فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر بنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها صم الصلاب لانبجست مع وجه يظلم من نوره ضياء العقول، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير، فهمت بها أي هيام، وخررت ساجدا، فأطلت من غير تسبيح فقالت: ارفع رأسك أيها الشاب ولا تذم بعدها برقعا، فلربما انكشف عما يصرف الكرى، ويحل القوى، ويطيل الوجد والجوى، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق إلى أن آن وقت الرحيل، فانصرفت من عندها وأنا أقول:
يا حسرتا مما يجن فؤادي
أزف الرحيل بعبرتي وبعادي
أبو نواس والجارية جنان
كان أبو النواس يحب جنان حبا قاتلا عظيما، وكانت هي فتاة حسناء، أديبة، عاقلة، ظريفة، تعرف الأخبار، وتروي الأشعار، فرآها أبو النواس عند مولاها الوهاب، فاستحلاها ووقع حبها في قلبه إلى أن صار يردد ذكرها في كل مكان، فقيل له يوما: إن جنان عازمة على الحج، فقال: إني على إثرها أحج، فلما علم أنها خارجة سبقها وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه إلا خروجها، فصار يسترق منها النظرات ويبغي الفرص فلا يجد لها سبيلا، فلما عادت عاد معها وأنشد يقول هذه الأبيات:
ألم تر أنني أفنيت عمري
بمطلبها ومطلبها عسير
فلما لم أجد سببا إليها
يقربني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان
Shafi da ba'a sani ba