لم يعد لي من متنفس وسط هذه الكآبة سوى صديقتي الجديدة نتحدث معا على الهاتف يوميا تقريبا. ومع أن ظروفها في البيت كانت أكثر بؤسا مني لأنها محبوسة تماما، إلا أنني شعرت أن حاجتي إليها أكبر من حاجتها إلي. تقاربنا في أفكارنا كثيرا، تحدثنا عن مختلف الأشياء، وضحكنا وثرثرنا. كتبت في صفحتي على الفيسبوك:
مهما كانت الظروف فليس لك من ملجأ سوى الحب الخالص.
الفصل الرابع
1
في غرفته بقي وحيدا غريبا جاثيا على ركبتيه، غارقا في بحر من دموع وذكريات، وبقايا قصة حب، فقرر أن يستمر في صمته ووحدته؛ فحبهما لم يعلم به أحد، وكذلك ألمه وفجيعته لن يعلم بهما أحد، وغيابها من حياته أضاف إليها قدسية خاصة، فعاهد روحها على الصمت، وقرر الرحيل فما عاد يطيق أن يرى مملكة يعبق كل ركن فيها بشذاها لكن بلا ملكة، فجمع ما تبقى من ذكرياتها وخبأها في صندوق وسافر بعيدا. وها قد حان الوقت لينتحب، ليعالج ألما مؤجلا، ويبكي دموعا مخبأة كانت طي الكتمان زمنا طويلا، ليعيد نكت جرح رم على فساد فظل ينز وجعا وكآبة ونحولا.
تذكر كيف هاتفها ليلا أول مرة، وكيف أخبرها بحبه، تذكر صمتها وخوفها، ورعشة صوتها وعذوبة أنفاسها، كانت المرة الأولى والأخيرة التي يسمع فيها صوتها عبر الهاتف، ثم تذكر الاتصال الثاني وكيف كان متلهفا لسماع صوتها لكنه بدلا من ذلك سمع صوت سيدة قالت له موبخة: «يا ابني هذا الرقم لا تتصل به، حرام عليك أعراض بنات الناس، البنت عرسها بعد أسبوع، اذهب الله يهديك.» لحظتها انتهى كل شيء بالنسبة إليه، كم عاود الاتصال بعدها لكن الرقم كان خارج الخدمة كل مرة، ما الفائدة ولم يبق للأمل مطرح؛ فحبيبة الروح ستزف لرجل غيري؟ تلك اليدان الصغيرتان، كم أشتاق إليهما! كان يشتعل نارا كلما تخيلها في أحضان الغريب، نار ما عاد يطيق تحمل حريقها فترك كل شيء وغادر بعيدا.
على الأرض بقي زمنا، يقلب في صفحات ذاكرة ممزقة، يقرأ كلمات، ويتأمل صورة، ويشتم بقايا زهرة يابسة وعلبة عطر فارغة، ويقلب ورقة شوكولاتة ذابلة، ولكل منها سجل في الذاكرة، ومشهد من الحب لا يزال حيا ينبض في عالمه. جلس محاطا بجدران إسمنتية سميكة، الشبابيك مغلقة، والستائر مسدلة، في ذهنه عتمة تامة، وفي قلبه شعلة متوهجة، وفي عينيه حزن عميق عميق. شعر أنه محبوس في قمقم، مخبوء في غياهب ظلماته، مثل مارد جبار ينتظر اللمسة السحرية ليتحرر من أسره. جلس محاطا بجدران إسمنتية سميكة، والأحلام تطوف به بعيدا جدا، تطير به في أعالي السماوات، وتغوص في أغوار نفسه والحبيبة، ثم فتح عينيه ليرى يديه مكبلتين بمختلف الأصفاد.
يرن الهاتف، إنها سماء، ماذا تريد الآن؟ لن أجيب، ليس الوقت مناسبا أبدا، يرن الهاتف مجددا ولا يتوقف، لعله أمر طارئ، وبتثاقل يمسك بهاتفه المحمول ويرد، يصغي، يسمع ضجيجا، صراخا عاليا، بكاء متقطعا، يصيح: «آلو، سما، آلو، آلو ... سما.» مزيد من الضجيج والصراخ، وأخيرا يسمع صوتها المتهدج بالبكاء: «قتلوه، يا سعيد قتلوه ...» بكاء شديد، «من؟» يصيح وقد ارتجف قلبه هلعا، يصيح مجددا، «من يا سما من؟» ويأتي صوتها مزلزلا كقيام الساعة: «قتلوه، قتلوه.»
2
كانت تجربة فريدة من نوعها، علمتني الكثير، بدأت بها غيرة من صديقاتي اللاتي أصبحن كلهن تقريبا يتعلمنها، وقتلا للأوقات المملة الطويلة بلا كهرباء؛ فلم نعد نرى الكهرباء إلا مرة كل شهر أو شهرين؛ فقد تحولت حياتنا بالكامل، نصبح ونمسي ولم يعد لنا من هم سوى ترقب عودة التيار، أو انتظار الماء، وسكن الترقب والحذر الشوارع، وصرنا نتنفسه في الأجواء، ونراه جاثيا على ملامح الناس، والموت مثل مهرج يمط لسانه عابثا هازئا، ويبتلع بضحكاته الهستيرية المزيد من البشر.
Shafi da ba'a sani ba