيس عنك ودعني أحمله، فقال: لا والله أنت لا تحمل عني جرائمي وظلمي يوم الدين، واعلم يا عباس أن حمل جبال الحديد وثقلها خير من حمل ظلامة كبرت أو صغرت ولا سيما هذه العجوز تعلل أولادها بالحصى، يا له من ذنب عظيم عند الله، سر بنا وأسرع يا عباس قبل أن تضجر الصبية من العويل فيناموا كما قالت.
فسار وأسرع وأنا معه وهو يلهث من التعب إلى أن وصلنا خيمة العجوز، فعند ذلك حول كيس الدقيق عن كتفه ووضعت جرة السمن أمامه، فتقدم هو بذاته وأخذ القدر وأكب ما فيها ووضع فيها السمن وجعل بجانبه الدقيق ثم نظر فإذا النار قد كادت تطفأ، فقال للعجوز: أعندك حطب، قالت: نعم يا بني، وأشارت له إليه، فقام وجاء بقليل منه، وكان الحطب أخضر فوضع منه في النار ووضع القدر على الأثافي وجعل ينكس رأسه إلى الأرض وينفخ بفمه تحت القدر، فوالله إني رأيت دخان الحطب يتصاعد من خلال لحيته وقد كنس بها الأرض، إذ كان يطأطئ رأسه ليتمكن من النفخ، ولم يزل هكذا حتى اشتعلت النار وذاب السمن وابتدأ غليانه فجعل يحرك السمن بعود في يده الواحدة ويخلط من الدقيق مع السمن في يده الأخرى إلى أن أنضج والصبية حوله يتصارخون، فلما طاب الطعام طلب من العجوز إناء فأتته به فجعل يصب الطبيخ في الإناء وهو ينفخه بفمه ليبرده ويلقم الصغار، ولم يزل يفعل هكذا معهم واحدا بعد واحد حتى أتى جميعهم وشبعوا واكتفوا وقاموا يلعبون ويضحكون مع بعضهم إلى أن غلب عليهم النوم فناموا، فالتفت عمر عند ذلك إلى العجوز، وقال لها: يا خالة أنا من قرابة أمير المؤمنين عمر وسأذكر له حالك، فآتيني غدا صباحا في دار الأمان فتجديني هناك فأرجي خيرا، ثم ودعها وخرج وخرجت معه فقال لي: يا عباس إني حين رأيت العجوز تعلل صبيانها بحصى حسست أن الجبال قد زلزلت واستقرت على ظهري حتى إذا جئت بما جئت وأطعمتهم ما طبخت لهم واكتفوا وجلسوا يلعبون ويضحكون فحينئذ شعرت أن تلك الجبال قد سقطت عن ظهري، ثم أتى عمر داره وأمرني فدخلت معه وبتنا ليلتنا، ولما كان الصباح أتت العجوز فاستغفرها وجعل لها ولصبيتها راتبا شهرا فشهرا.
المروءة والوفاء
سقط القائد فديرال يوم اشتدت نيران الحرب في فرجينيا أمام صفوف الأعداء مثخنا بالجراح مخضبا بالدماء يصرخ مستغيثا لجرعة ماء، فعطف عليه جندي من عساكر الأعداء اسمه جمس مور من ولاية برك شمالي كارولينا وأتاه بالماء ونيران المدافع وكراتها تتساقط كالأمطار الغزيرة في الفريقين، فأخذ أصحاب جمس يحذرونه من الخطر ويردعونه عن أن يلقي بيده إلى التهلكة، فلم يلتفت إليهم وظل يسرع إلى عدوه المستغيث في معمعة الموت الأحمر حتى بلغ إليه وكأس الماء بيده فسقاه، وكان مع ذلك القائد الصريع ساعة ذهبية فقدمها للمنعم إليه فأبى ذاك أخذها، فسأله القائد فديرال عن اسمه، فقال له: إنه جمس مور، ثم رجع مور إلى مركزه ولم ير أحدهما الآخر بعد ذلك، ثم جرح جمس مور وفقد بعض أعضائه في إحدى وقائع فرجينيا فرجع إلى بيته في ولاية برك، ثم مضى عليه سنين عديدة وفي هذه المدة بلغه خبر من القائد فديرال الذي سقاه كأس الماء في ساحة الحرب أنه وهب له عشرة آلاف دينار جزاء لصنيعه يعطاها مدة أربع سنين أي يعطى كل سنة ألفين وخمسمائة دينار.
المتوكل وعبيد الله بن يحيى
أبطأ عبيد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره فكتب إليه:
عليل من مكانين
من الإفلاس والدين
ففي هذين لي شغل
وحسبي شغل هذين
فبعث إليه بألف دينار.
المستعطى بالحلم
دخل ابن دعبل على بشر بن مروان لما ولي الكوفة، فقعد بين السماطين ثم قال: أيها الأمير إني رأيت رؤيا فأذن لي في قصها، فقال: قل، فقال:
أغفيت قبل الصبح نوم مسهد
في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك جدت لي بوصيفة
موسومة حسن على قيامها
وببدرة حملت إلي وبغلة
شهباء ناجية يصر لجامها
قال له بشر بن مروان: كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة فإنها دهماء فارغة قال: صحيح ما تقول إلا أني غلطت.
البطين الشاعر وابن يحيى الأرميني
قال البطين الشاعر : قدمت على ابن يحيى الأرميني فكتبت إليه:
رأيت في النوم أني راكب فرسا
ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم حذق ومعرفة
رأيت خيرا وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غدا عند الأمير تجد
تعبير ذاك وفي الغال التباشير
فجئت مستبشرا مستشعرا فرحا
وعند مثلك لي بالفعل تبشير
فوقع لي في أسفل كتابي، أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في أبياتي ورأيته في منامي.
التيمي والفضل بن الربيع
دخل التيمي إلى الفضل بن الربيع في يوم عيد فأنشده:
لعمرك ما الأشراف في كل بلدة
وإن عظموا للفضل إلا صنائع
ترى عظماء الناس للفضل خشعا
إذا ما بدا والفضل كله خاشع
تواضع لما زاده الله رفعة
وكل جليل عنده متواضع
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
الصانع وصائغ الخليفة
حكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة، وكان واحد أهل زمانه، فساء حاله وافتقر بعد غناه، فكره الإقامة في بلده فانتقل إلى بلد آخر، فسأل عن سوق الصاغة فوجد دكانا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرون يعلمون الأشغال للسلطنة، وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك، فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم، وأقام يعمل عنده مدة، وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم، فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد عملت في غير بلاده، كانت في يد إحدى حظاياه فانكسرت، فقال له: الحمها، فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها، فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره، فما قال له أحدهم أنه يقدر على عملها، فازداد المعلم لذلك غما ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع، فاشتد الملك على إحضارها، وقال: هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارا، فلما رأى الصائغ الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه: هذا وقت المروءات أعملها ولا أؤاخذه ببخله علي وعدم إنصافه، ولعله يحسن إلي بعد ذلك، فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها، ثم صاغها كما كانت ونظم عليها جواهرها، فعادت أحسن مما كانت، فلما رآها المعلم فرح فرحا شديدا، ثم مضى بها إلى الملك فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته، فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية، فجاء وجلس مكانه فبقي الصانع يرجو مكافأته عما عامله به فما التفت إليه المعلم، ولما كان النهار ما زاده على الدرهمين شيئا، فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أن يعمل زوجي أساور على تلك الصورة، فطلبه ورسم شكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصنعة وسرعة العمل، فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك، فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبا إلى أن عمل الزوجين وهو لا يزيده شيئا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجبل معه، فرأى المصلحة أن ينقش على زوج منهما أبياتا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك، فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشا خفيا يقول:
مصائب الدهر كفي
إن لم تكفي فعفي
خرجت أطلب رزقي
وجدت رزقي توفي
فلا برزقي أحظى
ولا بصنعة كفي
كم جاهل في الثريا
وعالم متخفي
وعزم الصانع على أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم شرح له ما عنده، وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك، ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بالصنعة، ولما سبق له في القضاء فأخذهما المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك وقدمهما إليه، فلم يشك في أنهما صنعته فخلع عليه وشكره، ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع وما زاده في آخر النهار شيئا عن الدرهمين، فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب، فحضرت وهما في يديها فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما، فقرأ الأبيات فتعجب وقال: هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب، فغضب عند ذلك وأمر بإحضار المعلم، فلما حضر قال له: من عمل هذين السوارين، قال: أنا أيها الملك، قال فما سبب نقش هذه الأبيات، قال: لم يكن عليهما أبيات، قال: كذبت ثم أراه النقش، وقال: إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك، فأصدقه الحق، فأمر الملك بإحضار الصانع، فلما حضر سأله عن حاله فحكى له قصته وما جرى له مع المعلم، فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع وأن يكون عوضا عنه في الخدمة، ثم خلع عليه خلعة سنية وصار مقدما سعيدا، فلما نال هذه الدرجة وتمكن عن الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر.
إحسان كريم إلى عدوه
كان بين غسان بن عباد وبين علي بن موسى عداوة عظيمة، وكان علي بن موسى ضامنا أعمال خراج كضياع وغيره، فبقيت عليه بقية مقدار أربعين ألف دينار، فألح عليه المأمون بطلبها وشدد بها إلى أن قال لعلي بن صالح حاجبه، أمهله ثلاثة أيام فإن أحضر المال وإلا فاضربه بالسياط حتى يدفع المال أو يتلف، فانصرف علي بن موسى من دار المأمون وقد ارتاع وهو لا يعرف وجها يتجه إليه، فقال له كاتبه: إذا عرجت على غسان بن عباد وعرفته خبرك رجوت أن يعينك على أمرك، فقال له: إن بيني وبينه من العداوة ما عرفت، فقال له: نعم، ولكن الرجل ريحي كريم لا تمنعه العداوة التي بينكما عن فعل المعروف الذي هو من شيم الكرام، فقام علي بن موسى ومضى إلى أن جاء ودخل مع كاتبه على غسان بن عباد، فلما رآه غسان قام إليه وتلقاه جميلا ووفاه حقه في الخدمة، وقال له: دع الأمر الذي بيني وبينك على حاله ولكن دخولك إلى داري توجب حرمته بلوغ ما رجوته مني، فاذكر إن كان لك حاجة، فقص كاتبه عليه القصة، فقال له غسان: أرجو أن يكفيك الله تعالى حقيقة أمرك، ولم يزد على ذلك شيئا ، فقام علي بن موسى من عنده وهو نادم على قصده غسان، ويئس من أمره وقال لكاتبه ما أفدتني بدخولي على غسان سوى تعجيل الشماتة والهوان، فلم يصل علي بن موسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسان ومعه البغال وعليها المال، فتقدم علي بن موسى وتسلمه وبات فرحا مسرورا، وعند الصباح بكر إلى دار أمير المؤمنين ليدفع المال، فوجد غسان قد سبقه هناك ودخل على المأمون وقال له: يا أمير المؤمنين، إن لعلي بن موسى بحضرتك حرمة وخدمة وسابق أصل، وقد لحقه من الخسران في ضمانه ما تعارفه الناس، وقد توعدته من الضرب بالسياط ما أطار عقله وأذهب لبه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجزيني من حسن كرمه ببعض ما عليه فهي صنيعة بي من إحسانه، ولم يزل يتلطف بالمأمون حتى حط عنه نصف ما عليه واقتصر منه بالنصف عشرين ألف دينار، فقال غسان للمأمون: سمعا وطاعة، ولكن على أن يجدد أمير المؤمنين له الضمان ويخلع عليه لكي تقوى نفسه ويعرف بها مكان الرضى عليه من أمير المؤمنين أبقاه الله، فأجاب المأمون إلى ذلك، فقال له غسان: إن شاء أمير المؤمنين فلتحمل الدواة إلى حضرته لتوقيع ما سمح به فيما قال، قال: افعل فحملت الدواة إلى المأمون وقدمها عنان له فوقع حينئذ لعلي بن موسى، وخرج علي بن موسى والخلع على كتفيه والتوقيع بيده، فلما حضر إلى داره حمل من المال عشرين ألف دينار وأرسلها إلى غسان وشكره على جميل فعله، فقال غسان لكاتبه: والله ما شفعت به عند أمير المؤمنين إلا لتتوفر عليه العشرون ألف دينار وينتفع بها هو، فامض بها إليه وردها فلست والله آخذها فهي له، فلما رجع الكاتب إلى علي بن موسى مولاه وبلغه ما قال، عرف عند ذلك قدر ما فعله غسان من الجميل، ولم يزل يخدمه ويوقره إلى آخر العمر.
الأصمعي وأحد الكرماء
حكى الأصمعي قال: قصدت في بعض الأيام رجلا كنت آتيه أحيانا كثيرة لكرمه وجوده، فلما أتيت داره وجدت على بابه بوابا فمنعني من الدخول إليه وقال لي: والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع مثلك إلا لرقة حاله وقصور يده وما هو فيه من الضيق، فقلت له: أريد أن أكتب له رقعة أتوصلها إليه، فقال: سمعا وطاعة، فأحضر لي قرطاسا وقلما ودواة فأخذت وكتبت له شعرا:
إذا كان الكريم له حجاب
فما فضل الكريم على اللئيم
ثم طويت الرقعة ودفعتها إلى الحاجب وقلت له: أوصل هذه الرقعة إليه، ففعل ومضى بالرقعة قليلا ثم عاد إلي بالرقعة عينها، وقد كتب تحت شعري جوابا شعرا:
إذا كان الكريم قليل مال
تحجب بالحجاب عن الغريم
ومع الرقعة صرة فيها خمسمائة دينار، فتعجبت من سخائه مع قلة ما بيده، فقلت في نفسي: والله لأتحفن هارون الرشيد بهذا الخبر، فانطلقت حتى أتيت قصر الخلافة، فاستأذنت ودخلت فسلمت عليه بالخلافة، فلما رآني قال لي: من أين يا أصمعي؟ قلت: من عند رجل من أكرم الأحياء من بعد أمير المؤمنين، قال: ومن هو؟ فدفعت له الصرة وسردت عليه الخبر، فلما رأى الصرة قال: هذه من بيت مالي ولا بد لي من الرجل، فقلت: والله يا أمير المؤمنين إني أستحي أن أكون سبب روعه بإرسالك إليه، فقال: لا يغمك ذلك، ثم التفت إلى بعض خاصته وقال له امض مع الأصمعي، فإذا أراك دارا فادخل وقل لصاحبه: أجب أمير المؤمنين، وليكن دعاؤك له بلطافة من غير أن تزعجه، قال الأصمعي: فمضينا ودعونا الرجل فجاء ودخل على أمير المؤمنين وسلم بالخلافة، فقال له هارون الرشيد: ألست أنت الذي وقفت لنا بالأمس وشكوت لنا رقة حالك وقلت: إنك في ضيق شديد من الاحتياج فرحمناك ووهبنا لك هذه الصرة لتصلح بها حالك، وقد قصدك الأصمعي ببيت من الشعر فدفعتها له، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، والله ما كذبت فيما شكوته لأمير المؤمنين من رقة حالي وشدة احتياجي، ولكنني استحييت من الله تعالى أن أعيد قاصدي إلا كما أعادني أمير المؤمنين، فقال هارون الرشيد: لله در بطن أتاك فما ولدت العرب أكرم منك ، ثم بالغ بإكرامه وخلع عليه وجعله من خاصته.
والي البصرة والخيزران
لما ولي محمد بن سليمان البصرة أهدى إلى الخيزران مائة وصيف بيد كل وصيف جام من ذهب مملوءا مسكا، فقبلت ذلك وكتبت إليه وقالت: «عافاك الله إن كل ما وصل إلينا منك ثمن رأينا فيك فقد بخستنا بالقيمة وإن كان وزن ميلك إلينا فظننا فيك فوقه».
إكرام ثلاثة أصدقاء مخلصين بعضهم بعضا
نقل عن الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا في الصداقة كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة وقد حضر العيد، فقالت لي امرأتي: يا مولاي أما نحن فقد نصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد تقطع قلبي عليهم حزنا ورحمة لأنهم يرون صبيان جيراننا ومعارفنا وقد تزينوا في العيد وهم فرحون، فلا بأس إذا احتلنا في ما يمكننا أن نصرفه في كسوتهم، فرأيت كلامها صوابا وقد قطعت فؤادي من هذا الحديث، ففكرت في الحيلة وكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي بما يمكنه ويحضره، فوجه إلي كيسا فيه ألف درهم، فما استقر قراره حتى كتب لي صديقي الآخر يشكو إلي مثلما شكوت أنا إلى صديقي الهاشمي، فوجهت إليه بالكيس على حاله، وخرجت إلى المسجد وأنا مستحي من امرأتي، فلما دخلت عليها وقد علمت بما فعلت لم تعنفني، فبينما أنا كذلك إذ دخل علي صديقي الهاشمي ومعه الكيس وهو باق بختمه فقال: اصدقني عما فعلته بما وجهت به إليك، فأخبرته بالحكاية على حقيقتها، فقال: إنك أرسلت تطلب مني التوسعة وأنا والله ثم والله لا أملك شيئا سوى هذا الكيس الذي بعثت به إليك، ثم إني بعدما أرسلته لك كتبت إلي صديقنا أسأله المواساة إن كان يمكنه فوجه إلي الكيس بذاته وهو بختمي وها أنا ذا أتيت به إليك، وبحيث إننا كلنا في ضيق ولا يوجد عند أحدنا غير هذا الكيس فهلم نقتسمه، ثم إنه فتحه وأخرج منه مائة درهم للمرأة وفرق علي كل منا أنا وصديقي ثلاثمائة ألف درهم وأخذ هو مثلنا ثلاثمائة، وبلغ المأمون ذلك فأرسل استدعاني وسألني عن القضية فشرحتها له كما هي، فاستدعى صديقي وأمر لكل منا بألفي دينار ولامرأتي بألف دينار.
قيل في إسحاق بن عبد الرحمن
كان في بغداد رجل من أهل السخاء رفيع القدر رقيق الجانب قال فيه أحد الشعراء:
نفى الجوع من بغداد إسحاق ذو الندى
كما قد نفى جوع الحجاز أخوه
وما يك من خير أتوه فإنما
فعال عزيز قبلهم فعلوه
هو البحر بل لو حل بالبحر وفده
ومن يجتديه ساعة نزفوه
رثاء إسحاق بن عزيز
أنشد الزبير الشاعر يرثي إسحاق بن عزيز:
ولئن بكى جزعا عليك لقد بكت
جزعا عليه مكارم الأخلاق
يا خير من بكت المكارم فقده
لم يبق بعدك للمكارم باق
لو طاف في شرق البلاد وغربها
لم يلق إلا ماجدا لك لاق
بخلت بما حوت الأكف وإنما
خلق الإله يديك للإنفاق
ما بت من كرم الطبائع ليلة
إلا لعرضك من نوالك واق
عمارة بن حمزة وأيوب المكي
بعث أيوب المكي بعض أولاده إلى عمارة بن حمزة فأدخله الحاجب، قال: ثم دنا إلى ستر مسبل، فقال: ادخل فدخلت، فإذا عمارة مضطجع محول وجهه إلى الحائط فقال لي الحاجب: اذكر حاجتك، فقلت: لعله نائم، قال: لا، فقلت: جعلني الله فداك، أخوك يقرئك السلام ويذكر دينا عليه ويقول: بهظني وسد وجهي ولولاه كنت موضع رسولي تسأل أمير المؤمنين قضاءه عني، فقال: وكم دين أبيك، قلت: ثلاثمائة ألف درهم، فقال: وفي مثل هذا القدر أكلم أمير المؤمنين، يا غلام احملها معه، وما التفت إلي ولا كلمني بغير هذا.
عمارة والفضل بن الربيع
قال الفضل بن الربيع: كان أبي يأمرني بملازمة عمارة، فاعتل عمارة وكان المهدي سيئ الرأي فيه، فقال له يوما: يا أمير المؤمنين إن مولاك عمارة عليل وقد أفضى إلى بيع فرشه وكسوته، قال: غفلت عنه وما كنت أظن أنه بلغ إلى هذه الحالة، احمل إليه خمسمائة ألف درهم يا ربيع وأعلمه أن له عندي بعدها ما يحب، فحملها أبي من ساعته، وقال لي: اذهب بها إلى عمك وقل له: أخوك يقرئك السلام، ويقول: أذكرت أمير المؤمنين أمرك فاعتذر عن غفلته عنك وأمر لك بهذه الدراهم، وقال لك: عندي بعدها ما تحب، فأتيته بالمال ووجهه إلى الحائط فسلمت، فقال لي: من أنت، فقلت: ابن أخيك الفضل بن الربيع، فقال: مرحبا بك، وأبلغته الرسالة، فقال: قد كان طال لزومك لنا وقد كنا نحسب أن نكافئك على ذلك، ولم يمكنا قبل هذا الوقت انصرف فهي لك، فهبته أن أردها عليه فتركت البغال على بابه وانصرفت إلى أبي فأعلمته، فقال: يا بني خذها بارك الله لك فيها، عمارة ليس ممن يهب فيرد، وكان أول مال ملكته.
الحجاج والرجل
خطب الحجاج فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة فإن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله، فقال: إن أقر بالجنون خليته، فقال: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني، فبلغ ذلك الحجاج فعفا عن صدقه.
عفو عبد الملك
تغيظ عبد الملك بن مروان على رجاء بن حيوة، فقال: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به كذا وكذا، فلما صار بين يديه، قال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببت فاصنع ما أحب الله، فعفا عنه وأمر له بصلة.
مدعي النبوة والملك
حكي أن رجلا ادعى النبوة أيام أحد الملوك، فلما حضر بين يديه قال له: أنت نبي، قال: نعم، قال: وإلى من بعثت، قال: إليك، قال: أشهد أنك سفير أحمق، قال: إنما يبعث لكل قوم مثلهم، فضحك الملك وأمر له بشيء.
الحجاج والشيخ
خرج الحجاج يوما للتنزه فصرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فلاقى شيخا من بني عجل فقال له: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من هذه القرية، قال: ما رأيكم بحكام البلاد، قال: كلهم أشرار يظلمون الناس ويختلسون أموالهم، قال: وما قولك في الحجاج، قال: هذا أنجس الكل سود الله وجهه ووجه من استعمله على هذه البلاد، قال الحجاج: أتعرف من أنا؟ فقال: لا والله ، قال : أنا الحجاج، قال: أنا فداك وأنت تعرف من أنا، قال: لا، قال أنا زيد بن عامر مجنون بني عجل أصرع كل يوم مرة في مثل هذه الساعة، فضحك الحجاج وأجازه.
قيس بن سعد والأعرابي
قيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك، قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة فنحرها، وقال: شأنكم، فلما جاء الغد جاء بأخرى ونحرها، وقال: شأنكم، فقلت: ما أكلنا من التي نحرت لنا البارحة إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم أضيافي الغاب، فأقمنا عنده أياما والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا في بيته مائة دينار وقلنا للمرأة: اعتذري لنا منه، ومضينا، فلما تواسط النهار إذا رجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام أعطيتمونا ثمن القرى، لتأخذنها وإلا طعنتكم برمحي، فأخذناها وانصرف.
حجظة البرمكي
قال أبو الحسن المعروف بجحظة البرمكي:
أنا ابن أناس مول الناس جودهم
فأضحوا حديثا للنوال المشهر
فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر
ولم يخل من تقريظهم بطن دفتر
وصف المعروف والكرم
قال رجل من فزارة يصف المعروف والكرم:
وإلا يكن عظمي طويلا فإنني
له بالخصال الصالحات وصول
ولا خير في حسن الجسوم ونبلها
إذا لم تزن حسن الجسوم عقول
إذا كنت في القوم الطوال علوتهم
بعارفة حتى يقال طويل
وكم قد رأينا من فروع كثيرة
تموت إذا لم تجنهن أصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه
فحلو وأما وجهه فجميل
وقال أبو دلف العجلي:
أجود بنفسي دون قومي رافعا
لما نابهم قدما وأغشى الدواهيا
وأقتحم الأمر المخوف اقتحامه
لأدرك مجدا أو أعاد ثاويا
المتوكل وإبراهيم بن المدبر
قال إبراهيم بن المدبر: مرض المتوكل مرضا خيف عليه منه، ثم عوفي وأذن للناس في الوصول إليه فدخلوا على طبقاتهم كافة ودخلت معهم، فلما رآني استدناني حتى قمت وراء الفتح ونظر إلي مستنطقا فأنشدته:
يوم أتانا بالسرور
فالحمد لله الكبير
أخلصت فيه شكره
ووفيت فيه بالنذور
لما اعتللت تصدعت
شعب القلوب من الصدور
من بين ملتهب الفؤا
د وبين مكتئب الضمير
يا عدتي للدين وال
دينا وللخطب الخطير
كانت جفوني شرة ال
آماق بالدمع الغزير
لو لم أمت جزعا لعم
رك إنني عين الصبور
يومي هنا لك كالسني
ن وساعتي مثل الشهور
يا جعفر المتوكل ال
عالي على البدر المنير
اليوم عاد الدين غض
العود ذا ورق نضير
واليوم أصبحت الخلا
فة وهي أرسى من ثبير
قد حالفتك وعاقدت
ك على مطاولة الدهور
فقال المتوكل للفتح: إن إبراهيم ينطق عن نية خالصة وود محض وما قضينا حقه، فتقدم بأن يحمل إليه الساعة خمسون ألف درهم.
أبو سعيد وأبو تمام الشاعر
قال أبو تمام يمدح أبا سعيد وكان قد أجازه وأكرم مثواه:
أبا سعيد وما وصفي بمتهم
على المعالي وما شكري بمخترم
لئن جحدتك ما أوليت من حسن
إني لفي اللؤم أحظى منك في الكرم
أمسى ابتسامك والألوان كاسفة
تبسم الصبح في داج من الظلم
كذا أخوك الندى لو أنه بشر
لم يلف طرفة عين غير مبتسم
رددت رونق وجهي في صحيفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم
وما أبالي وخير القول أصدقه
حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي
الواثق وحسين بن الضحاك
حدث إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال: كنا مع الواثق بالفاطول وهو يتصيد فصاد صيدا حسنا من الأوز والدراج وطير الماء وغير ذلك، ثم رجع فتغذى ودعا بالجلساء والمغنين وطرب، وقال: من ينشد؟ فقام الحسين بن الضحاك فأنشده:
سقى الله بالفاطول مسرح طرفكا
وخص بسقياه مناكب قصركا
حتى انتهى إلى قوله:
تحين للدراج في جنباته
وللعز آجال قدرن بكفكا
حتوفا إذا وجهتهن قواضبا
عجالا إذا أغريتهن بزجركا
أبحت حماما مصعدا ومصوبا
وما رمت في حاليك مجلس لهوكا
تصرف فيه بين نأى ومسمع
ومشمول من كف ظبي لسقيكا
قضيت لبانات وأنت مخيم
مريح وإن شطت مسافة عزمكا
وما نال طيب العيش إلا مودع
ولا طاب عيش نال مجهود كدكا
فقال الواثق: ما بعد الراحة ولذة الدعة شيء، فلما انتهى إلى قوله:
خلقت أمين الله للخلق عصمة
وأمنا فكل في ذراك وظلكا
وثقت بمن سماك بالغيب واثقا
وثبت بالتأييد أركان ملككا
فأعطاك معطيك الخلافة شكرها
وأسعد بالتقوى سريرة قلبكا
وزادك من أعمارنا غير منة
عليك بها أضعاف أضعاف عمركا
ولا زالت الأقدار في كل حالة
عداة لمن عاداك سلما لسلمكا
إذا كنت من جدواك في كل نعمة
فلا كنت إن لم أفن عمري بشكركا
فطرب الواثق وضرب الأرض بمخصرة كانت في يده وقال: لله درك يا حسين ما أقرب قلبك من لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين جودك ينطق المفحم بالشعر والجاحد بالشكر، فقال له: لن تنصرف إلا مسرورا وأمر له بخمسين ألف درهم.
المتوكل وإبراهيم بن العباس
لما عقد المتوكل لولاة العهود من ولده ركب بسر من رأى ركبة لم ير أحسن منها وركب ولاة العهود بين يديه والأتراك بين أيديهم الطبرزينات المحلاة بالذهب، ثم نزل في الماء فجلس فيه والجيش معه في الجوانحيات وسائر السفن، وجاء حتى نزل في القصر الذي يقال له العروس وأذن للناس فدخلوا إليه، فلما تكاملوا بين يديه مثل إبراهيم بن العباس بين الصفين فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشد:
ولما بدا جعفر في الخميس
بين المطل وبين العروس
بدا لابسا بهما حلة
أزيلت بها طالعات النحوس
ولما بدا بين أحبابه
ولاة العهود وغرس النفوس
غدا قمرا بين أقماره
وشمسا مكللة بالشموس
لإيقاد نار وإطفائها
ويوم أنيق ويوم عبوس
ثم أقبل على ولاة العهود فقال:
أضحت عرى الإسلام وهي منوطة
بالنصر والإعزاز والتأييد
بخليفة من هاشم وثلاثة
كنفوا الخلافة من ولاة عهود
قمر توافت حوله أقماره
فخففن مطلع سعده بسعود
رفعتهم الأيام وارتفعوا بها
فسعوا بأكرم أنفس وجدود
الملك المؤيد وصفي الدين الحلي
حمل الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل إلى صفي الدين الحلي تحفا وكسوات البيت ومهماته، فقال يمدحه ويشكر فضله:
جزاك الله من حسناك خيرا
وكان لك المهيمن خير راع
فقد قصرت بالإحسان لفظي
كما طولت بالإنعام باعي
فأخرني الحياء وليس يدري
جميع الناس ما سبب امتناعي
فأشكر حسن صنعك في اتصال
وخطوي نحو ربعك في انقطاع
وقافية شبيه الشمس حسنا
تردد بين كفي واليراع
لها فضل على غرر القوافي
كما فضل البقاع على البقاع
غدت تثني على علياك لما
ضمنت لربها نجح المساعى
قدمت ولا برحت مدى الليالي
سعيد الجد ذا أمر مطاع
البحتري وأبو تمام
قال البحتري: قال لي أبو تمام: بلغني أن بني حميد أعطوك مالا جليلا فبم مدحتهم؟ فانشدني شيئا منه، فأنشدته، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا، فقال لي: لقد ظلموك وما وفوك حقك، والله فإن بيتا منها خير مما أخذت، ثم أطرق قليلا فقال: لعمري لقد مات الكرم وذهب الناس وغاضت المكارم وكسدت أسواق الأدب، أنت والله يا بني أمير الشعراء، غدا بعدي، فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه، وقلت: والله إن هذا القول أسر إلي مما وصل منهم.
طاهر بن محمد والبحتري
من أخبار البحتري أنه كان بحلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار فأنفقها على الشعراء والزوار في سبيل الله، فقصده البحتري من العراق فلما وصل إلى حلب، قيل له: إنه قعد في بيته لديون ركبته، فاغتم البحتري لذلك غما شديدا وبعث المدح إليه مع بعض مواليه، فلما وصلته ووقف عليها بكى ودعا بغلام له، وقال: بع داري، فقال له: أتبيع دارك وتبقى على رءوس الناس، فقال: لا بد من بيعها، فباعها بثلاثمائة دينار، فأخذ صرة وربط مائة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها رقعة فيها هذه الأبيات:
لو يكون الحباء حسب الذي أن
ت لدينا به محل وأهل
لحثيت اللجين والدر واليا
قوت حثوا وكان ذاك يقل
والأديب الأريب يسمح بالعذ
ر إذا قصر الصديق المقل
فلما وصلت الرقعة إلى البحتري رد الدنانير وكتب إليه:
بأبي أنت والله للبر أهل
والمساعي بعد وسعيك قبل
والنوال القليل يكثر إن شا
ء مرجيك والكثير يقل
غير أني رددت برك إذ كا
ن ربا منك والربا لا يحل
وإذا ما جزيت شعرا بشعر
قضى الحق والدنانير فضل
فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة وضم إليها خمسين دينارا أخرى وحلف أن لا يردها عليه وأرسلها، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول:
شكرتك إن الشكر للعبد نعمة
ومن يشكر المعروف فالله زائده
لكل زمان واحد يقتدى به
وهذا زمان أنت لا شك واحده
رب المروءة والفقير
حكي أن أحد أصحاب المروءة كان له جار فقير، فبينما كان ذات يوم مارا بدار ذاك الرجل إذ سمع ابنته تقول لأمها: يا أمي ليس عندنا الليلة ما نأكله، فقالت لها أمها: صبرا لعل الله يشفق علينا فينقذنا من مخالب الجوع، فلما سمع الرجل ذلك بكى من الحنان، وقال لابنة له: خذي هذه الدراهم إلى بيت فلان جارنا ولا تدعي أحدا يراك أو يعلم بما تفعلين، فذهبت الابنة إلى بيت الفقير فرأت بنته في الباب فأعطتها الصرة وقالت ساترة وجهها: خذي هذه الدراهم، فسألتها عن اسمها فلم تجب، فعادت إلى أمها بتلك الصرة، فقالت لها: من أعطاك هذه؟ فقالت: لا أعلم لأن الذي دفعها إلي كان متنكرا، فأخذت تدعو وأهل البيت لذلك الرجل المحسن الذي بعثه الله إليهم من حيث لا يدرون.
عنترة وشداد وسمية
غضب شداد يوما على ابنه عنترة وكان قد وشي به إليه أحد حاسديه، فهم بضربه وكان فتى صغيرا، فمنعته سمية فلم يمتنع بل نزل عليه بسوط كان في يده، فلما رأت سمية ذلك فاض دمعها وتحدر وأمسكت السوط بيدها فدفعها شداد في صدرها وأراد أن يضربها، فألقت نفسها على عنترة فجذبها فوقع الرداء عن رأسها وبقيت مكشوفة الرأس منزعجة الحواس وقالت: والله ما أمكنك من ضربه حتى تضربني قبله، فرمى السوط من يده، وقال: ويلك يا سمية تهتكين نفسك لأجل هذا العبد ولا تدعيني أصل إليه وقد كنت قبلا تحرضيني عليه، فما الذي أوجب هذه المحبة، فخجلت سمية وأنشدت تقول:
حاشا لربة بيت منك صالحة
كفت يديك فعادت منك بالخجل
تنزه العبد عن أمر عنيت به
حاشا لعنتر من شين ومن زلل
هذا الشجاع الذي عاينت مشهده
يوم النزال كمثل الضيغم البطل
لولاه ما كان في الأحياء من رجل
يخلص المال من أعداك بالعجل
لما أتتنا خيول القوم غائرة
من آل قحطان مثل العارض الهطل
أجارنا وحمانا بعدما ملكت
منا البنات ونجانا من الوجل
فخله فهو ليث في عزيمته
يحمي الحريم ولا يخشى من الأجل
ليث الحروب ونار الحرب موقدة
يلقى الرجال بقلب قد مذ جبل
هذا الهزبر الذي عاينت مشهده
عند اختلاف القنا والطعن بالأسل
لولاه قد كانت الأعداء مالكة
رقابنا وتشتتنا من الحلل
ثم قالت له: لقد هاجمنا بنو قحطان فسبوا نساءنا وكادوا أن يقتلونا لولا عنترة البطل الهمام، أفيحمل في شرع المروءة أن نعامله على ما فعل بهذه المعاملة القاسية ثم أنشدت:
شداد لو ترني والوجه مكشوف
وثقل ردفي وراء القوم مردوف
وعبلة أردفوها من ورا بطل
ودمعها سائل في الخد مذورف
نساء عبس حيارى لا سبيل لها
قناعهن عن الوجنات مكشوف
حتى العبيد الألى من حولهم هربوا
وكل عبد تولى وهو ملهوف
فخاضها عنتر والشوس ثائرة
وأفقها بغبار الحرب ملفوف
وصاننا وحمانا بعد غربتنا
مع الرجال وعرض الكل مقذوف
فرق قلبه لعنترة وفكه من الوثاق وقد عجب من كتمانه ذلك وانقياده إلى الكتاف ثم اعتذر له وأطلقه.
عنترة بن شداد عند كسرى
كان عنترة بن شداد عند كسرى أنوشروان وكان مكرما عنده فحسده بعضهم وهم بقتله، فلما بلغ كسرى ذلك غضب وأمر بقتل ذاك الرجل، وقال لمن حوله: إن هذا يفدى بألوف من البشر ويستحق أن يكرم ويعتبر، فامتثل عنترة بين يديه، وقال: مولاي بالله لا تفعل فإن إحسانك قد سبق والعفو بمثلك أليق وأنا قد عزمت على الرحيل، وما أشتهي أن يذكرني أحد إلا بالجميل، فعجب كسرى من حسن أدبه وبش في وجهه ثم عفا عن الرجل، وبعد قليل دخل كسرى إلى بستان حافل بالأشجار مزدان بأحاسن الأزهار فنصب له فيه خيمة فجلس، وعنترة إلى جانبه وقد قدم لهم الشراب، وجهزت الأطعمة، فنهض المنذر وقال: أنشدنا يا أبا الفوارس شيئا من الشعر فأنشد:
يا أيها الملك الذي راحاته
قامت مقام الغيث في أزمانه
يا قبلة القصاد يا تاج العلى
يا بدر هذا العصر في كيوانه
يا مخجلا ضوء السماء بجوده
يا منقذ المحزون من أحزانه
المظهر الإنصاف في أيامه
بخصاله والعدل في بلدانه
يا ساكنين ديار عبس إنني
لاقيت من كسرى ومن إحسانه
ما ليس يوصف أو يقدر أو يفي
أوصافه أحد بوصف لسانه
ملك حوى رتب المعالي كلها
بسمو مجد حل في إيوانه
مولى به شرف الزمان وأهله
والدهر نال الفخر من تيجانه
فغدوت في ربع خصيب عنده
متنزها فيه وفي بستانه
ونظرت بركته تفيض وماؤها
يحكي مواهبه وجود بنائه
في مربع جمع الربيع بربعه
في كل فن لاح في أفنانه
وطيوره من كل نوع أنشدت
جهرا بأن الدهر طوع عنانه
ملك إذا ما جال في يوم اللقا
وقف العدو محيرا في شانه
والنصر من جلسائه دون الورى
والسعد والإقبال من أعوانه
فلأشكرن صنيعه بين الورى
وأطاعن الفرسان في ميدانه
فطرب كسرى ومن حضر، وقال له المنذر: حياك الله يا شاعر العرب، ما أرق شعرك وأعذب، ولما أراد عنترة الرحيل قال له كسرى: لو أعطيك يا عنترة على كل بيت ألف دينار لكان قليلا في مقابلة أبياتك الحسان، لأن العطايا تنفد ومدحك يبقى على طول الزمان، فاطلب ما شئت وأطلق في ميدان الطلب لسانك، فشكره عنترة، وقال: لقد كفيت أيها الملك بجودك عن طلب المال، ولكن إذا تلطف الملك وتكرم انطلق لسان العبد وتكلم، فإني قد بلغت بإحسانك هذه الرتب العليا ولا أعود إلا بما أفتخر به على الغير وأزين به ابنة عمي عبلة بنت مالك فأمر له كسرى بتاج من الذهب وجواهر كريمة وحلي.
عنترة والأسد عند كسرى
لما أسر كسرى عنترة في أحد حروبه وأشار عليه الوزير بقتله أمر أن يؤتى له بأسد كان قد ذخره لمثل هذه الحال، وبينما كان عنترة ينتظر ذاك الأسد وإذا به قد أقبل رافلا بالزناجير ومن حوله رجال كثيرة تقوده إليه ، فهجم عليه عنترة مشهرا الحسام وأنشد يقول:
يا ليث احذر أن تكون جزوعا
واحمل علي فلست منك مروعا
أقبل إلي فإنني لا أنثني
عن قتل مثلك أو أكون هلوعا
إن كنت تزعم أن وجهك عابس
فأنا العبوس ولا أكون شنيعا
اليوم تضحى في الفلات مجندلا
وتخر في هذا المكان سريعا
وما زال يجاوله حتى استمكن منه فأهوى عليه بسيفه فخر صريعا، فعجب كسرى من شجاعته وقبله بين عينيه ثم أطلقه وأمر له بأحسن الهدايا وأجمل التحف.
عنترة بن شداد وسمية
مر عنترة يوما بأرض بني غيلان وقد اشتد الحر وسطعت الشمس فعكف على شجرة يستظل بها مع أخيه شيبوب، فما لبث أن سمع أنين حزن وقائلا يقول: «قاتلك الله يا مالك ما أقساك»، ثم سمع صوتا أقوى ورجلا يترنم بهذه الأبيات:
يا أم داوي كبدي
بالماء من حر الظما
وابكي علي إنني
قد مل جسمي السقما
قد كان دمعي منجدي
واليوم قد صار دما
وزاد جسمي سقما
وذاب قلبي ألما
حمامة الوادي اهتفي
وساعدي المتيما
نوحي علي واصنعي
على بلائي مأتما
بحرمة العهد الذي
حفظت فيه الذمما
إن سألتك عبلة
قولي لها: قد عدما
واليوم يقضي نحبه
شوقا إلى ذاك الحمى
يا عبل ما خلى الهوى
من رسم جسمي علما
والجسم مني قد وهى
والصبر مني انصرما
لما رأيت عبلة
مسيبة سبي الأما
لكن بهذا قد قضى
في حكمه رب السما
فلما سمع عنترة ذلك ظن نفسه في حلم ومال إلى الصوت ميل الآسف الحنون فرأى بجانب نهر أمة سوداء بين يديها غلام شاب تارة يغمض عينيه وطورا يشير بيديه والأمة قاعدة إلى جانبه تبكي وتقبل وجهه حزنا وحنانا، فدنا منها عنترة، وقال: يا أمة الله، ما بال هذا الفتى خامد الأنفاس لا يسمع مقالا ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، فقالت له الأمة: والله يا وجه العرب ما كانت هذه حاله وإنما الأيام تأتي بالعجب فقال: ومن يكون هذا الفتى، قالت: عنترة واسم أمه زبيبة، وبينما كان يوما يرعى الجمال إذ رأى فتاة حسناء تدعى عبلة فوقع حبه في قلبها، فهجم على أحيائها يوما الأمير يقظان بن جياش بن مزاحم فقتل أهلها وأخذها سبية له وهو مقيم في ذاك السواري وغادر هذا المسكين هائما حزينا لا يعرف هداه ولا يرى له ناصرا على أعداه، فعجب عنترة من ذي المشابهة وتوارد الأسماء والحوادث ووعدها خيرا، ومضى نحو ذاك الفارس وإذا به يشرب الخمر والجارية لديه تبكي وتنتحب وقد همت أن تلقي نفسها حزنا إلى الأرض وهي تصيح بأعلى صوتها: «لن تنال أيها النذل مني منالا، فوالله لا خنت ابن عمي عنترة ولو قطعتني إربا».
فلما سمع عنترة كلامها خيل له أن عبلة تناديه من فمها فهجم عليه هجمة الأسد وقتله شر قتلة وأنقذ الفتاة من شره وردها إلى حبيبها.
مارية أم الحارث وحسان بن ثابت
قال حسان بن ثابت الشاعر يمدح مارية وآل جفنة بهذه الأبيات:
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
قبر ابن مارية المعز المخول
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل
عفو عمرو بن الحارث
حارب عمرو بن الحارث قوما من العرب وسبى نساءهم وأولادهم، وكان من جملة من سبى أخت عمرو بن الصعق العدواني، فلم يشعر إلا وأخوها قد وقف به وأنشد:
يا أيها الملك المهيب أما ترى
صبحا وليلا كيف يختلفان
هل تستطيع الشمس أن يؤتى بها
ليلا وهل لك بالصباح يدان
فاعلم وأيقن أن ملكك زائل
وكما تدين تدان عقد رهان
فوقعت هذه الأبيات في قلبه، وقال له: أمنك الله على من لك عندي وأمن كل الناس على من وقع لهم من السبايا وجنح عن عزمه.
عروة بن الورد
ويلقب أيضا بعروة الصعاليك لأنه كان يعول الضعيف والمريض في دياره ويقضي حوائجهم ومن قوله في المعروف:
ومكروب كشفت العار عنه
بضربة صارم لما دعاني
وقلت له أتاك أتاك فانهض
شجاع حين ينهض غير واني
فما أنا عند هيجا كل يوم
بمسلوب الفؤاد ولا جباني
يصافينا الكريم إذا التقينا
ويبغضني اللئيم إذا رآني
زهير وبنو عامر
لما بلغ زهيرا خبر قتل ابنه شاس في أحياء بني عامر زحف بعسكر جرار لمحارتبهم وأخذ الثأر، فلما بلغوا ديارهم تقدم إلى الملك زهير ملاعب الأسنة غشم بن مالك أمير بني عامر، وقال: أيها الملك فيم أتيت أرضنا؟ فإن كنت زائرا فعلى الرحب والسعة، وإن جئت متصيدا فأهلا وسهلا بك، فقال زهير: لا والله ما جئتكم زائرا ولا متصيدا، إنما جئت لأخذ الثأر ممن قتلوا ولدي شاسا، قال: وما الذي غير ما بيننا من الوداد، قال: قتل شاس ولدي في أحيائكم، قال غشم: ومن قتل ولدك وأحرق عليه كبدك؟ ومن أعلمك بذلك الخبر؟ قال: عبده سالم بن مسهر، قال: وهل تريد أن تأخذ البريء بالسقيم وتصدق فينا قول عبد زنيم؟ ولو فرضنا أنه صادق فكم يجوز أرضنا ليلا من سلال وسارق وربما أدرك ولدك برجل غريب ففعل به ما فعل ولم يخش محذورا، فإن شئت أن تعاملنا بالجفاء بعد الوداد والصفاء فمعاذ الله أن نغير ما بيننا وبينك من المحبة والوفاء، فكن بنا متلطفا وارحم الأرامل والضعفاء، فلما سمع الملك زهير قوله رق لهم وعفا عنهم خوفا من عاقبة البغي وعاد على أعقابه.
الجود والأجواد
قيل لأعرابي: ما القرى؟ فقال: نار يعلو شرفها وخيمة يوطأ كنفها، وقيل: تلقى النزيل بالوجه الجميل، وقال الله تعالى في مدح قوم:
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (الإنسان: 8)، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إذا نزل الضيف بقوم نزل برزقه وإذا ارتحل عنهم ارتحل بذنوبهم». وقيل لبعضهم: ما الكرم؟ فقال: طعام مبذول ونائل موصول ووفاء لا يحول، وقال الإمام علي: لأن أختبز صاعا أو صاعين فأدعو إليه نفرا من إخواني أحب إلي من أن أعتق رقبة. وقال الواثق يوما لأحمد بن أبي داود تضجرا لكثرة حوائجه: قد خلت بيوت المال لطلباتك للائذين بك والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين هي نتائج شكرها متصل بك وذخائر أجرها مكتوب لك وما لي من ذلك إلا أن أخلد المدح فيك، فقال: أحسنت وشفعه. وقيل للأحنف: ما السخاء؟ قال: الاحتيال للمعروف، قيل: فما اللؤم؟ قال: الاستقصاء على الملهوف. وقيل: السخي من كان بماله متبرعا وعن مال غيره متورعا. وقيل للصوفي: من الجواد من الناس؟ فقال: الذي يؤدي ما افترض عليه، وقيل للحسن: من السخي؟ فقال: من لو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى عليه بعد ذلك حقوقا. وقال بعضهم: الناس أربعة: جواد وهو الذي يعطى حظ دنياه وآخرته، بخيل وهو الذي لا يعطى واحدا منها، مسرف وهو الذي جعل ماله لدنياه، مقتصد وهو الذي أعطى كلا بقدره. وقال الله تعالى:
وما تفعلوا من خير يعلمه الله (البقرة: 197). وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة»، وقال: «السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدلية في الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة والبخل شجرة من أشجار النار فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار». وقال ابن عباس: صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكأ. وقيل لأحد الحكماء ما الذي يشبه فعل الله من أفعال العباد؟ فقال: الإحسان إلى الناس. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : (تجافوا عن ذنب السخي فإن الله تعالى آخذ بيده). وقال: سادة الدنيا في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء. وقيل: من بذل الدراهم أحبه الناس طوعا أو كرها، وقيل لحكيم: هل شيء خير من الدراهم؟ قال: معطيها. وقيل للحسن: كيف نزلت بالأطراف؟ فقال: هي منازل الأشراف يتناولون من أرادوا بالقدرة عليه ويتناولهم من أرادهم بالحاجة إليهم. وقيل لبعض من اتخذ دعوة: أسرفت، فقال: ليس في الشرف إسراف. وقال المزني: إذا أتاك ضيف فلا تدعه ينتظر ما ليس عندك وتمنعه ما هو عندك بل قدم إليه وأحضر، وقيل: الضيف إلى القليل العاجل أحوج منه إلى الكثير الآجل. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم
لبعض نسائه: (آكلي ضيفك فالضيف يستحي أن يأكل وحده)، وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، ونزل ضيف بجعفر بن أبي طالب متنكرا، فعاونه غلمانه عند نزوله، فلما أراد الارتحال لم يعنه غلام، فشكاهم فقال: إن غلماننا لا يعينون على الارتحال عنا. وقال ابن عون: ما رأيت أسخى بالطعام من الحسن وابن سيرين لأن الحسن يقول: الطعام أهون من أن يحلف عليه، وابن سيرين يقول: أقسمت لتأكلن. وقال ابن عباس: ما من داخل إلا وله حيرة فأبدؤه بالسلام،وما من مدعو إلى طعام إلا وله حشمة فأبدؤه بالملاطفة. وقيل: محادثة الإخوان تزيد لذة الضيف الآكل، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : (شركم من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده). وقيل لأعرابي: ممن أنت؟ قال: ممن لا يزجر وفودهم ولا يسر وقودهم، وسئل آخر. فقال: ممن يهتدي برأيه الصحب ويستدل بناره الركب. وقال أحدهم يصف قوما كراما: لهم نار وإربه الزناد قديمة الولاد تضيء لها البلاد ويحيا بها العباد. قال الأصمعي لبعض الأعراب: ما تعرفون من مكارم الأخلاق، قال: نضيء نارنا للضيف ولا تنبح كلابنا ونقريه وجوهنا قبل طعامنا. قال النبي
صلى الله عليه وسلم : (من كان عليه يد فليكافئ عليها فإن لم يفعل فليثنين عليه فإن لم يفعل فقد كفر النعمة). وقال البحتري:
يزيد تفضلا وأزيد شكرا
وذلك دأبه أبدا ودأبي
ولبعض الأدباء:
لأملأن لسان الشكر فيك فقد
أطلقته بفعال ملؤها كرم
بعث المنصور إلى شيخ من بطانة هشام فاستحضره وسأله عن تدبير هشام وأحواله، فأقبل الشيخ يقول: فعل رحمه الله وقال يوم كذا رحمه الله، فقال المنصور: قم لعنك الله أتطأ بساطي وتترحم على عدوي، فقال الشيخ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لاينزعها ممر الأيام، فقال المنصور: ارجع إلى حديثك فإني أشهد أنك غرس شريف وابن حرة كريم، وأجازه.
لما قتل مسلمة بن عبد الملك يزيد بن المهلب أمر بأن يحضر الشعراء ليقولوا في ذلك، فلم يألوا أن ذكروه بأقبح ما قدروا عليه ما خلا رجلا من بني دارم فإنه قال: لا أذم رجلا لا أملك ربعا ولا مالا ولا أثاثا إلا منه ولو قطعت إربا إربا، ولقد رثيته بأحسن ما يرثى به رجل وأنشد الأبيات. فجزاه سليمان خيرا، وقال: إذا اصطنع فليصطنع مثل هذا.
وقال أحدهم يمدح كريما أجازه:
فإن يك أربى عفو شكرك عن يدي
أناس فقد أربى نداه على شكري
وقد أجاد أبو نواس في هذا المعنى:
أنت امرؤ جللتني نعما
أوهت قوى شكري فقد ضعفا
لا تسدين إلي عارفة
حتى أقوم بشكر ما سلفا
وقد أبدع البحتري في قوله:
أخجلتني بندى يديك وسودت
ما بيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالجود حتى إنني
متخوف أن لا يكون لقاء
وقال:
إيها أبا الفضل شكري منك في نصب
أقصر فما لي في جدواك من إرب
لا أقبل الدهر نيلا لا يقوم له
شكري ولو كان مسديه إلي أبي
وقال الشمردلي يمدح كريما:
أياديك لا تخفى مواقع صوبها
فتعفو إذا ما ضيع الحمد والشكر
وهل تستطيع الأرض من بعدما انطوت
على ريها إنكار ما فعل القطر
وقال آخر:
هب الروض لا يثنى على الغيث نشره
أمنظره تخفى مآثره الحسنا
ولغيره:
لا يقبلون الشكر ما لم ينعموا
نعما يكون لها الثناء تبيعا
وللسموءل:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
ولآخر:
فما بلغت أيدي المنيلين بسطة
من الطول إلا بسطة الشكر أطول
ولا رجحت في الوزن يوما صنيعة
على المرء إلا منة الشكر أثقل
لما جعل ابن الزيات في التنور قال له خادمه: يا سيدي قد صرت إلى ما صرت وليس لك حامد، قال: وما نفع البرامكة، قال: ذكرك لهم الساعة، فقال: صدقت، وقال أشجع يمدح قوما كراما:
مدحناهم فلم ندرك بمدح
مآثرهم ولم نترك مقالا
وقال ابن الحجاج الشاعر:
هو البحر إن حدثت عن معجزاته
ضعفت عن استغراق تلك العجائب
وإن رام شعري أن يحيط بوصفه
أحاط بشعري العجز من كل جانب
وقال: نصيب الأصغر يمدح الفضل بن يحيى :
ما لقينا من جود فضل بن يحيى
ترك الناس كلهم شعراء
وقيل لذي الرمة: لم خصصت ملالا بمدحك؟ قال: لأنه وطأ مضجعي وأكرم مجلسي فاستولى بذلك على شكري ومدحي.
وقال أحدهم يمدح كريما:
إن جد معنى فمن جدواه معتصر
أو جل لفظ فمن علياه مهتصر
وأنشد المتنبي:
وأصبح شعري منهما في مكانه
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
وذكر أعرابي رجلا كريما فقال: كأن الألسن والقلوب ربطت له فما تعقد إلا على وده ولا تنطق إلا بحمده، وغاية المدح أن يمدحك من لا معرفة له بك ضرورة إلى مدحك وأن يسلفك حسن الثناء من عسى أن لا يصل منك إلى نفع.
وقال ابن أبي طاهر:
وما أنا في مدحي عليا بواحد
ولكنه في الفضل والجود واحد
ولابن الرومي:
إذا امتدحوا لم ينحلوا مجد غيرهم
وهل ينحل الأطواق ورق الحمائم
وله أيضا:
أنت زنت القلائد الزهر قدما
ضعف ما زانت القلائد جيدك
وأنشد عمارة بن عقيل يمدح خالدا:
أرى الناس طرا حامدين لخالد
وما كلهم أفضت إليه صنائعه
ولن يترك الأقوام أن يحمدوا الفتى
إذا كرمت أعراقه وطبائعه
قال بعض الأكابر لأبي هفان: ما لك لا تمدحني؟ فقال:
لسان الشكر تنطقه العطايا
يخرس عند منقطع النوال
وسئل رجل عن بعض الأكابر، فقال: أما ترى ازدحام الناس على بابه وكثرة قصاده وطلابه. وقال الشاعر:
يزدحم الناس على بابه
والمنهل العذب كثير الزحام
وقال أعرابي: قصدت فلانا فوجدت بابه كعرصة المحشر يهوي إليه كل معشر فداره مجمع العفاة ومربع المكرمات حاضرة الجود والحسب وهب.
دخل رجل على أبان بن الوليد فقال: أصلح الله الأمير أحفيت إليك الركاب وقطعت الهضاب وأخلقت الثياب، فقال أبان: ما دعاك إلى ذلك؟ أقرابة أم جوار أم عشرة متقدمة أم صلة سابقة فقال: لم يكن من ذلك شيء ولكني سمعت الناس ينشدون بيتا قلته فيك فعلمت فيك خيرا وهو:
وما شيم لي برق وإن كان نازحا
فيخلف إذ بعض البوارق خلب
فأمر له بجمال ومال.
وأنشد بشار بن برد يمدح كريما:
دعاني إلى عمر جوده
وقول العشيرة بحر خضم
ولولا الذي خبروا لم يكن
لأحمد ريحانة قبل شم
وأنشد الموسوي:
دعاني إليك العز حتى أجبته
ومن طلبته جمة الماء أوردا
ولآخر:
بلغت مرادي واطمأنت بي النوى
وقال لي الوراد أعشبت فانزل
وقال أبو النواس:
تقول التي من بيتها خف مركبي
غزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للفتى متطلب
بلى إن أسباب الغنى لكثير
ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرت تدور
فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يسير الجود حيث يسير
وقال آخر يمدح أميرا:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
فظهورهن على الرجال حرام
قربنا من خير من وطئ الثرى
فلها علينا حرمة وزمام
وقال المتنبي يمدح كافورا ويثني على كرمه:
قواصد كافور توارك غيره
ومن ورد البحر استقل السواقيا
فجاءت به إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها وإماقيا
وأنشد ابن الرومي:
أريد مكانا من كريم يصونني
وإلا فلي رزق بكل مكان •••
حصلت في عهد هشام مجاعة عظيمة، فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي وعليه جبة صوف مشتمل عليها بشملة قد اشتمل بها الصماء، فنظر هشام إلى صاحبه نظرة لائم في دخول درواس إليه وقال: أيدخل علي كل من أراد الدخول، وكان درواس مفوها فعلم أنه عناه، فقال درواس: يا أمير المؤمنين ما أخل لك دخولي عليك، ولقد شرفني ورفع قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر أحجموا عنه فإن أذنت في الكلام تكلمت، فقال هشام: لله درك تكلم، فما رأى صاحب القوم غيرك، فقال: يا أمير المؤمنين تتابعت علينا سنون ثلاث - أما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فانتقت المخ ومصت العظم ولله في أيديكم أموال فإن تكن لله فاعطفوا بها على عباد الله وإن تكن لهم فعلام تحجبونها عنهم؟! وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين ، فقال هشام: لله أنت ما تركت واحدة من ثلاث، وأمر بمائة ألف دينار فقسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين ألكل رجل من المسلمين مثلها، قال لا ولا يقوم بذلك بيت المال، فقال: لا حاجة لي فيما يبعث على ذمك، فلما عاد إلى داره أمر بذلك فبعث إليه فقسم تسعين ألف درهم في تسعة من أحياء العرب وأبقى عشرة آلاف درهم فبلغ ذلك هشاما فقال: لله دره إن صنيعة مثله تبعث على الاصطناع.
وقال ابن الرومي مفتخرا:
زني الناس حتى تعرفي عند وزنهم
إذا رفع الميزان كيف أميل
وأنشد جرير الشاعر:
إذا سركم أن تمسحوا وجه سابق
جواد فمدوا وابسطوا من عنانيا
ألا لا تخافا بنوتي في ملمة
وخافا المنايا أن تفوتكما بيا
قال أعرابي: أشد الأشياء مؤونة إخفاء الفاقة وأشد من ذلك السؤال إلى من يجبرها، وقال خالد بن صفوان: أشد من فوت الحاجة طلبها إلى غير أهلها وقال الأعشى:
حسب الكريم مذلة ونقيصة
أن لا يزال إلى لئيم يرغب
وقال آخر:
وإني لأرثي للكريم إذا غدا
على حاجة عند اللئيم يطالبه
وقيل: السؤال وإن قل ثمرة لكل نوال وإن جل، وقال الشاعر:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
عوضا وإن نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال قرنته
رجح السؤال وخف كل نوال
وكان يجري على أبي العيناء رزق فتأخر عنه فتقاضاه مرارا ثم تركه وقال: لا حاجة لي فيه فهو رق لا رزق وبلاء لا عطاء، ومحنة لا منحة.
وقال الشاعر:
وإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا
فابذله للمتكرم المفضال
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «اعتمد لحوائجك الصباح الوجوه فإن حسن الصورة أول نعمة تلقاك من الرجل». كلم أعرابي خالد بن عبد الله وتلجلج في كلامه فقال: لا تلمني على الاختلاط فإن معي ذل الحاجة ومعك عز الاستغناء. وقال سعيد بن العاص: موطنان لا أعتذر من العي فيهما إذا سألت حاجة لنفسي وإذا كلمت جاهلا. وسار الفضيل بن الربيع إلى أبي عباد في نكبة يسأله حاجة فارتج عليه، فقال له: يا أبا العباس بهذا اللسان خدمت خليفتين، فقال: إنا تعودنا أن نسأل لا أن نسأل وأنشد ابن الرومي:
نذكر بالرقاع إذا نسينا
ونذكر حين تمطلنا الكرام
فإن الأم لم ترضع صبيا
مع الإشفاق لو سكت الغلام
قال الإمام عمر بن الخطاب: إذا سألتمونا حاجة فعاودونا فيها فإنما سميت القلوب لتقلبها، وأنشد بشار بن برد:
هززتك لا أني وجدتك ناسيا
لأمري ولا أني أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله
إلى الهز محتاجا وإن كان ماضيا
تواطأ أبو دلامة مع أم دلامة على أن يأتي هو المهدي فينعيها وتأتي على الخيزران فتنعيه، فأتى أبو دلامة المهدي وهو يبكي وأنشد:
وكنا كزوج من قطافي مفازة
لدى خفض عيش مورق ناضر رغد
فأفردنا ريب الزمان بطرقه
ولم نر شيئا قط أوحش من فرد
فقال له: ما بالك؟ فقال: ماتت أم دلامة وإني أحتاج إلى تجهيزها فدفع له مالا، وأتت أم دلامة الخيزران وقالت: إن أبا دلامة مضى لسبيله، فاغتمت وأمرت لها بمال وأعطتها ثيابا وطيبا، ولما دخل المهدي على الخيزران قالت له: يا أمير المؤمنين إن أبا دلامة مضى لسبيله أبقى الله أمير المؤمنين وأم دلامة كانت عندي الساعة فأعطيتها التجهيز لزوجها، فقال المهدي: إن أم دلامة مضت لسبيلها وكان عندي أبو دلامة الساعة وأعطيته نفقة تجهيزها، فعجبا ولم يصدقا حتى ذهبا إليهما فنظر المهدي فإذا بهما طريحين في أرض الدار فقال: لا بد أن أم دلامة ماتت قبل زوجها، قالت: بل أبو دلامة يا أمير المؤمنين، قال: وكيف ذلك وقد رأيته الساعة، فلما اشتد الخصام قال المهدي: أقسم بشرفي إن لمن أطلعني على الحقيقة خمسة آلاف درهم، فنهض أبو دلامة، وقال: أم دلامة ماتت قبلي يا أمير المؤمنين، فضحك المهدي ودفع إليه المال.
كان لأبي الأسود جبة خز قد تقطعت، فقال له معاوية: ما تمل لبسها، فقال: رب مملول لا يستطاع فراقه، فأمر له بمال.
قصد أبو الحسن الوراق سيف الدولة في جملة الشعراء فناوله درجا يوهم أنه شعر له، فنشره سيف الدولة، فقال: ليس فيه شيء مكتوب. فقال سيدي يكتب فيه لعبده، فضحك وأمر له بمال.
قسم عبد الله بن عبيد مالا بين بنيه، فقال له عبد صغير: أعطني أولا، فقال له ولم؟ قال لأن الله تعالى يقول:
المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف: 46) فبدأ بالمال وأنا مالك، فأعطاه وقدمه.
وسأل أعرابي عبد الملك، فقال له: سل الله، فقال: سألته فأحالني عليك، فضحك منه وأعطاه.
وقال الشاعر:
وإذا طلبت إلى كريم حاجة
فلقاؤه يكفيك والتسليم
وإذا رآك مسلما عرف الذي
حملته وكأنه ملزوم
قال شريح: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرق فإن قضاها المسئول استعبده بها وإن رده رجع حرا وهما ذليلان هذا بذل اللؤم وهذا بذل السؤال. وقال سعيد بن العاص: ما رددت أحدا عن حاجة إلا تبينت العز في قفاه والذل في وجهي. وأدخل ابن السماك رجلا إلى الفضل بن الربيع فقال: إن هذا يذل لك ماء وجهه فأكرم وجهك عن رده، وأنشد أبو تمام:
ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت
من ماء وجهي إذا أفنيته عوض
وقيل: العجب لمن يشتري العبيد بالأموال ولا يشتري الأحرار بالنوال والأفضال، وقيل: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرمهم تملكهم.
وسئل خالد بن يزيد ما الجود؟، قال أن تعطي من سألك، فقال ابنه: يا أبت هذا هو كد المسألة إنما الجود أن تعطي من سألك ومن لم يسألك.
وقال محمد بن أبي عمران:
أجرني من ذل السؤال وأعفني
فكل عزيز في السؤال ذليل
وقيل: أهنأ المعروف عاجله، وقال أحدهم: إذا أوليتني نعمة فعجلها فإن النفس مولعة بحب العاجل، وقال مروان بن أبي حفصة:
فما نحن نخشى أن يخيب دعاؤنا
لديك ولكن أهنأ الجود عاجله
أقام أحدهم بباب ملك مدة فلم يحظ منه بشيء فكتب أربعة أسطر في رقعة، الأول: (الأمل والضرورة أقدماني عليك)، الثاني: (ليس على العدم صبر)، الثالث: (الرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء). والرابع: (إما (نعم) مثمرة وأما (لا) ميئسة)، فكتب تحت كل سطر يعطى لكل منها أربعة آلاف درهم.
وأنشد المتنبي:
أبا المسك هل في الكأس فضل أنا له
فإني أغنى منذ حين وتشرب
وهبت على مقدار كفي زماننا
ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
ومدح المتنبي كريما قد نأى عنه فقال:
فإن فارقتني أمطاره
فأكثر غدرانها قد نضب
وقال ابن الحجاج في كريم سأله:
نفسي تقي نفسك ما تشتكي
لمثل هذا اليوم أعددتكا
فأجر على العادة في بر من
يجري على العادة في شكركا
وفد أحد الشعراء على أمير من العرب فلم يلتفت إليه فأنشد:
ماذا أقول إذا انصرفت وقيل لي
ماذا أفدت من الجواد المفضل
فاختر لنفسك ما أقول فإنني
لا بد مخبرهم وإن لم أسأل
فضحك الأمير وأجازه.
قال أعرابي لمعاوية أقمني على البصرة، قال: ما أريد بعاملها بدلا، قال: أقطعني البحرين، قال ما لي إلى ذلك سبيل، قال: فمر لي بألف درهم، فأمر له، فقيل له: قد بالغت أولا ثم انحططت، فقال: لولا طلبي كثيرا ما أعطاني قليلا.
قال خالد بن عبد الله لأعرابي قال فيه:
أخالد بين الأجر والحمد حاجتي
فأيهما تأتي وأنت جواد
سل ما بدا لك، فقال: مائة ألف درهم، قال: أسرفت، قال: ألف درهم، فقال خالد لا أدري أمن إسرافك أتعجب أم من حطك، فقال: إني سألتك على قدرك فلما أبيت سألت على قدري، فقال: إذا والله لا تغلبني على معروفي، ودفع إليه ما طلب.
قال عبد الله بن جعفر: لا تستحي من إعطاء القليل فإن المنع أقل منه.
مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة، فقال له: إن شئت أجزناك وإن شئت مدحناك، فاستحيا مطيع أن يختار الثواب وكره العدول إلى المدح فقال:
ثناء من أمير خير كسب
لصاحب مغنم وأخي ثراء
ولكن الزمان أطال دائي
وما مثل الدراهم من دواء
فضحك معن وأجازه.
قال بعض الخلفاء لسائل احتكم، فقال: يد أمير المؤمنين أبسط من لساني بالمسألة، فأجزل له العطية.
دخل أشعري على الرشيد وسأله، فقال: احتكم، فقال: أشعري يحتكم بعد أبي موسى، فضحك منه وأجازه.
دخل أعرابي على بائع تمر بالكوفة فقال:
رأيتك في النوم أطعمتني
قواصر من تمرك البارحه
فقلت لصبياننا أبشروا
برؤيا رأيت لكم صالحه
قواصر تأتيكم بكرة
وإلا فتأتيكم رائحه
فقل لي نعم إنها حلوة
ودع عنك لا إنها مالحه
فأعطاه قوصرة تمر، وقال: أحب أن تتركني من هذه الرؤيا فإن رؤيا يوسف صدقت بعد أربعين سنة.
قال رجل لابن عباس أتيتك في حاجة صغيرة، فقال: هاتها فالحر لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره.
قيل لبعضهم: أي الناس أحب إليك؟، قال: من أولاني معروفا، قيل: فإن لم يكن، قال: من أوليته معروفا، قال رجل لهشام: إن الله تعالى جعل العطاء محبة والمنع مبغضة فأعني على حبك، قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «من اتصلت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه فمن لم يحتمل تلك المؤن عرض لزوال النعم». قال خالد بن عبد الله: حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم فلا تملوا النعم فتتحول نقما، وأفضل الأموال ما أكسب أجرا وأورث ذكرا، قيل لحاتم: كيف تجد الجود في قلبك، فقال: إني لأجده كما يجده الناس ولكن أحمل نفسي على خطط الكرام، وقيل: من جاد بماله فقد جاد بنفسه، وإن لم يجد بها فقد جاد بما لا قوام له إلا بها.
وصف رجل خالد بن عبد الله القسري بالشجاعة، فقال بعض من حضره: إن خالدا لم يلق حربا قط، فقال: الصبر على السخاء أشد من الصبر في الهجاء.
قال ابن أبي خالد: لا تعدن نفسك شجاعا حتى تكون جوادا فإنك إن لم تقو على أن تقاتل نفسك على البخل لم تقدر على عدوك بالقتل، وقيل: السخي شجاع والبخيل شجاع الوجه، وقال أبو تمام:
وإذا رأيت أبا يزيد في الوغى
ويداه تبدي غارة وتعيدا
أيقنت أن من السماح شجاعة
تدمي وإن من الشجاعة جودا
قالت امرأة لابنها: إذا رأيت المال مقبلا فأنفق فإنه يحتمل، وإذا رأيته مدبرا فأنفق فإن ذهابه فيما تريد أجدى من ذهابه فيما لا تريد.
قال وهب بن منبه: اتخذوا عند المساكين سيرا فإن لهم دولة يوم القيامة. كان محمد بن كعب أصاب مالا فقيل له: ادخره لولدك من بعدك، فقال: لا والله أدخره لنفسي وأدخر ربي لولدي.
وقال بشار بن برد في الجود:
أخالد إن الجود يبقي لأهله
جمالا ولا تبقى الكنوز على الكد
وقال ابن مقبل:
وأيسر مفقود وأهون هالك
على الحي من لا يبلغ الحي نائله
قال أحدهم: أفضل الناس عيشا من عاشت الناس في فضله.
قال المتنبي فيمن لا يكفه قول العاذل عن إنفاق المال:
وما ثناك كلام الناس عن كرم
ومن يسد طريق العارض الهطل
لما مات حاتم الطائي تشبه به أخوه فقالت له أمه: لا تتعبن فيما لا تناله، فقال: وما يمنعني وقد كان شقيقي وأخي من أمي وأبي، فقالت: إني لما ولدته كنت كلما أرضعته أبى أن يرضع حتى آتيه بمن يشاركه فيرضع الثدي الآخر، وكنت إذا أرضعتك ودخل صبي بكيت حتى يخرج، قال الشاعر:
يلام أبو الفضل في جوده
وهل يملك البحر أن لا يفيضا
كانت أخت حاتم سخية لا تبقي شيئا، فحظر عليها إخوتها وحبسوها حتى ذاقت طعم الجوع والفقر، فظنوا أنها قد وجدت ألم الضيق والفقر فأطلقوها ودفعوا إليها صرة، فأتتها سائلة، فقالت: دونك الصرة فقد نابني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلا أبدا.
مدح رجل هشام بن عبد الملك، فقال: يا هذا إنه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال: ما مدحتك ولكن ذكرتك نعم الله عليك لتجدد شكرا، فقال هشام: هذا أحسن من المدح فوصله وأكرمه.
قال بعض الأعراب: قدم علينا الحكم بن المخزومي ولا مال لنا فأغنانا عن آخرنا، فقلت له: كيف؟ فقال: علمنا مكارم الأخلاق فعاد أغنياؤنا على فقرائنا فصرنا كلنا أجوادا.
قال مسلم بن قتيبة: إني لأعجز عن مكافأة من رآني لحاجته أهلا، فقال أبو العطاء: أيها الأمير فاجعل فضلك ابتداء حتى ترفع عن نفسك ثقل المكافأة.
سئل بعض الأدباء عن جعفر بن يحيى بعدما قتل، فقال: تركني مقطوع الآمال زاهدا بعده في طلب الأموال.
قال ابن خارجة: لا أرد سائلا فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أشتري عرضي منه.
كان العباس بن محمد يجري على رجل شيئا فغضب عليه، وكان ابنه كتب إطلاقات رفعت إليه فترك اسم المغضوب عليه، فقال: فأين ذكر رزق فلان، فقال: إنك قد كنت غضبت عليه، فقال: يا بني غضبي لا يسقط هبتي إن أباك لا يغضب في النوال.
قال الحجاج يوما: قل السائلون؟ فقال رجل: أصلح الله الأمير إنك أكثرت خير البيوت فاستغنى الناس بما يصل إليهم عن الترحال، فسر الحجاج، وقال: بارك الله فيك وأحسن إليه.
مدح رجل كريما فقال: كيسه محلول وماله مبذول يطعمك نفسه إن أكلتها ويسقيك روحه إن شربتها.
قيل للحسن بن سهل وقد كثر عطاؤه على اختلال حاله: ليس في السرف خير، فقال: ليس في الخير سرف.
لما دخل الفضل بن يحيى الرقة قال لوكلائه: أحصوا منزل من يغنيه ألف درهم، فأحصوا ثلاثمائة منزل، فوجه إليهم ثلاثمائة ألف درهم، ثم وضع له الطعام فقال ما أكلت طعاما أهنأ من اليوم وقد علمت أني أغنيت ثلاثمائة ألف بيت.
دخل هشام بن عروة على المنصور فشكا إليه دينا، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «من أعطى عطية وهو طيب النفس بورك للمعطي والمعطى منها» أفنفسك طيبة بها؟ قال: نعم.
فرق علي بن موسى الرضي ماله بخراسان كله في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: ما هذا المغرم؟ فقال: بل هو المغنم، لا تعدن مغرما ما ابتعت به أجرا وكرما.
قال الحسن بن علي لرجل سأله شيئا فلم يمكنه: لو أمكنني لكان الحظ فيه لنا دونك فإنا حرمنا شكرك فلا تحرمنا سعة عذرك.
وإليك بعض أبيات في مدح الجود والأجواد:
لو أن عين زهير أبصرت حسنا
وكيف يصنع في أمواله الكرم
إذا لقال زهير حين يبصره
هذا جواد على العلات لا هرم •••
وإن جاد قبلك قوم مضوا
فإنك في الكرم الأول •••
لو أن ما فيه من جود يوزعه
على الخلائق عادوا كلهم سمحا
كأن فيض يديه قبل مسألة
باب السماء إذا ما بالحيا انفتحا •••
مطرت أنامل راحتيه فوائدا
هانت علينا بعدها الأمطار
إذا القطر لم يغزر علينا سماؤه
بأرض وثقنا من سمائك بالغزر •••
قوم إذا مطرت سماء نوالهم
ذم الأنام سحائب الأمطار •••
يجود فتستحيي السحاب إذا رأت
نداه وتخطيه الغيوث المواطر •••
إذا انبسطت بالمكرمات أكفهم
رأيت الحيا من صيبهن قد استحيا •••
أنا الرجل الذي كلتا يديه
يمين في صروف النائبات •••
فتى شقيت أمواله بسماحة
كما شقيت قيس بأرماح تغلب •••
كأن لهم دينا عليه وما لهم
سوى جود كفيه عليه حقوق •••
ألبستني حلل الغنى فلبستها
وجعلت آمالي لهن ذيولا •••
بسطت لهم وجها طليقا إلي الندى
وشر الوجوه ما يعبسه البخل •••
وتأخذه عند المكارم هزة
كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب •••
وصنيعة لك قد كتمت جزيلها
فأبى تضوعها الذي لا يكتم •••
وريق عودهم أبدا رطيب
إذا ما اغبر عيدان اللئام •••
الجود يعلم أني منذ عاهدني
ما خفته وقت ميسوري ومعسوري •••
هانت الدنيا عليه
فهي نهبى في يديه
يصبح الجود ويمشي
عاكفا في راحتيه •••
وإن خليليك السماحة والندى
مقيمان بالمعروف حيث تقيم •••
وإن وجود الجود في كل بلدة
إذا لم يكن يحيا بها لغريب •••
أعطاك قبل سؤاله
فكفاك مكروه السؤال •••
سألتك إغنائي عن الناس كلهم
فأغنيتني عنهم وعنك جميعا •••
وأحسن وجه في الورى وجه محسن
وأيمن كف في الورى كف منعم •••
لم يدعني وفي يميني فضل
لندى غيره ولا في شمالي •••
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى
بخيلا له في العالمين خليل •••
لا فرق في ناطق بالشرك عندهم
وناطق في جواب السائلين بلا •••
لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا
ببغداد من أرض الجزيرة وإبله
ونعم الفتى والبيد بيني وبينه
بعشرين ألفا حببتنا رسائله
لعمري ما النائي البعيد بنازح
إذا قربت ألطافه ونوائله
وما ضرنا أن السماك مملق
بعيد إذا جادت علينا هواطله •••
يقول أناس لو جمعت دراهما
وكيف لم أخلق لجمع الدراهم
أبى الله إلا أن تكون دراهمي
مدى الدهر نهبى بين عاف وغانم •••
ولو نزل الأضياف ليلة لا قرى
لأطعمتهم لحمي وأنتقيتهم دمي •••
وحكمني حتى لو أني سألته
شبابي وقد ولى به الشيب رده •••
ما زال يهذي بالمكارم والعلى
حتى ظننا أنه محموم •••
فتى كملت أخلاقه غير أنه
جواد فلا يبقى من المال باقيا •••
يعد ما أنفق من ماله
غنما وما أوفره غرما •••
ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل •••
العرض ليس يصونه مال إذا
ما المال عند حقوقه لم يبذل •••
كريم رأى الإقلال عارا فلم يزل
أخا طلب للمال حتى تمولا
فلما أفاد المال عاد بفضله
على كل من يرجو جداه مؤملا
الحلم والحلماء
قيل: الحلم تجرع الغيظ ودعامة العقل، وقيل: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتصر، ولكن الحليم من ظلم فحلم فإذا قدر غفر، وقالت الفلاسفة: الحلم فضيلة النفس يكسبها الطمأنينة ولا يحركها الغضب، وقيل: الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة، وقيل لعمر بن الأهتم: من أشجع الناس؟، فقال: من رد جهله حلمه، وقيل: ليس التاج الذي يفتحر به العلماء والملوك فضة أو ذهبا لكنه الوقار المكلل بجواهر الحلم.
دفع أزدشير بن بابك ثلاثة كتب إلى رجل يقوم على رأسه، وقال له: إذا رأيتني قد غضبت فادفع إلي الأول، وكان فيه «أمسك فلست بإله وإنما أنت جسد يوشك أن يأكل بعضه بعضا»، فإن لم أندم، فادفع إلي الثاني، وكان فيه «ارحم عباد الله يرحمك الله»، وإلا فالثالث وكان فيه: «احمل عباد الله على حقه».
ومر النبي
صلى الله عليه وسلم
بقوم يربعون حجرا فقال: «إن أشدكم من ملك نفسه عند الغضب»، وقيل: الكظم يدفع محذور الندم كالماء يطفيء حر الضرم. وقال أحدهم: كظم يتردد في حلقي أحب إلي من نقص أجده في خلقي، وقال الله تعالى:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (الأعراف : 201)، قيل لحكيم: أي الأحمال أثقل؟ فقال: الغضب. وقيل لأبي عباد: أي أبعد من الرشاد السكران أم الغضبان؟ فقال: الغضبان لا يعذره أحد في ذنب يجترمه وما أكثر ما يغدر السكران. وقيل: من غضب من غير ذنب رضي من غير عذر. وقيل: من فاته الدين والمروءة فرأس ماله الغضب. وقال حكيم: إياك وعزة الغضب، فإنها تصير بك إلى ذل الاعتذار، وقيل: أسرع الناس رضى أسرعهم غضبا كالحطب أسرعه خمودا أسرعه وقودا. وشتم حليم سفيها وهو ساكت، فقال: إياك أعني، فقال: وعنك أغضي. وقيل: من كرم أصله لان قلبه. وقيل: من أمارات الكرم الرحمة، ومن أمارات اللؤم القسوة، وقال الله تعالى في العفو:
وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم (النور: 22)، وقال أيضا:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (الأعراف: 199). وقال الأحنف: إياكم وحمية الأوغاد، قيل: وما حميتهم؟ قال: يرون العفو مغرما والبخل مغنما، وقيل: من شكر الموهوب العفو عن الذنوب والاحتمال قبر العيوب، وقيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفي لأن لذة العفو يتبعها حمد العاقبة ولذة التشفي يتبعها غم الندامة، وقيل للإسكندر: أي شيء أنت به أسر مما ملكت؟ قال: مكافأة من أحسن إلي بأكثر من إحسانه وعفوي عمن أساء بعد قدرتي عليه. وقال المأمون: الحلم يحسن بالملوك إلا في ثلاثة قادح - في ملك ومتعرض لحرمة ومذيع لسر. وقال السفاح: الحلم يحسن إلا ما أوضع الدين وأوهن السلطان. وقال الإمام عمر: لئن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة. وقال الإمام علي: إذا قدرت على العدو فاجعل العفو شكر قدرتك. ظفر الإسكندر ببعض الملوك فقال له: ما أصنع بك، قال: ما يجمل بالكرام أن يصنعوه إذا ظفروا، فخلى سبيله ورده إلى مملكته. ولما ظفر أنوشروان ببزرجمهر، قال: الحمد لله الذي أظفرني بك، فقال: كافئ من أعطاك ما تحب بما يحب.
وقال معاوية: العقوبة ألأم حالات ذي القدرة. وقال حكيم: من شفى غيظه لم يجب شكره. وقيل: التشفي طرف من الجزع فمن رضي أن لا يكون بينه وبين الظالم إلا ستر رقيق وحجاب ضعيف فلينصف. وقيل: عفو العزيز أعز له وعفو الذليل أذل له. وقال بعض الملوك: إنما نملك الأجساد دون النيات ونحكم بالعدل لا بالهوى ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بشركم من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده، ألا أخبركم بشر من ذلك، من لا يقبل معذرة ولا يقبل عثرة». وقيل: لا عيب مع إقرار ولا ذنب مع استعفاء. سمع حكيم رجلا يقول: ذنب الإصرار أولى بالاغتفار، فقال: صدق والله ليس فضل من عفا عن السهو القليل كمن عفا عن العمد الجليل. وقال ابن المعتز: تجاوز عن مذنب لم يسلك بالإقرار طريقا حتى اتخذ من رجائك رفيقا، وقال الفضل بن مروان لرجل عاتبه: بلغني أنك تبغضني، فلم ينكر الرجل وقال: أنت كما قال الشاعر:
فإنك كالدنيا نذم صروفها
ونوسعها ذما ونحن عبيدها
أتي المنصور برجل أذنب فقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ في الإحسان؛ فعفا عنه.
قال الشعبي لابن بسرة وقد كلمه في قوم حبسهم: إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم وإن حبستهم بحق فالعفو يكفهم، فأمر بإطلاقهم.
قال رجل لمعن: ما على المذنب أكثر من الرجوع فهل على من لم يذنب أكثر من الاعتذار.
وقال الرشيد لمذنب: لأضربنك حتى تقر بالذنب، فقال: هذا خلاف ما أمر الله تعالى به لأنه أمر أن يضرب الناس حتى يقروا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقر بالكفر، فخجل الرشيد وعفا عنه.
انقطع عبد الملك عن أصحابه فانتهى إلى أعرابي فقال: أتعرف عبد الملك؟ قال: نعم جائر بائر، قال: ويحك أنا عبد الملك، قال: لا حياك الله ولا بياك ولا قربك، أكلت مال الله وضيعت حرمته، قال: ويحك أنا أضر وأنفع، قال: لا رزقني الله نفعك ولا دفع عني ضرك، فلما وصلت خيله علم صدقه، فقال: يا أمير المؤمنين اكتم ما جرى فالمجالس بالأمانة.
عثر جعفر بن سليمان برجل سرق درة فباعها فلما بصر بالرجل استحيا ، فقال له: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني فوهبتها لك، فقال: نعم فخلى سبيله.
كان ركن الدولة يوما في الدار بحيث لا يرى، فدخل فراش فرأى طاسا من ذهب ولم يكن بصر به أحد فتناوله وخرج، فرآه ركن الدولة ولم يعلم به، فلما استقصى عليه الخدم قال: دعوه فإن من أخذه لم يأخذه على أن يرده ورائية لا يريد أن يذكره، فبينما كان الفراش يوما يصب ماء على يده وعليه ثياب فاخرة، قال له ركن الدولة: هذه الثياب من ذلك الطاس، وكان الفراش صبورا، فقال: نعم أيها الأمير، وغير ذلك من أثر النعم، فعفا عنه.
قال غلام هاشمي أراد عمه أن يجازيه لسهو منه: يا عم إني قد أسأت وليس معي عقلي فلا تسيء ومعك عقلك.
اعتذر رجل إلى المنتصر، فقال: أتراني أتجاوز بك حكم الله؟ حيث يقول:
وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (الأحزاب: 5).
قال هاشمي للمأمون: من حصل له مثل التي ولبس ثوب حرمتي وأسلف مثل مودتي وغفر له فوق زلتي، فقال: صدقت وعفا عنه.
غضب عبد الملك على رجل فلما أتى به قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: لا سلام الله عليك، فقال: ما هكذا أمر الله، إنما قال تعالى:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها (النساء: 86)، وقال:
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم (الأنعام: 54) فعفا عنه.
وكان عمر رضي الله عنه يعس ليلة فسمع غناء رجل من بيت فتسور عليه فرأه مع امرأة يشربان الخمر، فقال: يا عدو الله أرأيت أن يسترك الله وأنت على معصية، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل، إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت الله في ثلاث فقد قال الله تعالى:
ولا تجسسوا (الحجرات: 12) وقد تجسست، وقال:
وأتوا البيوت من أبوابها (البقرة: 189) وقد تسورت علي،وقال:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها (النور: 27) وقد دخلت بغير سلام، فقال عمر : أسأت فهل تعفو؟ فقال: نعم وعلى أن لا تعود.
أتي الحجاج برجل من أصحاب ابن الأشعث فقال له: أفيك خير أن عفوت عنك، فقال: لا، قال: ولم؟ قال: لأني كنت خاملا فرفعتني وألحقتني بالناس فخرجت مع ابن الأشعث لا لدين ولا لدنيا ومعي الحماقة التي لا تفارقني أبدا ولا أفلح معها سرمدا، فضحك منه وخلى سبيله.
أتي معن بن زائدة بأسرى فأمر بضرب أعناقهم، فقام غلام منهم فقال: أنشدك الله أيها الأمير أن لا تقتلنا ونحن عطاش، فقال: اسقوهم، فلما شربوا قال: ناشدتك الله أن قتلت ضيفانك، قال: أحسنت وخلى سبيلهم.
هم الأزارقة بقتل رجل، فقال: أمهلوني لأركع، فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام، فخلوا سبيله لقوله تعالى:
أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام (المائدة: 2).
ولما أتي عمر رضى الله عنه بالهرمزان أراد قتله، فاستسقى ماء، فأتوه بقدح فأمسكه بيده فاضطرب، وقال: لا تقتلني حتى أشرب هذا الماء، فقال: نعم، فألقى القدح من يده، فأمر عمر بقتله، فقال: أو لم تؤمنني، وقلت: لا أقتلك حتى تشرب هذا الماء، فقال عمر: قاتله الله أخذ أمانا ولم نشعر به.
غضب رجل على عبده، فقال: أسألك بالله إن علمت أني لأطوع لك منك لله فاعف عني عفا الله عنك، فعفا عنه.
وقال رجل لأمير غضب عليه: أسألك بالذي أنت أذل بين يديه غدا مني بين يديك إلا ما عفوت عني، فعفا عنه.
جنى غلام للحسن بن علي فأمر بعقابه، فقال: يا مولاي إن الله تعالى قد مدح قوما فكن منهم، فإنه يقول:
والكاظمين الغيظ
فقال: خلوا سبيله، قال: وقد قال:
والعافين عن الناس
قال: قد عفوت عنك، قال: وقد قال:
والله يحب المحسنين (آل عمران: 134) قال: أنت حر لوجه الله تعالى ولك من المال كذا.
استعفى رجل من مصعب بن الزبير فعفا عنه، فقال: اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض، فأعطاه مائة ألف، فقال الرجل: إني قد جعلت نصفها لابن قيس الرقيات لقوله:
إنما مصعب شهاب من الله
تجلت عن وجهه الظلماء
فقال له مصعب: هذا لك وعلينا أن نعطيه ذلك.
أتي عبد الله بن زياد بخارجي فأمر بقتله، فقال: إن رأيت أن تؤخرني إلى غد فأمر بتأخيره، فقال:
عسى فرج يأتي به الله إنه
له كل يوم في خليقته أمر
فعفا عنه.
غضب المأمون على علي بن الجهم، فقال: لآخذن مالك ولأقتلنك اقتلوه، فقال أحمد بن أبي داود: إذا قتلته فمن أين تأخذ المال يا أمير المؤمنين، قال: من ورثته، فقال: حينئذ تأخذ مال الورثة وأمير المؤمنين يأبى ذلك، فقال: يؤخر حتى يستصفى ماله، وانفض المجلس وسكن غضبه وتوصل إلى خلاصه.
غضب الرشيد على رجل فقال له جعفر: غضبت لله فأطع الله في غضبك بالوقوف إلى حال التبين كما غضبت له.
قيل: ما عفا عن الذنب من قرع به، والعفو مع العذل أشد من الضرب على ذي العقل، فرب قول أنفذ من صول وعفو أشد من انتقام، وقال بعض الأدباء: من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم، وقال أبو الدرداء لرجل أسمعه كلاما: يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه، وشتم رجل الشعبي، فقال: إن كنت كما قلت فغفر الله لي وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو شكرا للقدرة عليه». وقال بعض البلغاء: أحسن المكارم عفو المقتدر وجود المفتقر، وقال بعض الحكماء: احتمال السفيه خير من التحلي بصورته والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته، وقيل للإسكندر: إن فلانا وفلانا ينقصانك ويثلبانك فلو عاقبتهما، فقال: هما بعد العقوبة أعذر في تنقصي وثلبي، فكان هذا تفضلا منه وتألفا.
وقال الأحنف: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال إن كان أعلى مني عرضت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيرا بي تفضلت عليه.
وقيل في منثور الحكم: الحلم حجاب الآفات ، وأكرم الشيم أرعاها للذمم، ومن ظهر غضبه قل كيده. وقال بعض الأدباء: غضب الجاهل في قوله وغضب العاقل في فعله. وقال بعض الحكماء: إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جوابا وأوجعته عقابا. وقالت الحكماء: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الجواد إلا في العسرة والشجاع إلا في الحرب والحليم إلا في الغضب. وقال بعض الحكماء: العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم. وقال عمرو بن العاص: أكرموا سفهاءكم فإنهم يسومونكم العار والشنار. قال سلمان لعلي بن أبي طالب: ما الذي يباعدني عن غضب الله عز وجل، قال: لا تغضب. وقال بعض البلغاء: من رد غضبه هد من أغضبه. وقال رجل لبعض الحكماء: عظني، قال: لا تغضب فينبغي لذي اللب السوي والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدها ويقابل دواعي شره بحزمه فيردها ليحظى بأجل الخير وليسعد بحميد العاقبة.
شكا رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
القسوة، فقال: «اطلع في القبور واعتبر بالنشور». وكان بعض الملوك إذا غضب ألقى عنده مفاتيح ترب الملوك فيزول غضبه. وقال عمر بن الخطاب: من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير. وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه: «إن كلمة منك تسفك دما وأخرى منك تحقن دما وإن نفاذ أمرك مع كلامك فاحترس في غضبك من قولك أن تخطئ ومن لونك أن تتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب قدرة وتعفو حلما». وقال بعض الحكماء: الغضب على من لا تملك عجز وعلى من تملك لؤم. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ينادي مناد يوم القيامة من له أجر على الله عز وجل فليقم فيقوم العافون عن الناس، ثم تلا:
فمن عفا وأصلح فأجره على الله (الشورى: 40). وقال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان في أسارى ابن الأشعث: إن الله قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الخير في ثلاث خصال فمن كن فيه فقد استكمل الإيمان : من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا قدر عفا». وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز كلاما فقال عمر: أردت أن يستفزني الشيطان لعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا انصرف رحمك الله. قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما ازداد أحد بعفو إلا عزا فاعفوا يعزكم الله». وقال بعض البلغاء: ليس من عادة الكرام سرعة الانتقام ولا من شرط الكرم إزالة النعم، وقال المأمون لإبراهيم بن المهدي: إني شاورت في أمرك فأشاروا علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك فكرهت القتل للازم حرمتك، فقال: يا أمير المؤمنين إن المشير أشير بما جرت به العادة في السياسة إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلا من حيث ما عودته من العفو فإن عاقبت فلك نظير وإن عفوت فلا نظير لك وأنشد:
البر بي منك وطأ العذر عندك لي
فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتج عندك لي
مقام شاهد عدل غير متهم
لئن جحدتك معروفا مننت به
إني لفي اللؤم أحظى منك بالكرم
تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به
فلا عدمناك من عاف ومنتقم
المروءة وأربابها
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته». وقال بعض البلغاء: من شروط المروءة أن يتعفف عن الحرام ويتصلف عن الآثام وينصف في الحكم ويكف عن الظلم ولا يطمع فيما لا يستحق ولا يستطيل على من لا يسترق ولا يعين قويا على ضعيف ولا يؤثر دنيا على شريف ولا يسر ما يعقبه الوزر والإثم ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم. وسئل بعض الحكماء عن الفرق بين العقل والمروءة، فقال: العقل يأمرك بالأنفع والمروءة تأمرك بالأجمل. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره دنيها وسفسافها». وقال عمر بن الخطاب: لا تصغرن هممكم فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم. وقيل: الهمة راية الجد. وقال بعض البلغاء: علوا الهمم بذر النعم. وقال بعض العلماء: إذا طلب رجلان أمرا ظفر به أعظمهما مروءة. وقال بعض الأدباء: من طلب التماس المعالي بسوء الرجاء لم ينل جسيما. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما هلك امرؤ عرف قدره». وقيل لبعض الحكماء: من أسوأ الناس حالا؟ فقال: من بعدت همته واتسعت أمنيته وقصرت آلته وقلت مقدرته. وقال بعض الحكماء: تجنبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خولتم وتستصغرون بها نعمة الله عليكم. وقيل: الحظوظ كالسحاب الذي يمسك عن منابت الأشجار إلى مغايص البحار وينزل إلى حيث يصادف من خبيث وطيب فإن صادف أرضا طيبة نفع وإن صادف أرضا خبيثة ضر كذلك الحظ إن صادف نفسا شريفة نفع وكان نعمة عامة وإن صادف نفسا دنية ضر وكان نقمة طامة. دعا موسى بن عمران على قوم بالعذاب فأوحى إليه قد ملكت أسفلها على أعلاها، فقال: يا رب كنت أحب لهم عذابا عاجلا؛ فأوحى الله تعالى إليه: أو ليس هذا كل العذاب العاجل الأليم، وقيل: شرف النفس مع الهمة أولى من علو الهمة مع دناءة النفس؛ لأن من علت همته مع دناءة نفسه كان متعديا إلى طلب ما لا يستحقه ومتخطيا إلى التماس ما لا يستوجبه ومن شرفت نفسه مع صغر همته فهو تارك لما يستحق ومقصر عما يجب له والفضل بينهما ظاهر وإن كان لكليهما من الذم نصيب.
وقيل لبعض الحكماء: ما أصعب شيء على الإنسان؟، قال: أن يعرف نفسه ويكتم الأسرار فإذا اجتمع الأمران واقترنا بشرف النفس وعلو الهمة كان الفضل بهما ظاهرا وافرا ومشاق الحمد مسهلة وشروط المروءة بينهما متينة.
وتقسم شروط المروءة إلى قسمين، شروط المروءة في النفس وشروطها في الغير، فأما شروطها في النفس ففي ثلاثة أمور وهي العفة والنزاهة والصيانة، فأما العفة فنوعان أحدهما العفة عن المحارم والثاني العفة عن المآثم وفي ذلك يقول الشاعر:
الموت خير من ركوب العار
والعار خير من دخول النار
والله من هذا وهذا جاري
والداعي إلى ذلك شيئان إرسال الطرف وإتباع الشهوة. قال عيسى ابن مريم عليه السلام: إياكم والنظرة بعد النظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة. وقال الإمام علي: العيون مصايد الشيطان، وقال حكيم: من أرسل طرفه استدعى حتفه.
قيل: شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا، وقيل: من يزرع خيرا يحصد زرعه غبطة، وقال بعض الحكماء: إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال، وجاء في الحديث: «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم».
وأما العفة عن المآثم فنوعان أحدهما الكف عن المجاهرة بالظلم، والثاني زجر النفس عن الإسرار بخيانة، فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك وطغيان متلف، وهو يؤول إن استمر إلى فتنة أو جلاء، فأما الفتنة في الأغلب فتحيط بصاحبها وتنعكس عن البادئ بها فلا تنكشف إلا وهو بها مصروع كما قال الله تعالى:
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله (فاطر: 43)، وجاء في الحديث: «الفتنة نائمة فمن أيقظها صار طعاما لها». وقال جعفر بن محمد: الفتنة حصاد للظالمين. وقال بعض الحكماء: صاحب الفتنة أقرب شيء أجلا وأسوأ شيء عملا، والظالم كالنار إذا وقعت في يابس الشجر فلا تبقي معها مع تمكنها شيئا حتى إذا أفنت ما وجدت أضمحلت وخمدت فيكون الظالم مهلكا ثم هالكا، وجاء في الحديث: «اطلبوا الفضل والمعروف عند الرحماء من أن تعيشوا في أكنافهم فترون آثار الله تعالى في الظالمين فإن له فيهم غيرا وتتصورن عواقب ظلمهم فإن فيها مزدجرا». ورد في الحديث: «من أصبح ولم يف ظلم أحد غفر الله ما اجترم»، وورد عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه خاطب عليا قائلا: «يا علي اتق دعوة المظلوم فإنه إنما يسأل الله حقه وإن الله لا يمنع ذا حق حقه». وورد في منثور الحكم: ويل للظالم من يوم المظالم. وقال بعض الحكماء: من جار حكمه أهلكه ظلمه، والاستسرار بالخيانة بذاء مهينة ولو لم يكن من ذم الخيانة إلا ما يجده الخائن في نفسه من المذلة لكفاه زاجرا، ولو تصور عقبى أمانته وجدوى ثقته لعلم أن ذلك من أربح بضائع جاهه وأقوى شفعاء تقدمه مع ما يجده في نفسه من العز ويقابل عليه من الإعظام، وورد في الحديث: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». وقيل: الأمانة مؤداة إلى البر. وقال بعض الحكماء: من التمس أربعا بأربع التمس ما لا يكون، من التمس الجزاء بالرياء التمس ما لا يكون، ومن التمس مودة الناس بالغلظة التمس ما لا يكون، ومن التمس وفاء الإخوان بغير وفاء التمس ما لا يكون ومن التمس العلم براحة الجسد التمس ما لا يكون، والداعي إلى الخيانة شيئان المهانة وقلة الأمانة، وإذا حسمها عن نفسه بما ذكر ظهرت مروءته.
وأما النزاهة فنوعان: أحدهما: النزاهة عن المطامع الدنية، والثاني: النزاهة عن مواقف الريبة.
فأما المطامع الدنية فلأن الطمع ذل والدناءة لؤم وهما أدفع شيء للمروءة، والباعث على ذلك شيئان، والشره وقلة الأنفة فلا يقنع بما أوتي وإن كان كثيرا لأجل شرهه ولا يستنكف مما منع وإن كان حقيرا لقلة أنفته، وقال أحدهم: يا رسول الله أوصني، قال: عليك باليأس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه فقر حاضر وإذا صليت صلاة فصل صلاة مودع وإياك وما يعتذر منه.
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن نفسا لا تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم إبطاء الرزق على طلبه بالمعاصي فإن الله عز وجل لا يدرك ما عنده إلا بطاعته».
وسئل محمد بن علي عن المروءة فقال: أن لا تعمل في السر عملا تستحي منه في العلانية، وقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ليلة مع زوجته صفية على باب مسجد يحادثها وكان معتكفا فمر به رجلان من الأنصار فلما رأياه أسرعا فقال لهما: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله أوفيك شك يا رسول الله، فقال: «رأيت أن الشيطان يجري من أحدكم مجرى لحمه ودمه فخشيت أن يقذف في قلبيكما سوءا».
وأما الصيانة وهي الثالث من شروط المروءة فنوعان: أحدهما: صيانة النفس كفايتها وتقدير مادتها ، والثاني صيانتها عن عمل المنن من الناس، وأما التماس الكفاية وتقدير المادة فلأن المحتاج إلى الناس كل منهضم ذليل مشتغل وهو لما فطر عليه محتاج إلى ما يستمده ليقيم أود نفسه ويدفع ضرورة وقته.
وقد قالت العرب في أمثالها: كلب جوال خير من أسد رابض، وما يستمده نوعان لازم وندب، فأما اللازم فهو ما أقام بالكافية وأفضى إلى سد الخلة، وعليه في طلبه ثلاثة شروط: أحدها استطابته من الوجوه المباحة وتوقى المحظورة، فإن المواد المحرمة مستخبئة الأصول ممحوقة المحصول إن صرفها في بر لم يؤجر وإن صرفها في مدح لم يشكر، وقد ورد في الحديث: «لا يعجبك رجل كسب مالا من غير حله فإن أنفق لم يقبل منه وإن أمسكه فهو زاده إلى النار»، وقال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه وحرمك أجر إنفاقك، ونظر بعض الخوارج إلى رجل من أصحاب السلطان يتصدق على مسكين فقال: انظر إليهم حسناتهم من سيئاتهم، والثاني طلبه من أحسن جهاته التي لا يلحقه فيها غصن ولا يتدنس له بها عرض، فإن المال يراد لصيانة الأعراض لا لابتذالها ولعز النفوس لا لإذلالها. وقال عبد الرحمن بن عوف: يا حبذا المال أصون به عرضي وأرضي به ربي. وقال أبو شبر الضرير:
كفى حزنا أني أروح وأغتدي
وما لي من مال أصون به عرضي
وأكثر ما ألقى الصديق بمرحبا
وذلك لا يكفي الصديق ولا يرضي
وجاء في الحديث: «اطلبوا الحوائج من حسان الوجوه».
والثالث أن يتأنى في تقدير مادته وتدبير كفايته بما لا يلحقه خلل ولا يناله زلل فإن يسير المال على حسن التقدير، وإصابه التدبير أجدى نفعا وأحسن موقفا من كثيره مع سوء التدبير، وفساد التقدير كالبذر في الأرض إذا روعي يسيره زكا وإن أهمل كثيره اضحمل. وقال محمد بن علي رضي الله عنه: الكمال في ثلاثة، العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة. وقيل لبعض الحكماء: فلان غني، فقال: لا أعرف ذلك ما لم أعرف تدبيره في ماله، فإذا استكمل هذه الشروط فيما يستمده من قدر الكفاية فقد أدى حق المروءة في نفسه. وسئل الأحنف بن قيس عن المروءة فقال: العفة والحرفة، وقيل: لا تأسف لمال كان فذهب، ولا تعجز عن الطلب لوصب ولا نصب.
وأما الندب فهو ما فضل عن الكفاية وزاد على قدر الحاجة فإن الأمر فيه معتبر بحال طالبه، فإن كان ممن تقاعد عن مراتب الرؤساء وتقاصر عن مطاولة النظراء وانقبض عن منافسة الأكفاء فحسبه ما كفاه فليس في الزيادة إلا شره ولا في الفضول إلا نهم وكلاهما مذموم، وجاء في الحديث: «خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي». وقال عبد الله بن مسعود: المستغني عن الدنيا بالدنيا كمطفئ النار بالتبن. وقال بعض الحكماء: استر ماء وجهك بالقناعة وتسل عن الدنيا لتجافيها عن الكرام فإن كان ممن مني بعلو الهمم وتحركت فيه أريحية الكرم وآثر أن يكون رأسا ومقدما وأن يرى في النفوس معظما ومفخما فالكفاية لا تقله حتى يكون ماله فاضلا ونائله فائضا. وقيل لبعض العرب: ما المروءة فيكم؟ فقال: طعام مأكول ونائل مبذول وستر مقبول. وقال رجل لعمر بن الخطاب: خدمك بنوك؟ فقال: أغناني الله عنهم. وقال الإمام علي لابنه الحسن في وصية له: يا بني إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا فإن اليسير من الله تعالى أكرم وأعظم من الكثير من غيره، وإن كان كل منه كثيرا، وقال زياد لبعض الدهاقين: ما المروءة فيكم؟ قال: اجتناب الريب فإنه لا ينبل مريب وإصلاح الرجل ماله فإنه من مروءته وقيامه بحوائجه وحوائج أهله فإنه لا ينبل من احتاج إلى أهله ولا من احتاج أهله إلى غيره. وقيل: قدم لحاجتك بعض لجاجتك. وجاء في الحديث: «من أعياه رزق الله تعالى حلالا فليستدن على الله وعلى رسوله». وقال الإمام علي: من أراد البقاء - ولا بقاء - فليبادر الغداء وليخفف الرداء، قيل: وما في خفة الرداء من البقاء؟ قال: قلة في الدين فإن أعوذه ذلك استسماحا فهو الرق المذل؛ ولذلك قيل: لا مروءة لمقل. وقال بعض الحكماء: من قبل صلتك فقد باعك مروءته وأذل لقدرك عزه وجلالته، والذي يتماسك به الباقي من مروءة الراغبين واليسير التافه من صيانة السائلين وإن لم يبق لذي رغبة مروءة ولا لسائل تصون أربعة أمور:
أولا:
جهد المضطر، أحدهما: أن يتجافى ضرع السائلين وأبهة المستقلين فيذل بالضرع ويحرم بالأبهة، وليكن من التحمل على ما يقتضيه حال مثله من ذوي الحاجات، وقد قيل لبعض الحكماء: متى يفحش زوال النعم؟ قال: إذا زال معها التجمل.
ثانيا:
أن يقتصر في السؤال على ما دعته إليه الضرورة وقادته إليه الحاجة ولا يجعل ذلك ذريعة إلى الاغتنام فيحرم باغتنامه ولا يعذر في ضرورته، وقد قال بعض الحكماء: من ألف المسألة ألفه المنع.
ثالثا:
أن يعذر في المنع ويشكر على الإجابة فإنه إن منع فعما لا يملك وإن أجيب فإلى ما لا يستحق.
رابعا:
أن يعتمد على سؤال من كان للمسألة أهلا وكان أنجح عنده مأمولا؛ فإن ذوي المكانة كثير والمعين منهم قليل، ولذلك قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الخير كثير وقليل فاعله»، والمرجو للإجابة من تكاملت فيه خصالها وهي ثلاث: إحداهن كرم الطبع فإن الكريم مساعد واللئيم معاند، وقد قيل: المخذول من كانت له إلى اللئام حاجة. والثانية: سلامة الصدر فإن العدو ألب على نكبتك وحرب على نائبتك. وقد قيل: من أوعز صدره استدعيت شره فإن رق لك بكرم طبعه ورحمك بحسني ظفره فأعظم بها محنة أن يصير عدوك لك راحما وقد قال الشاعر:
وحسبك من حادث بامرئ
ترى حاسديه لهف راحمينا
والثالث: ظهور المكنة فإن من سأل ما لا يمكن فقد أحال وكان كمستنهض المسجون ومسعف المديون وكان بالرد خليقا وبالحرمان حقيقا، وقد قال الإمام علي: من لا يعرف (لا) حتى يقال له لا فهو أحمق، ووصى عبد الله بن الأهتم ابنه فقال: يا بني لا تطلب الحوائج من غير أهلها ولا تطلبها في غير حينها ولا تطلب ما لست له مستحقا فإنك إن فعلت ذلك كنت حقيقا بالحرمان.
أما شروط المروءة في الغير فثلاثة: المؤازرة، والمباشرة، والإفضال. أما المؤازرة فنوعان: أحدهما الإسعاف بالجاه، والثاني: الإسعاف في النوائب، فأما الإسعاف بالجاه فقد يكون من الأعلى قدرا والأنفذ أمرا، فقد قال بعض الحكماء: اصنع الخير عند إمكانه يبقى لك حمده عند زواله، وأحسن والدولة لك يحسن لك والدولة عليك واجعل زمان رخائك عدة لزمان بلائك. وقال بعض البلغاء: من علامة الإقبال اصطناع الرجال. وقال بعض الأدباء: بذل الجاه أحد الحبائين. وجاء في الحديث: «من عظمت نعمة الله عليه عظمت مؤونة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المؤونة عرض تلك النعمة للزوال». وقيل لحكيم اليونان: من أضيق الناس طريقا وأملهم صديقا؟ قال: من عاشر الناس بعبوس وجهه واستطال عليهم بنفسه، وقال عدي بن حاتم:
كفى زاجرا للمرء أيام دهره
تروح له بالواعظات وتغتدي
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «خير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله». وقيل لبعض الحكماء: هل شيء خير من الذهب والفضيلة؟ قال: معطيهما.
والإسعاف في النوائب نوعان واجب ومبدع، فأما الواجب فما اختص بثلاثة أصناف وهم الأهل والإخوان والجيران، سئل الأحنف بن قيس عن المروءة، فقال: صدق اللسان ومؤاساة الإخوان وذكر الله تعالى في كل مكان. وقال بعض حكماء الفرس صفة الصديق أن يبذل لك ماله عند الحاجة ونفسه عند النكبة ويحفظك عند المغيب. ورأى بعض الحكماء رجلين مصطحبين لا يفترقان، فسأل عنهما فقيل: هما صديقان، فقال: ما بال أحدهما فقير والآخر غني. وقال الإمام علي: ليس حسن الجوار كف الأذى بل الصبر على الأذى، وقال بعض الحكماء: من أجار جاره أعانه الله وأجاره، وقال بعض الشعراء:
وللجار حق فاحترز من إذائه
وما خير جار لا يزال مؤاذيا
وقال بعض الشعراء:
حق على السيد المرجو نائله
والمستجار به في العرب والعجم
أن لا ينيل الأقاصي صوب راحته
حتى يخص به الأدنى من الخدم
إن الفرات إذا جاشت غواربه
روى السواحل ثم امتد في الأمم
وأما التبرع فإن كان بفضل الكرم وفائض المروءة فقد زاد على شروط المروءة وتجاوزها. وقيل لبعض الحكماء: أي شيء من أفعال الناس يشبه أفعال الإله؟ قال: الإحسان إلى الناس. قال بعض الأدباء: ثلاث خصال لا تجتمع في كريم حسن المحضر واحتمال الزلة وقلة الملال. وقال بعض العلماء: من هجر أخاه من غير ذنب كان كمن زرع زرعا ثم حصده في غير أوانه، وقال أبو العتاهية:
وشر الأخلاء من لم يزل
يعاتب طورا وطورا يذم
يريك النصيحة عند اللقاء
ويبريك في السر بري القلم
وقال بعض الحكماء: لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استطلاحه، وقال الأحنف: حق الصديق أن تحتمل له ثلاثا ظلم - الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة، وقال أبو نواس:
لم أؤاخذك إذ جنيت لأني
واثق منك بالإخاء الصحيح
فجميل العدو غير جميل
وقبيح الصديق غير قبيح
وقال بعض الحكماء: لا يفسدك الظن على صديق أصلحك اليقين له. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إياكم والمشارة فإنها تميت الغيرة وتحيي الغرة».
وقال بعض الحكماء: من فعل ما شاء لقي ما لم يشأ. وقال بعض الأدباء: من نالته إساءتك همه مساءتك. وقال بعض البلغاء: من أولع بقبح المعاملة أوجع بقبح المقابلة. وقال بعض الحكماء: من كنت سببا لبلائه وجب عليك التلطف له في علاجه من دائه. قال لقمان لابنه: يا بني كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر هل تطفأ إحداهما الأخرى وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار، وقال البحتري:
وأقسم لا أجزيك بالشر مثله
كفى بالذي جازيتني لك جازيا
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الناس كشجرة ذات جنى ويوشك أن يعودوا كشجرة ذات شوك إن ناقدتهم ناقدوك وإن هربت منهم طلبوك وإن تركتهم لا يتركوك، قيل: وكيف المخرج يا رسول الله؟ قال: أقرضهم من عرضك ليوم فاقتك».
وقال عبد الله بن العباس: العاقل الكريم صديق كل أحد إلا من ضره، والجاهل اللئيم عدو كل أحد إلا من نفعه، وقال: شر أعدائك داؤك وفي البعد عنهم شفاؤك . وقال بعض الحكماء: شرف الكريم تغافله عن اللئيم، وقيل: دواء المودة كثرة التعاهد. وقال بعض الحكماء: رغبتك فيمن يزهد فيك ذل نفس، وزهدك فيمن يرغب فيك صغر همة. وقال بزرجمهر: من تغير عليك في مودته فدعه حيث كان قبل معرفته. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تترك صديقك الأول فلا يطمئن إليك الثاني، يا بني اتخذ ألف صديق والألف قليل ولا تتخذ عدوا واحدا والواحد كثير. وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما تقول في العفو والعقوبة؟ قال: هما بمنزلة الجود والبخل فتمسك بأيهما شئت، وقال الشاعر:
إذا أنت لم تترك أخاك وزلة
إذا زلها أوشكتما أن تفرقا
وقيل في منثور الحكم: لا تأمنن لملول وإن تحلى بالصلة وعلاجه أن يترك على ملله فيمل الجفاء كما مل الإخاء، وإن كان لزلل لوحظت أسبابه، فقد حكي عن خالد بن صفوان أنه مر به صديقان له فعرج عليه أحدهما وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: نعم عرج علينا هذا بفضله وطوانا ذلك بثقته بنا، وقال مسلم بن قتيبة لرجل اعتذر إليه: لا يدعونك أمر تخلصت منه إلى الدخول في أمر لعلك لا تخلص منه. وقال بعض البلغاء: من لم يقبل التوبة عظمت خطيئته ومن لم يحسن إلى التائب قبحت إساءته. وقال بعض الحكماء: الكريم أوسع المغفرة إذا ضاقت بالمذنب المعذرة، وقال بعض الشعراء:
العذر يلحقه التحريف والكذب
وليس في غير ما يرضيك لي إرب
وقد أسأت فبالقمى التي سلفت
إلا مننت بعفو ما له سبب
وقال بعض الحكماء: شافع المذنب خضوعه إلى عذره، وقال بعض الشعراء:
اقبل معاذير من يأتيك معتذرا
إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره
وقد أجلك من يعصيك مستترا
وقد قيل: من سل سيف البغي أغمده في رأسه. وقال بعض الحكماء: من عاشر إخوانه بالمسامحة دامت له موداتهم.
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما كتب له منها» وقال: «ألا أدلكم على شيء يحبه الله تعالى ، قالوا : بلى يا رسول الله، قال: التغابن للضعيف».
وحكى ابن عون أن عمر بن عبيد الله اشترى للحسن البصري إزارا بستة دراهم ونصف فأعطى التاجر سبعة دراهم، فقال: ثمنه ستة دراهم ونصف، فقال: إني اشتريته لرجل لا يقاسم أخاه درهما.
حكي أن فتى من بني هاشم تخطى رقاب الناس عند ابن أبي داود، فقال: يا بني إن الآداب ميراث الأشراف ولست أرى من عندك من سلفك إرثا.
وأما الإفضال فنوعان: إفضال اصطناع، وإفضال استكفاف ودفاع، فأما إفضال الاصطناع فنوعان: أحدهما: ما أسداه جودا في شكور، والثاني: ما تألف به نبوة نفور، وقال بعض الحكماء: أقل ما يجب للمنعم بحق نعمته أن لا يتوصل بها إلى معصية، وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
يبقى الثناء وتذهب الأموال
ولكل دهر دولة ورجال
ما نال محمدة الرجال وشكرهم
إلا الجواد بماله المفضال
لا ترض من رجل حلاوة قوله
حتى يصدق ما يقول فعال
وأما إفضال الاستكفاف فلأن ذا الفضل لا يعدم حاسد نعمة ومعاني فضيلة فإن غفل عن استكفاف السفهاء، وأعرض عن استدفاع أهل البذاء صار عرضه هدفا للمثالب وحاله عرضة للنوائب، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما وقى المرء به عرضه فهو صدقة». وامتدح رجل الزهري فأعطاه قميصه، قال رجل: أتعطي على كلام الشيطان؟ فقال: من ابتغى الخير اتقى الشر، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك».
وقال الشاعر:
مولى المكارم يرعاها ويعمرها
إن المكارم قد قلت مواليها
وقال أبو تمام:
قوم تراهم غيارى دون مجدهم
حتى كأن المعالي عندهم حرم
وقال الراعي:
ومن يغمر بمكرمة فإنا
سنناها لأيدي الفاعلينا
وإليك بعض أبيات في وصف المروءة وأربابها:
عشق المكارم فهو معتمد لها
والمكرمات قليلة العشاق •••
تلذ له المروءة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغرام •••
خدم العلا فخدمته وهي التي
لا تخدم الأقوام ما لم تخدم •••
ليس له عيب سوى أنه
لا تقع العين على مثله •••
ما كنت في غاية إلا سبقت ولا
طال المدى بك إلا زدت إحسانا •••
وحزت بهم لا بل بنفس ابن حرة
مآثر يحصى دون إحصائها الرمل •••
الناس عند علي حين تذكره
كالشوك يذكر بين الورد والآس •••
فما أحسن الدنيا وفي الدار خالد
وأقبحها لما تجهز غازيا •••
تنافس الناس في أيام دولته
فما يبيعون ساعات بأعوام •••
إذا خفي القوم اللئام وجدتني
مقارن شمس في المجرة أو بدر •••
ونفسك أكرمها فإنك إن تهن
عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما •••
لبست من الحوادث كل ثوب
سوى ثوب المذلة والهوان •••
نهين النفوس وهون النفوس
يوم الكريهة أوفى لها •••
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم
ولن تكرم النفس التي لا تهينها •••
قال معاوية لقرشي: ما المروءة؟ قال: إطعام الطعام وضرب الهام، وقيل: المروءة أن تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، وجاء في القرآن:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (النحل: 90)، وقيل: الحسب إحصاء المكارم والنسب إحصاء الآباء. وقال عمرو بن معدي كرب في مدح قوم كرام: نعم القوم عند السيف المسلول والخير المسئول والطعام المأكول.
وقف أعرابي على قبر عامر بن الطفيل، فقال: لقد كنت سريعا إذا وعدت بطيئا إذا أوعدت وكانت هدايتك هداية النجم وجرأتك جرأة الشهم، وأخبر بعض الحكماء عن صاحب له، فقال: عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه فكان لا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد.
وقال رجل للمهدي: إنك ليوسفي العفو إسماعيلي الصدق شعبي الرفق سليماني الملك داودي الفضل، وقال الشاعر:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
الوعد والإنجاز والمطل
قال المهلب يوصي ابنه: يا بني إياك والسرعة عند المسألة بنعم، فإن مدخلها سهل ومخرجها وعر، واعلم أن (لا) وإن قبحت فربما أفرحت فإذا سئلت ما قدرت عليه فاطمع ولا توجب وإذا علمت معذرة فاعتذر فالإتيان بالعذر الجميل خير من المطلب الطويل.
قيل: من كثر وعده ووعيده اجترأ عليه عدوه وصديقه، وقال العتابي :
لحسن اعتذار المرء أوفى لعرضه
من الذم من توكيد وعد يماطله
وقال المتنبي:
وفي اليمين على ما أنت واعده
ما دل أنك في الميعاد متهم
وعد أبو الصفر أبا العيناء بشيء، فتقاضاه، فقال: غدا، فقال له: إن الدهر كله غد فهل عندك وعد يخلو من المعاريض.
وللخوارزمي في مماطل:
إذا أضحى فموعده مساء
وأذا أمسى فموعده ضحاء
لابن الرومي:
طال المطال متى الوفاء فلا خلو
د فحاجة أو رد يأس ينفع
واعلم بأني لا أسر بحاجة
إلا وفي عمري بها متمتع
قيل من بذل لك حلو مقاله ومر نواله فهو عدوك المبين، وقيل لأبي العيناء كيف تركت فلانا مع قومه؟ قال:
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (النساء: 120)، وقال الشاعر:
بذل الوعد للأخلاء سمحا
وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين
ويأبى الإثمار كل الإباء
وقال الصاحب: سأنجز الوعد حتى ترى الطل وابلا والهلال بدرا كاملا.
وقف بعضهم على أبي داود وأنشد:
حتى متى أنا موقوف على وجل
بين السبيلين لا ورد ولا صدر
فقضى حاجته.
وقيل: أورقت نعمك فليثمر كرمك، وقال جحظة البرمكي:
إذا كانت صلاتكم رقاعا
تخطط بالأنامل والأكف
ولم تكن الرقاع تجر نفعا
فها خطي خذوه بألف ألف
وللمتنبي:
وإن تأخر عني بعض موعده
فما تأخر آمالي ولا تهن
هو الوفي ولكني ذكرت له
مودة فهو يبلوها ويمتحن
وقيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل.
سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده ثم لم ينجزه، فقال: أخلفت، فقال أبو عمرو: فمن أولى بالغم، قال الرجل: أنا، فقال: بل أنا لأني وعدتك فأبت بفرح الوعد وأنا أبت بهم الإنجاز، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة فلقيتني مدلا ولقيتك محتشما.
قيل لبعضهم: كيف حالك مع فلان؟ فقال: لا أحصل منه إلا على دق الصدر والجبهة، فقيل: كيف، قال إذا سألته دق صدره، وقال: (أفعل) وإذا عاودته وتقاضيته دق جبهته، وقال: (لا قوة إلا بالله نسيت).
الشفاعة والشفعاء
قال الله تعالى:
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها (النساء: 85)، وقال: «الشفاعة زكاة ونصرة اللسان فوق نصرة السنان». وكان زياد يقول لأصحابه: اشفعوا لمن وراءكم فليس كل من أراد السلطان وصل إليه ولا كل من وصل استطاع أن يكلمه، وقال أبو تمام:
وإذا امرؤ أسدى إلي صنيعة
من جاهه فكأنها من ماله
قيل لشعبة: أفنيت مالك وأخلقت جاهك في حوائج الناس، فقال: أصونهما للتراب، وقال أحدهم يصف شفيعا:
ما تبالي وذا شفيعك لو كن
ت كعاد في غيها وثمود
ذاك لو كان في المعاد شفيعا
رضي الله عن جميع العبيد
وقال آخر:
ولو أن لي في حاجة ألف شافع
لما كان فيهم مثل جودك شافع
وقال جحظة البرمكي:
وما لي حق واجب غير أنني
إليكم بكم في حاجتي أتوسل
Shafi da ba'a sani ba