ثمة شيء ما لم أتمكن من فهمه بعد، فقررت أن أعرف أكثر عن مؤلف الرواية التي أنهيتها مؤخرا «الدوامة»، فكتبت في محرك البحث: «سارتر»، وعلى خلاف ما كنت أظن فقد ظهرت نتائج كثيرة جدا للبحث، وإذ ب «سارتر» ليس كاتب روايات فحسب، وإنما صاحب الفلسفة «الوجودية»، وهي فلسفة تركز على الإنسان وتعلي من قيمته، وأنه أقدم شيء في الوجود، وما قبله عدم، وأن عليه أن يثبت نفسه أمام كل العوائق والحدود، أما القيم فهي غير ثابتة، وليس لأحد أن يفرض قيما أو أخلاقا معينة على الآخرين. «الجحيم هو الآخر» هذا عنوان أحد أعمال الكاتب نفسه، هذا صحيح تماما؛ فلو كنت وحدي لأصبحت أكثر سعادة. أعجبني الجزء الأخير المتعلق بالحرية، وسرحت قليلا بخيالي، أخذت أفكر ماذا لو كنت حرة بالمطلق فلا سلطة لأحد علي؟ ماذا كنت سأفعل ؟ وابتسمت للفكرة، كنت سأرتاد الجامعة بلا شك، كنت سأسافر، وأعمل، سأسكن وحدي، لا، لا أريد أن أكون وحدي. وفي هذه اللحظة تذكرت وجه الشاب ذي الشعر الداكن الذي كان يعيرني الكتب، «أريد أن أكون معه!» وعند هذه الفكرة احمرت وجنتاي فحركت رأسي أحاول طرده من خيالي، وعدت إلى «الدوامة».
كنت أشعر بضيق، فلم أصل بعد إلى ما كنت أبحث عنه، عن ذلك الشيء الذي حجب عني الحقيقة وأبعدني عنها، فاتصلت بجارنا الدكتور نور واتفقت معه على الحضور. أخذت معي أختي فاطمة وذهبت إليه مساء. عندما فتح لي الباب، بدا لي مبتهجا، فسألته: «كيف حالك اليوم دكتور؟» قطب جبينه ثم ابتسم وقال: «أما عن حالي فأنا على خير ما يرام، وأما عن ندائك لي بدكتور فلم يرق لي، هذه كلمة لا أحب سماعها إلا في الجامعة، وأنت جارتي، وهذا بيتي.» فقلت له: «أناديك عمي إذن.» ضحك وقال: «بالنظر إلى عمرينا فأنا بعمر جدك.» فقلت بعفوية: «أنت إذن جدو نور.» فقال مبتسما: «جدو نور»، ستكونين أنت أول من يناديني بذلك». وقادنا إلى غرفة المكتبة، جلسنا على الطاولة المستديرة، وقال: «أرى أنك أنهيت الرواية بسرعة كبيرة.» قلت: «نعم، كانت ممتعة جدا، ومحتواها يختلف كثيرا عن أي شيء قرأته سابقا.» ابتسم جدو وقال: «وكيف وجدتها؟» أجبته: «رائعة، أقصد أنها أعطتني فكرة عن فلسفة سارتر الوجودية، وقمت بالبحث عنها على الإنترنت، وتوصلت إلى فكرة أنه لا يوجد خير أو شر محض، وبما أنني لا أعتقد بشيء حتى أجربه، فإنني إلى الآن لم أتبن هذه الفكرة.» رفع جدو نور حاجبيه مستحسنا كلامي وقال: «أنت فتاة ذكية، لكن هل لي أن أسألك كيف ستجربين هذه الفكرة؟» قلت: «لقد فعلت ذلك بالفعل.» قال: «حقا، كيف؟» فحكيت له قصة الدروس الدينية وكيف تركتها ثم عدت إليها وما حدث في الدرس الأخير من مواجهة بيني وبين «الآنسة»، فلم يقل شيئا، بل ظل صامتا، فقلت وقد نفد صبري: «ما رأيك؟ ماذا أفعل؟» أجاب: «طالما أنك بدأت بالتجربة فأكمليها إلى النهاية، وأخبريني بالنتائج لاحقا. هل أعطيك كتابا آخر؟» ولم ينتظر ردي بل قام إلى المكتبة واستل كتابا وناولني إياه وقال: «خذي، هذه رواية جديدة، وكاتبها برازيلي معاصر، أظنك ستحبينها، اقرئيها ولا تعودي حتى الأسبوع المقبل.» أمسكت بالرواية: «الخيميائي»، قطبت جبيني فلم أفهم العنوان، لكنني لم أكترث كثيرا فوضعتها في حقيبتي؛ فقد كنت ما زلت أفكر فيما سأفعله مع تجربتي في الدروس الدينية، وكم كنت أود الحديث معه أكثر عن الموضوع، لكنني فوجئت به ينادي أختي فاطمة: «هيا يا حلوة، ستعودان إلى المنزل.» وناولها قلما ذهبيا وقال: «أتعرفين أن هذا قلم سحري؟» قالت أختي وقد شدتها نبرته: «حقا؟ ماذا يفعل؟» أجاب: «إنه يجلب السعادة لكل من يستعمله، ولا يفارقه حتى يمكنه من القراءة والكتابة بأجمل الخطوط.» أمسكت فاطمة القلم بيديها الصغيرتين وأخذت تنظر إليه بسعادة. غمزني جدو وربت على كتفي وقال: «هيا، هيا حان وقت الرحيل.» أمسكت بيد أختي وعدنا إلى البيت.
وفي ليلة ذلك اليوم لم أتمكن من النوم؛ فغدا هو موعد الدرس الديني. كان علي أن أقرر هل أذهب أم لا؟ وإذا ذهبت فماذا علي أن أفعل؟ هل أكمل المواجهة؟ أم أعود أدراجي؟ أخذت أفكر كيف ستنظر إلي النسوة والآنسة تحديدا؟ وبعدها رحت أغط في النوم.
في الصباح فتحت عيني على صوت فاطمة تهزني من كتفي وتقول: «لقد نجح القلم الذهبي، تمكنت أخيرا من كتابة الهمزة!» أختي فاطمة عمرها ست سنوات، كانت تعاني من مشكلة في كتابة المنحنيات في الأحرف والأرقام، ولذلك فقد كانت تكتب الهمزة على شكل خط أفقي صغير فوق الألف. لم أكترث لما قالته، وأبعدت دفترها عني، وقمت وأمر واحد يشغلني: ماذا سأفعل اليوم في الدرس؟
بعد الغداء ركضت إلي فاطمة ومعها دفترها، قالت: «هل أخبرتك عن القلم السحري؟» أجبتها بشرود: «نعم فعلت، مبارك عليك.» وأبعدتها عني، ثم نظرت إلى عينيها اللتين كانتا تفيضان إثارة، فرأيتهما انكسرتا من ردة فعلي الباردة. فجأة تبدى لي شيء كنت غافلة عنه تماما، أمر تمكنت أختي الصغيرة من الوصول إليه بينما عجزت أنا عنه. أمسكتها من يدها وقلت: «أريني دفترك مرة أخرى، أنا آسفة، لم أنتبه في المرة السابقة.» تهلل وجهها وعاد البريق إلى عينيها، وسارعت إلى القول: «هذا هو القلم الذي تمكن من كتابة الهمزة، إنه حقا قلم سحري!» أجبتها: «أتعلمين ماذا قال لي جدو نور عندما ذهبت؟» نظرت إلي متعجبة، أكملت: «قال إن القوة السحرية التي في القلم تنتقل إلى اليد التي تكتب به، فتغدو قادرة على فعل العجائب.» «صحيح؟» أجابت أختي وهي تنظر إلى يدها، قلت: «بالتأكيد.» وأخذت القلم من يدها وأعطيتها قلم رصاص، وقلت: «والآن، جربي بنفسك، سترين كيف أن يدك أصبحت يدا سحرية.» أمسكت فاطمة القلم بتردد وأخذت تخط على الورقة حرف الألف وفوقه الهمزة، وإذا بها تكتبه بسلاسة ووضوح، ويا لفرحتها حين فعلت ذلك! أخذت تقفز وتصرخ، وشاركتها الأمر ذاته وتعانقنا لنجاحنا الكبير، ولربما علت أصواتنا قليلا، فاندفعت أمي للحضور متسائلة عن سبب صياحنا، أجبتها وأنا أغمز أختي: «لا شيء، سوى أن فاطمة أصبحت تمتلك قوى سحرية!» وضحكنا.
كيف غفلت عن ذلك؟ عن أن الخير الذي كنت أبحث عنه في الآخر السيئ هو انعكاس لما في ذاتي، ولولا النور الذي في، لما رأيت النور الذي في الآخر؛ فما هو إلا صورة عني، وعندما أتلمس خيري سأجد بالتأكيد خير غيري، والعكس بالعكس صحيح؛ فحين لا نرى إلا الشر والسوء عند غيرنا فهذا لأننا لا نراهم إلا من ناحية النقص الذي فينا، وكذلك فعلت أختي بطبيعتها الحساسة لكن بصورة منعكسة، حين آمنت بقوة القلم السحرية انتقل إليها إيمانها بذاتها، أعجبتني الفكرة وتحمست لها كثيرا، فكتبت في صفحتي على الفيسبوك:
لتجد الخير في غيرك، عليك أن تجد خيرك.
سارعت إلى أمي التي كانت مستلقية وبادرتها: «متى نذهب إلى الدرس؟» حملقت في وقالت: «نذهب؟ وهل ستأتين معي لتحرجيني مجددا بكلامك الغريب الذي لا أعرف من أين تأتين به؟ لن أصحبك معي اليوم.» أجبتها: «كلا، كلا، أرجوك خذيني معك، أعدك أن أكون طيعة كما تريدين.» أجابتني وهي ترمقني بنظرة ريبة: «حسنا ، لكن لا تفتحي فمك بحرف.» لم أكن أدري ماذا سأفعل، كنت أريد الذهاب وحسب.
وفي الوقت المحدد ذهبت مع أمي وجلست بجوارها وسط النسوة اللاتي أخذن يتهامسن وهن يرمينني بسهام نظراتهن الحادة. كنت أبتسم لكل واحدة منهن وأترقب حضور الآنسة، ولم يطل انتظاري كثيرا؛ فقد أطلت وسط ترحيبات النسوة وسلاماتهن الحارة، اتخذت مكانها في صدر الغرفة، وسلمت علينا، وأخذ قلبي يخفق، ماذا ستفعل حين تراني؟ هل ستطردني؟ أم تتجاهلني؟ هل ستعنفني؟ كنت مرتابة في كل شيء، ولم أكن مطمئنة إلا لأمر واحد وهو أن قلبي اليوم مليء بالحب، أخذت نبضات قلبي تتسارع أكثر فأكثر، وشعرت ببرودة في أطرافي على الرغم من حرارة الجو، وأخيرا في لحظة واحدة التقت أعيننا، ومثل شحنتين متماثلتين تباعدت نظراتنا. ابتدأت الآنسة الدرس، وأحسست برجفة خفيفة في صوتها، وبعد المقدمات والدعاء قالت: «اليوم ستتفضل الآنسة الصغيرة لتلقي الدرس؛ فهي، كما تعلمن، شابة متعلمة وتحب أن تتطاول على من هن أكبر منها.» وأشارت إلي، والتفتت جميع النسوة ما بين متشككة وساخرة. نظرت إليها؛ فقد بدا واضحا أنها كانت تتحداني، وحين هممت بالكلام، قرصتني أمي وقالت وهي تفتعل ابتسامة على وجهها: «أنت بالتأكيد تمازحين ابنتي؛ فهي لم تتلق تعليما دينيا لائقا لكي تلقي درسا، وعن أي شيء ستتحدث؟ إنها لا تعرف، كما أنه لا يجوز لأحد أن يتكلم بحضورك.»
آلمتني كلمات أمي أكثر من أي شيء آخر، لكنها جعلتني أنتصر على ترددي، فسارعت بالوقوف بينما جميع النسوة جالسات، وقلت موجهة الكلام إلى أمي: «ولم لا يا أمي؟ لم لا يمكنني أن أتحدث؟ فقد جادل بعض الصغار الرسول عليه الصلاة والسلام في حضوره.» ثم التفت إليهن، ونظرت في أعينهن واحدة واحدة، وأكملت وأنا أشعر بطاقة جميلة: «لست أدعي العلم ولا الفهم ولا الفقه، ولم أتلق تعليما دينيا، ولم أحصل على شهادات، ولا أحفظ القرآن الكريم كاملا، لكنني أوقن أن لدي قلبا يحب خالقه. لا أطلب منكن تصديقي؛ فيكفيني أن الله يعلم، وأنني أعلم أن في قلب كل واحدة منكن حبا مماثلا. لست هنا لأخطئ واحدة منكن، بما فيكن أنت أيتها الآنسة، ولو كان الموقف الذي حصل في الدرس السابق قد أساء إليك أو إلى أي واحدة منكن فأنا أعتذر. أما وقد سنحت لي هذه الفرصة لأنال شرف الحديث إليكن فأود القول إننا جميعا متساوون، وليس لأحد الحق في تفضيل نفسه أو غيره على الآخرين، الله وحده يفعل ذلك لأنه وحده المطلع على القلوب، وا... والسلام عليكم.»
Shafi da ba'a sani ba