لم يكن أبي متعلما، كان حرفيا يعمل في دباغة الجلد، المهنة التي ورثها عن أبيه وجده، وكان يعمل فيها هو وأعمامي كلهم ما عدا عمي الكبير الذي قرر ترك هذا العمل، فقرر الجميع تركه لأنه تخلى عن العائلة وتمرد عليها، أو هكذا قالوا. لم نعد نسمع عنه شيئا، أنا شخصيا لم أره في حياتي، وصدقوني لم يكن أحد يتحدث عنه إلا بالسوء. أما أبي فكان على عكسه تماما، كان الولد الطائع المرضي الوالدين، كما كانت تقول جدتي دوما. على كل حال كان أبي متدينا جدا، وكذلك أمي، وهل لها أن تكون غير ذلك؟ أذكر أنني منذ أن وعيت على الدنيا وأمي تضع نظاراتها وتقرأ القرآن، وأبي لا تفوته صلاة في المسجد، أما أنا فكنت أرتدي الحجاب منذ أن أصبحت في العاشرة من عمري، أو قبل ذلك بقليل، وكنت أصلي مع أمي، ولا أتأخر أبدا عن الصلاة. أتذكر أن المعلمة قالت لنا مرة: «إن الصلاة هي صلة بين الإنسان والله، فإذا أراد الإنسان أن يحدث ربه فعليه أن يصلي.» لكنني كنت أعجب من نفسي، لطالما خاطبت الله في صلاتي لكنه لم يكن يجيبني، كنت دائما أشعر بالإحباط، وكدت أقتنع حقا أن الله لا يسمعني، أو أنه لا يكترث بي! فقررت أن أخاطبه بطريقتي الخاصة، فقد كنت أدفن رأسي في الوسادة، وأتذكر كل شيء جميل حصل معي في ذلك اليوم، وأعلم أن الله هو من ساقه لي، كنت أقول له: «شكرا.» وكان يقول لي: «عفوا.» وهكذا أحببت صلاتي أكثر، وابتعدت عن تلك الصلاة أكثر، فإذا كانت الصلاة لا تصلني بالله، فلماذا أصلي؟ كانت هذه الفكرة تراودني كثيرا، وكبرت معي حتى قررت أخيرا ترك الصلاة إلى أن أتمكن يوما من سماع صوت الله فيها.
كانت أمي تصطحبني إلى دروس الدين التي تلقيها «الآنسة»،
1
وكنت أعجب من أمي ومن جميع النسوة اللاتي كن يبقين الحجاب على رءوسهن على الرغم من عدم وجود رجال في البيت! كانت «الآنسة» تتحدث بنبرة شجية فيها الكثير من الحزن، ويحدث كثيرا أن تبكي النساء من حديثها، في الوقت الذي كنت فيه أتابع نقوش السجادة التي تتوسط الغرفة، كانت رائعة الجمال، فيها الكثير من الزخارف والنقوش والألوان المتداخلة التي كانت تجعلني أديم تأملها. لست وحدي؛ فكذلك كنت أرى أعين جميع النسوة على الأرض فقد أسرهن جمال السجادة، أو هكذا كنت أظن!
ما زلت أذكر مرة حين كنت ساهمة في تأمل السجادة، وإذا بالآنسة تصرخ بأعلى صوتها: «أنت!» كاد قلبي ينخلع من مكانه، حسبت أنها تخاطبني، وإذا بها تسمر نظرها على فتاة عشرينية نحيلة كانت تجلس بجواري، وقالت: «أنت، قومي معي إلى الغرفة المجاورة.» ارتجفت الفتاة، وحملقت بها والدتها بنظرات اتهام واستفسار، ومشت الفتاة ذليلة خلف الآنسة خارج الغرفة. علمت فيما بعد أن الآنسة طالبتها بالاعتراف بذنبها الذي عرفت به الآنسة عن طريق كشف الحجب عنها، وأمرتها بالتوبة والتطهر حتى يرتفع غضب الله عنها لتكون أهلا لحضور جلساتنا.
حين عادت الفتاة كانت آثار البكاء واضحة على وجهها، لست أدري أكان من الخوف، أم من الندم، أم من الشعور بالخزي؛ فقد كانت نظرات جميع النسوة تلتهمها، أما أنا فكنت أنظر إلى أعينهن وقرأت فيها التشفي والسخرية. قالت «الآنسة» بعد أن استوت على أريكتها الوثيرة: «الشهوة يا بناتي من رجز الشيطان، وعليكن كبحها حتى تصرفنها في الحلال مع أزواجكن، استغفرن الله، عل الله أن يغفر لكن.» ثم تابعت «الآنسة» مواعظها، وفي قلبي نما كرهي ونفوري منها، ومن يومها لم أعد أذهب مع أمي إلى هذه الدروس متحججة مرة بمرضي ومرة بدروسي. وصحيح أننا لم نكن نعرف بالضبط ذنب الفتاة ذلك اليوم، لكن كيف لك أن تخفي سرا كهذا في مجتمع نسائي قائم على النميمة؟ فقد قيل إنها تصاحب شابا، وقيل إنها تواعده في الحدائق، وإنهما يقيمان علاقة محرمة، كما قيل لي إنها تلتقي بأكثر من شاب. لكن من يقدر على التقاط الحقيقة من بين أفواه النساء وحكاياتهن الممزوجة بخيالاتهن، والمنسوجة بالكثير من التشفي أو الغيرة أو الحقد أو على الأقل بشهوة الحكي ونقل الأخبار، والشعور بالنشوة لرؤية السامعين ينشدهون استغرابا؟
هل يعقل أن يكون الله الذي يسمع صلاتي ويجيبني هو نفسه من يحل العقوبة واللعنة والغضب على تلك الفتاة البائسة؟ أم أن إلههم غير إلهي؟ أليس هو الرحمن الرحيم؟ لم أعد أريد أن أعبد الإله الذي في دروسهم ومواعظهم، عاهدت الله بيني وبين نفسي أن أبحث عنه يوما ما عندما أتمكن من الخروج وحدي، عندما أكبر، سأسافر وأبحث عنه؛ فهو بالتأكيد لا يقبع في سياط الواعظات والواعظين.
2
في الزيارة الأولى ذهبت مع والدي وقد كان ذلك في بداية العطلة الصيفية قبل عام بعد أن نلت شهادة الثانوية العامة. كنت أرغب في الالتحاق بالجامعة، لكن أبي لم يوافق، بحجة أنه لا فائدة من دراسة البنت، وأمام ما رآه مني من كآبة وحزن اقترح علي أن أرافقه إلى بيت جارنا الذي تفصله عنا ثلاث عمارات. كانت تنبعث من بيته رائحة تبغ قوية، ولا يكاد ضياء الشمس يتسلل عبر ستائره السمكية القاتمة. انقبض قلبي في البداية، إلى حين دخولنا غرفة المكتبة فقد كانت واسعة فسيحة تتوسطها طاولة خشبية مستديرة لماعة، وحولها كرسيان خشبيان، وعلى جدران الغرفة الثلاثة تنتصب أرفف الكتب التي تمتد من الأرض حتى قبيل السقف بقليل، وعند الجدار الرابع مكتب خشبي عليه مذياع خشبي، ومنفضة خشبية، وعلبة تبغ، والعديد من الغليونات، وبعض الجرائد، وبجوار المكتب كرسي خشبي هزاز عليه وسادة قديمة باهتة اللون. بدا كل شيء هنا مصنوعا من الخشب، وخلافا لتوقعاتي فقد كان كل شيء نظيفا ولامعا.
كانت رائحة التبغ هنا أقوى من الردهة فسعلت قليلا، انتبه إلي صاحب البيت وسارع إلى فتح الستائر والنوافذ وهو يعتذر. وما إن دخل نور النهار إلى الغرفة حتى اكتست الغرفة سحرا جديدا، أخذ الخشب المصقول يلتمع حولي، وازدادت ضخامة الكتب. ولاحظت أيضا أن أرضية الغرفة كانت من الخشب، كان الخشب يضفي على المكان دفئا خاصا، وحميمية محببة. وعندها فقط تبينت عن قرب ملامح جارنا، كان رجلا في أواخر الخمسين من عمره، قد غزت التجاعيد وجهه الأبيض الشاحب، لكنه مع ذلك كان مريحا وهادئا، بشعر فضي وعينين زرقاوين ضيقتين، وكان نحيلا يرتدي قميصا سماويا وسروالا داكن اللون، وفي يده اليمنى يرتدي خاتما بحجرة سوداء.
Shafi da ba'a sani ba