الفصل الثاني عشر
التطور
يبدو في نظر المشاهد الذي يفتقر إلى الخبرة، أن ثمة فارقا باطنا بين الكائنات العضوية الحية وبين الطبيعة غير العضوية؛ فكل أشكال الحياة الحيوانية تقريبا تكشف عن قدرة على الحركة المستقلة، ويدل سلوكها على نشاط مخطط يستهدف تحقيق مصلحة الكائن العضوي ذاته، وقد يكشف هذا النشاط المخطط، لا في البشر فحسب، بل في بعض أنواع الحيوان أيضا، عن استباق طويل المدى لحاجات المستقبل؛ فالطيور تبني أعشاشها لتحمي نفسها في الليل، وليكون فيها مكان للتفريخ، والفأر يحفر لنفسه مأوى في الأرض، ويملؤه بمواد يقتات بها في الشتاء، والنحلة تفرز كميات من الرحيق. وهناك قدر كبير من السلوك المخطط يتجه دائما إلى هدف التناسل، وهو العملية الآلية العجيبة التي تعمل على بقاء النوع بعد موت الأفراد.
أما النباتات فلا تظهر فيها أنواع من النشاط الذي نحب أن نسميه تخطيطا، ومع ذلك فهي قطعا تؤدي وظائفها على نحو يجعل ردود أفعالها تحقق هدف تغذية الفرد وحفظ النوع؛ فجذورها تنمو في الأرض وتتغلغل فيها بالعمق الذي يكفي للوصول إلى الماء، وأوراقها الخضراء تتحول إلى الشمس التي يحتاج النبات إلى أشعتها لتكون مصدرا للطاقة الحيوية، كما أن عملية التكاثر الآلية فيها تضمن ظهور ذرية وفيرة.
إن الكائن العضوي الحي نظام يعمل في سبيل هدف حفظ الذات وحفظ النوع، وهذا الحكم لا يصدق فقط على تلك المظاهر الواضحة للحياة، التي نسميها «سلوكا»، بل يصدق أيضا على العمليات الكيميائية للجسم، وهي العمليات التي تعد أساسا لكل سلوك؛ فالعملية الكيميائية المتعلقة بهضم الغذاء وأكسدته منظمة على نحو من شأنه أن تمد الكائن العضوي بالوحدات الحرارية اللازمة لأوجه نشاطه، بل إن النباتات قد استحدثت لنفسها عملية تتيح لها أن تنتفع مباشرة، بمساعدة جزيئات الكلوروفيل، من طاقة الشمس المشعة لمصلحتها الخاصة.
وهكذا يبدو كأن هناك خطة تتحكم في أفعال الكائنات العضوية الحية، وهدفا محددا يوجهها، إذا ما قورنت بالمسلك الأعمى للعالم غير العضوي، كسقوط الأحجار وتدفق الماء وهبوب الرياح. فالعالم غير العضوي يخضع لقوانين السبب والنتيجة؛ إذ يتحكم الماضي في المستقبل عن طريق الحاضر. أما بالنسبة إلى الكائنات الحية فيبدو أن هذه العلاقة تنعكس؛ فما يحدث الآن مرتب على نحو من شأنه أن يخدم غرضا مستقبلا، ويبدو أن المستقبل، لا الماضي، هو الذي يتحكم في أحداث الحاضر.
مثل هذا التحديد على أساس المستقبل يسمى غائية
teleology . وقد جعل أرسطو للغائية، في تصوره للعلة الغائية، مكانة موازية لمكانة العلية في وصف العالم الفيزيائي. ومنذ عهد أرسطو أصبحت تواجه العالم هذه الطبيعة الثنائية للعالم الفيزيائي؛ فعلى حين أنه رأى الطبيعة غير العضوية خاضعة لقوانين العلة والمعلول، فقد بدت له الطبيعة العضوية خاضعة لقانون الغاية والوسيلة. وهكذا أصبحت للغائية مكانة توازي مكانة العلية، وبدا أن الأولى لا تقل أهمية عن الثانية، واتهم عالم الفيزياء، الذي لا يفكر في الطبيعة إلا من خلال العلة والمعلول، بأنه ضحية مغالطة التعصب المهني، التي تعمي المرء عن إدراك مقتضيات البحث خارج نطاق تخصصه الضيق.
وعلى الرغم من أن فكرة التوازي بين العلية والغائية تبدو أشبه بحكم صادر عن ملاحظ محايد، فإننا نستمع إلى ادعاءاتها على مضض، ولا نستطيع أن نمتنع عن الشعور بأن في موقفها شيئا باطلا في أساسه؛ فالفيزياء ليست علما موازيا للبيولوجيا، وإنما هي علم أكثر أولية، وقوانينها لا تقف عاجزة أمام الأجسام الحية، وإنما تشتمل الأجسام الحية وغير الحية معا، على حين أن البيولوجيا تقتصر على دراسة تلك القوانين الخاصة التي تسري، مع القوانين الفيزيائية، على الكائنات الحية. فليس في البيولوجيا استثناء معروف للقوانين الفيزيائية؛ ذلك لأن الأجسام الحية تهوي كالأحجار إن لم ترتكز على شيء، وهي لا يمكن أن تنتج طاقة من لا شيء، وإنما تتحقق جميع قوانين الكيمياء في عملياتها الهضمية. فليس ثمة قانون فيزيائي ينبغي أن يكون مقرونا بشرط مثل: «ما لم تحدث العملية في كائن عضوي حي.»
أما أن الكائنات الحية تتميز بخواص تقتضي صياغة قوانين خاصة تضاف إلى قوانين الفيزياء، فهو أمر لا يدعو إلى الاستغراب؛ فنحن نعلم أن الأجسام الساخنة تظهر فيها خواص لا ترد إلى الميكانيكا، وأن السلك الذي يمر فيه تيار كهربائي تظهر فيه خواص لا تستطيع الميكانيكا ولا الديناميكا الحرارية تعليلها. فليس ثمة صعوبة منطقية في أن ننسب إلى المادة عندما تكون في حالمة أعقد، خواص لا تتكشف في المادة عندما تكون في حالة أبسط، ولكن يبدو من غير المقبول أن نفترض أن للمادة الحية خواص تتناقض مع خواص المادة غير العضوية.
Shafi da ba'a sani ba