وصحيح أن نادر عاد إلى الجامعة، وانتهى كابوس المعاملات والأوراق والطوابع والرشاوى، وعاش نادر سنواته الجامعية بشكل اعتيادي، لكنه ما كان يدري أن شيئا ما كان ينتظره في أكثر لحظات حياته حسما، وأن النار التي اعتقد أنه أخمدها كانت لا تزال مختفية تحت الرماد تنتظر الشرارة الأخيرة لتشتعل وتحرق كل شيء.
10
في الأسابيع التالية ذهبت مع أمي إلى الدرس الديني، كان على عادته، النسوة والآنسة والمواعظ. قررت أن أواظب على الحضور، لكنني هذه المرة لا أريد أن أهزم أحدا، أو أن يهزمني أحد، أريد أن أعرف أكثر وحسب. رأيت تلك الفتاة النحيلة، كانت تبتسم كلما نظرت إليها، وكنت أبادلها الابتسام.
ثم عدت إلى قراءتي لرواية «البؤساء»، التي كانت طويلة، فاستغرقت أياما لإنهائها. كانت تتحدث عن الظلم الاجتماعي في فرنسا في القرن التاسع عشر، أحببتها، شعرت باختلافها عن كل ما قرأت، وعرفت كيف استحقت أن تكون من الأدب العالمي. من أجمل عباراتها: «أنت تنظر إلى النجم لسببين؛ لأنه متلألئ، ولأنه غامض لا يرقى إليه الإدراك.» هكذا هي الأحلام، تشدنا بروعتها وسحرها، ثم تغيب مع ضوء النهار لتعود إلى البريق ليلا حين ينام كل شيء، ولا يبقى سوانا، تجابهنا بحقيقتها، وتذكرنا بروعتها، وتتحدانا لبلوغها.
حين وصلت إلى الصفحات الأخيرة من الكتاب وجدت ورقة مطوية بإحكام، كانت رقيقة ومخبأة جيدا بين طيات الكتاب، انتزعتها برفق حتى لا تتمزق؛ إذ يبدو أنها ملتصقة بالصفحات بفعل الرطوبة. عاودني الفضول مجددا، لكنني الآن أكثر شعورا بالأمان، وأبعد عن التردد، فتحتها بحذر، كان الكلام واضحا مكتوبا بخط دقيق بقلم أزرق جاف وقد كتب في الأعلى: «كتاب الوداع»، وهذا نص الكتاب:
أكتب إليك كتابي هذا، والدمع يمنع عني الرؤية، فأجد صعوبة في تمييز الأحرف والكلمات، أعرف تماما ما أود قوله لك، في جعبتي الكثير، وفي قلبي ألم كبير. سأختصر لأقول: اشتقت إليك، وشوقي يقتلني. لو كنت بعيدا عني لهان ذلك، لكنك بجانبي، تنظر إلي، تسمعني، تحدثني، وأظل أشتاقك وأنا أقرب ما أكون إليك. ليس شوقا عاديا، إنه شوق ممزوج بيأس، وحب ممزوج بكره، لست أدري كيف اتفق هذا، لكن هذا ما يجول في نفسي ويأكل روحي. الألم ينخر كل زاوية في، في جسدي وروحي وعقلي. أشعر أن الكون ينهار على رأسي وأنني في عتمة تامة، إنه ألم محض يكويني لكنه للأسف لا يزهق روحي. أكرهك لأنني مجنونة بحبك، أكره حبي لك، وددت لو أن لي القدرة على إلغاء ذاكرتي، لو حصل هذا لكان من أكبر النعم علي. أعترف أني خطر ببالي مرة أن ألقي بنفسي أمام إحدى السيارات المسرعة حتى أتخلص من الشعور بك!
أواه أواه! كيف يبلى القلب ممن يهواه؟
أيتها السماء اسمعيني، أيتها الأشجار والجبال والعصافير ارفقي بحالي وواسيني. يا قلعة حلب، يا جامعها الأموي، يا شوارعها المرصوفة، وأسواقها المسقوفة، ارفقوا بحالي، احملوا جزءا من آلامي، خذوني إليكم، ضموني بحنانكم؛ فأنا متعبة. ما لي أجد الكلمات تنثال على الورقة بلا توقف؟ وكأنما يتوالد الشعر حين يحتضر الحب وتكثر خيباته؟ وداعا، أقولها لك لأن الشوق يأكلني. وداعا حفاظا على روحي، علني ألقاك يوما أو لا ألقاك لست أدري، سأترك الأقدار تفعل ما تشاء.
حلب، 13 آب ، 1994م
تأملت الورقة طويلا، وأعدت قراءتها مرات عديدة، شعرت بالأسف تجاه كاتبتها، من تراها تكون؟ ماذا فعل جدو نور بعد أن قرأ هذه الرسالة؟ أي ألم يفيض من الكلمات! كم كانت جريحة؟! هل عادت إليه أم لا؟ أتراه ظلمها؟ أم ماذا؟ ثم شعرت بشيء غريب، أحسست بمسئوليتي تجاهه، أن علي أن أفهم أكثر وأعرف أكثر، لكن الرسالة مضى عليها ستة عشر عاما تقريبا، إنها فترة طويلة جدا، ماذا علي أن أفعل؟ هل أتجاهل الموضوع وأعيد الورقة إلى مكانها وكأن شيئا لم يكن؟ أم أسأله عنها؟ نظرت في التاريخ مرة أخرى، الثالث عشر من شهر آب، نظرت إلى التقويم، قلبت الأوراق الماضية، الثالث عشر من آب! إنه اليوم الذي ذهبت إليه المرة الماضية، هل هذه مصادفة حقا؟ وهل لهذا علاقة بمزاج جدو نور السيئ ذلك اليوم؟ تذكرت القلادة ذات الحجر الأزرق السماوي، وعاد إلي الفضول، كتبت في الفيسبوك:
Shafi da ba'a sani ba