ولقد وصف البعض هيجل بأنه خليفة «كانت»، غير أن في هذا إساءة فهم خطيرة ل «كانت»، ورفعا لمكانة هيجل ليس له ما يبرره؛ ذلك لأن مذهب «كانت»، وإن أثبتت التطورات التالية استحالة قبوله، كان محاولة من ذهن عظيم لإقامة المذهب العقلي على أساس علمي. أما مذهب هيجل فهو بناء هزيل لشخص متعصب أدرك حقيقة تجريبية واحدة، وحاول أن يجعل منها قانونا منطقيا في إطار منطق أبعد ما يكون عن الروح العلمية. وعلى حين أن مذهب «كانت» يمثل قمة الاتجاه التاريخي للمذهب العقلي، فإن مذهب هيجل ينتمي إلى فترة تدهور الفلسفة التأملية، وهي الفترة التي تميز القرن التاسع عشر. وسوف أتحدث عن هذه الفترة فيما بعد، وحسبي الآن أن أذكر مقدما ملاحظة واحدة، هي أن مذهب هيجل قد أسهم، أكثر من أية فلسفة أخرى، في إحداث انشقاق بين العلماء والفلاسفة؛ فقد جعل الفلسفة موضوعا للسخرية يحرص العالم على التبرؤ منه.
وهكذا نستطيع الآن أن نفهم لماذا كانت الثغرة بين العلم والفلسفة واسعة؛ فالفيلسوف ذو النزعة العقلانية معاد للعلم في صميم روحه، والعوامل التي تتحكم في تحديد مسار تفكيره عوامل خارجة عن مجال المنطق، تتخذ من النتائج والمناهج العلمية أداة لبلوغ أهداف غير علمية. وعلينا ألا ننخدع بالإعجاب والتمجيد الذي يبديه أنبياء الفلسفة المثالية في كثير من الأحيان بالرياضيات؛ ذلك لأن الرياضيات ليست في نظرهم إلا مثلا يوضح نظرياتهم، ومرآة لأفكارهم الخاصة، وهم لا يعلمون ما تعنيه المعرفة - وضمنها المعرفة الرياضية - بالنسبة إلى من يدرس المعرفة لذاتها.
ليس ثمة مجال للتوفيق بين العلم والفلسفة التأملية، فلنكف عن محاولة التوفيق بين الاثنين أملا في الوصول إلى مركب أعلى. فليست كل التطورات التاريخية تحدث وفقا للقانون الديالكتيكي، بل إن أحد الاتجاهات الفكرية قد يخمد ويخلي مكانه لاتجاه آخر ينبثق من جذور مختلفة، شأنه شأن النوع البيولوجي الذي لا يبقى إلا في صورة حفريات عندما يحل محله نوع آخر له قدرات أعظم. والحق أن الفلسفة التأملية لم تجد، بعد أن بلغت قمتها في مذهب «كانت»، إلا ممثلين ضعفاء، وهي في طريقها إلى الانحلال، ولكن هناك فلسفة أخرى في صعود، قريبة من العلم، وقد تمكنت من إجابة عدد كبير من الأسئلة التي أثيرت في فلسفة العهود الماضية. وسوف أناقش الجذور التاريخية لهذه الفلسفة قبل أن أعرض ما تقدمه من إجابات.
الفصل الخامس
النظرة التجريبية
مظاهر نجاحها وإخفاقها
لم يكن المقصود من مناقشة المذاهب الفلسفية في الفصول السابقة هو تقديم صورة شاملة للفلسفة؛ فالفلاسفة الذين أشرنا إليهم حتى الآن قد اختيروا من وجهة نظر معينة؛ إذ يتمثل فيهم نمط معين من الفلسفة، وينبغي ألا يعدوا ممثلين للفلسفة في مجموعها؛ فهناك نظرة معينة تميز فلسفتهم، تقول بوجود مجال خاص للمعرفة، هو المعرفة الفلسفية، يكتسبه الذهن باستخدام قدرة معينة، تسمى بالعقل أو الحدس أو رؤية المثل، وأصحاب هذه المذاهب يزعمون أن مذاهبهم نتاج لهذه القدرة، ويعتقدون أنها تتيح نوعا من المعرفة لا يستطيع العالم بلوغه؛ أعني معرفة فوق العلمية لا تبلغها مناهج الملاحظة الحسية والتعميم، التي تشيد بواسطتها العلوم. هذا النوع من الفلسفة هو الذي أطلقنا عليه ها هنا اسم المذهب العقلاني
Rationalism ، وتمثل الرياضيات في نظر صاحب المذهب العقلاني، باستثناء قلة مثل هيجل، الصورة المثلى للمعرفة ؛ فهي تقدم الأنموذج الذي تشكل على أساسه المعرفة الفلسفية.
على أنه كان هناك، منذ عهد الإغريق، نوع ثان من الفلسفة يختلف عن النوع الأول اختلافا أساسيا ؛ ففي نظر فلاسفة هذا النوع الثاني يعد العلم التجريبي، لا الرياضة، الصورة المثلى للمعرفة، وهم يؤكدون أن الملاحظة الحسية هي المصدر الأول والفيصل الأخير في المعرفة، وأن الذهن البشري يخدع نفسه لو ظن أنه قادر على أن يصل مباشرة إلى أي نوع من الحقيقة غير حقيقة العلاقات المنطقية الفارغة. هذا النوع من الفلسفة هو المسمى ب «المذهب التجريبي»
empiricism .
Shafi da ba'a sani ba