قد تعادل ساعات قليلة تقضيها برفقة مميزة أعواما بأكملها؛ لأنها تصنع ذاكرتك.
إنه يتحدث عن لقائنا بالتأكيد، يا للرومانسية! أتمنى أن يعني ذلك أنه غفر لي تصرفي الغبي، هل أضغط على زر الإعجاب أو أعلق؟ بماذا أعلق؟ فكرت طويلا، ثم اخترت أن أضغط زر الإعجاب وحسب، وكذلك فعلت، فوجدته متصلا وبدأ حواره معي: صباح الخير. - صباح النور. - ما شاء الله، ما هذا النشاط؟ دائما تستيقظين باكرا؟ - تقريبا. - هل أنت دائما هكذا؟ - ماذا تقصد؟ - لا تجيبين بوضوح، لا أسمع في إجاباتك: نعم أو لا، تكررين فقط: ربما، أحيانا، لكن ... - هل يزعجك هذا؟ - أحب أن أعرفك أكثر، أكثر وأكثر. - طيب، لا بأس. - عفوا. - على أي شيء؟ - ألن تشكريني على الجولة السياحية صباح أمس في المتحف؟ - ههههه، طيب يا سيدي، شكرا. - عفوا يا سيدتي. كيف وجدت المتحف؟ - رائعا جدا، لم أكن أتصور أن العمل فيه مثير للاهتمام، وأنه بهذا الغنى والجمال حتى يوم أمس، لقد تمكنت من تغيير نظرتي تماما. - ممتاز، هل لي أن أعرف ماذا كنت تعتقدين؟ - حسنا، كنت أظن أنه ممل جدا، وأن اليأس وحده هو ما يقود الإنسان للعمل فيه؛ لهذا فقد كنت أشفق عليكم. - ههههه. - لم تضحك؟ - على كلماتك. - لقد تعلمت درسا. - وما هو يا شاطرة؟ - هل تهزأ بي؟ - أبدا والله، قولي ماذا تعلمت؟ - ألا أحكم على شيء قبل معرفتي به. - جميل. - شيء أو شخص . - طيب، جميل أيضا. - وأنت؟ - ماذا؟ - كيف كانت جولتك يوم أمس؟ - كنت سعيدا بأني شاركت شيئا من أسرار طفولتي لشخص مميز جدا وحساس جدا. - ... - سما. - ...؟ - أريد أن نلتقي مجددا، لدي شيء مهم لأخبرك إياه، اليوم ما رأيك؟
أخذ قلبي يخفق بشدة، وعضضت على إصبعي، وأخذت أتأمل كلماته على الشاشة. رأيت وجهه مبتسما ينظر إلي بعينيه الحانيتين، غمرتني مشاعر غريبة أختبرها للمرة الأولى من خوف ورهبة وإثارة. لم أعرف بم أجيبه، إنه ينتظر، علي أن أفعل شيئا! وبسرعة، ومن غير تفكير كثير، قمت بتسجيل خروجي وأطفأت الجهاز.
6 «ليست مصادفة أبدا» قال لنفسه مبتسما لصديقه، مظهرا ملامح المفاجأة وكأنها حقا مصادفة؛ فهو يعرف تماما لم تسوقه قدماه ليجلس مساء كل يوم في مقهى مطل على بيت صديقه، وعلى شباك مكتبته تحديدا؛ فهو يعلم أنه لا يفتح النوافذ أبدا إذا كان وحده، فإذا وجدها مفتوحة فهذا يعني أنه يستضيف زائرا. وهذا المساء وجد النوافذ مفتوحة فاتجه من غير تردد إلى بيت صديقه وطرق الباب، إنه يعلم أنها هنا، وها قد حان الوقت المناسب ليراها مرة ثانية.
وبما أن بيت صديقه الذي يعرفه جيدا ليس فيه غرفة أخرى لاستقبال الضيوف، فإنه حتما سيدخله إلى المكتبة، إلا إذا قرر صديقه فجأة أن يكون فظا ويطرده من بيته، وهذا أمر لن يفعله مطلقا. كان واثقا جدا، لكنه انزعج قليلا من ابتسامة ماكرة انطوت عليها ملامح صديقه وهو يصافحه هامسا له: «إنها هنا، ما هذه المصادفة؟» لكنه لن يعبأ بذلك؛ فالوقت غير مناسب أبدا للانزعاج.
وكما خطط تماما، قاده صديقه إلى المكتبة، وفور دخوله وقعت عيناه عليها، كانت جالسة على الكرسي أمام المكتب الخشبي، حتى إنه لم يلحظ وجود أختها فاطمة الصغيرة جالسة على السجادة. وقفت فور دخوله، ابتسم بثقة واتجه إليها، مد يده ليصافحها، لكنها ابتسمت وأطرقت، آه صحيح، إنها لا تصافح! يا للجمال المتحدر عن إطراقها!
سارع نور بالقول منقذا الموقف: «تفضل سليمان بالجلوس، البيت بيتك.» جلس قبالتها مباشرة، وهو لا يرفع عينيه عنها، «كيف حالك؟ سما على ما أظن؟» قال ذلك مصطنعا البراءة. لم تجب، بل اكتفت بهز رأسها وابتسامة خفرة ترتسم على محياها، وساد الصمت. كان يراقبها، تعبث بصفحات كتاب بين يديها، والارتباك يرشح عنها، اصطنعت السعال مرة، وراحت تنقل نظرها إلى الأعلى مرة وإلى الأسفل أخرى. كان مبتهجا حد الطرب بهذه الصغيرة الملائكية أمامه، وفي قلبه إيقاعات راقصة من الفرح الغامر، وفي نظراته فخر المنتصر بقرب وقوع الفريسة.
وقفت فجأة وقد أحاط بها الحرج من كل جانب، وحين فتحت فمها للكلام سارع إلى القول: «الإنسان ذلك المجهول، كتاب رائع، هل أنهيت قراءته؟» تفاجأت ونظرت إلى الكتاب بين يديها وقالت: «آه، الكتاب، نعم، أقصد ليس تماما، بعض المقاطع تحتاج وقتا لأفهمها جيدا، لكن أعتقد أنه يجب أن أنصرف، لقد تأخرنا.» «إنها ذكية ولبقة» فكر سليمان، وقال: «يعني إذا حضر الشياطين غادرت الملائكة؟» ارتبكت مجددا وابتسمت وقالت: «لا، بالطبع لم أقصد، إنما ...» قاطعها نور هذه المرة وقال: «اجلسي يا سماء، لم تشربي شيئا بعد.» كان للهدوء الذي نطق به نور كلماته قدرة كبيرة في بث الاطمئنان في قلبها فعادت لتجلس، وخرج نور ليجلب شيئا. «سأكافئك على هذا يا صديقي» فكر سليمان في نفسه وهو يشعر بالامتنان لمغادرة نور المكتبة. قال فورا مركزا نظره عليها يراقب ردة فعلها على كلماته: «اسمك متميز يا سماء مثلك، إنه يشبهك.» ابتسمت وأطرقت مجددا، أخذت نفسا عميقا، أو هكذا تخيل، ثم نظرت إليه مباشرة في عينيه، الأمر الذي فاجأه حقا وقالت: أشكرك، لكنك لا تعرفني. - بلى، قرأت منشوراتك كلها على «الفيسبوك»، وتعليقاتك أيضا على أصدقائك. - حسنا، ربما. - ماذا؟ - هل تعتقد أنك بكلمات قليلة ستعرف إنسانا على الحقيقة؟ - أنت على حق، لكن كما يقولون: المكتوب باين من عنوانه. - كلنا على الفيسبوك صالحون ومثاليون وحكماء أيضا. - أنت لست كذلك؟ - لم أقل هذا. - ماذا إذن؟ - ماذا تريد؟ - أنت ذكية.
قال ذلك وكان نور قد حضر ومعه صينية عليها بعض المشروبات الغازية وزجاجات العصير، اكتفت هي بالابتسام. قال نور وهو يرمق صديقه: «تفضلوا العصير، لا شيء من واجبكم.» بعدها أمسك نور بزمام الجلسة وراح يتحدث عن بعض أفكار الكتاب، وقاطعه سليمان مرات في محاولة منه لاستعراض مواهبه ومهاراته. أما سماء فكانت صامتة معظم الوقت، وقبيل غروب الشمس استأذنت بالانصراف وغادرت مع أختها.
وحين غادرت التفت سليمان إلى صديقه فرآه شابكا يديه على صدره وهو يرفع حاجبيه مبتسما وكأنه يقول: ها قد فعلتها!
Shafi da ba'a sani ba