وعن طريق هذه القضية، أثبت أفلاطون التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة؛ أي أثبت النظرية القائلة إن الاستبصار ضرب من المعرفة أو العلم؛ فإذا ارتكب شخص فعلا لا أخلاقيا، فهو جاهل بنفس المعنى الذي يكون به الشخص الذي يرتكب أخطاء في الهندسة جاهلا؛ أي إنه عاجز من القيام بفعل الرؤية الذي يكشف له عن الخير، وهي رؤية من نفس النوع الذي يكشف له عن الحقيقة الهندسية.
فإذا ما قارنا بين هذا الرأي وبين الصورة التي تعرض بها المبادئ الأخلاقية في الكتاب المقدس، لظهر لنا فارق واضح؛ فالكتاب المقدس يعرض القواعد الأخلاقية على أنها كلمة الله؛ أي إله العبرانيين الذي يوجه الوصايا العشر إلى موسى على جبل سيناء: «لا تقتل!» و«لا تسرق!» ولا شك أن الصيغة الآمرة التي تتسم بها القواعد تدل بوضوح على أن المقصود منها أن تكون أمرا، لا أن تكون إقرارا لأمر واقع. ويبدو أن تحول القواعد الأخلاقية إلى ضرب من المعرفة كان اختراعا متأخرا؛ فالعبرانيون كانوا خليقين بأن يروا في المساواة بين الوصايا العشر وبين قانون للطبيعة أو قانون رياضي استخفافا بكلمة الله. وفي الوقت الذي ظهرت فيه أسفار موسى، لم تكن المعرفة قد اتخذت صورة نسق منظم؛ إذ لم تكن هندسة المصريين القدماء سوى مجموعة من القواعد العملية التي تفيد في مسح الأرض وتشييد المعابد، وكان أحد اليونانيين هو الذي اكتشف أن من الممكن إثبات الهندسة في شكل برهان منطقي؛ وعلى ذلك فإن النظرة إلى الفضيلة على أنها علم هي طريقة يونانية خالصة في التفكير. ولقد كان من الضروري، قبل أن يتسنى النظر إلى المعرفة على أنها هي التي تمدنا بأساس القواعد الأخلاقية، أن تتخذ المعرفة أولا ذلك الطابع الذي أضفته عليها الروح اليونانية، بما فيه من كمال وشرف، عن طريق بناء الرياضيات بوصفها نسقا منطقيا. وكان لا بد من الاعتراف أولا بأن قوانين الطبيعة والرياضة قوانين بالمعنى الصحيح؛ أعنى علاقات تفرض علينا احترامها، ولا تحتمل أية استثناءات، قبل أن يمكن تصور هذه القوانين على أنها موازية للقوانين الأخلاقية. وإن المعنى المزدوج لكلمة «القانون»، بوصفه أمرا أخلاقيا وقاعدة للطبيعة أو العقل، ليشهد بتحقق هذه الموازاة.
ويبدو أن الدافع إلى فكرة الموازاة هو الرغبة في إقامة الأخلاق على أساس أقوى من ذلك يزودها به الدين؛ فقد تكفي أوامر الآلهة لإرضاء ذهن ساذج لا يؤرقه أي شك في علو مكانة الأب، غير أن الشعب الذي وضع الصورة المنطقية للرياضة قد اكتشف شكلا جديدا للأوامر، هو الأوامر العقلية. وإن الطابع اللاشخصي لهذا الأمر ليجعله يبدو من نوع أرفع؛ إذ إنه يقتضي الاحترام سواء أكنا نعترف بوجود الآلهة أم لا، وهو يستبعد السؤال عما إذا كانت أوامر الآلهة خيرا، ويحررنا من النظرة التشبيهية بالإنسان، القائلة إن فعل الخير ينحصر في الامتثال لإرادة أعلى؛ فلا عجب إذن إن بدت أفضل طريقة لإثبات أن القواعد الأخلاقية ملزمة للجميع هي إقرار التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة، والقول بأن الفضيلة هي العلم.
وهناك مذهب فلسفي يعرض فكرة التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة في صورتها المتطرفة، هو المذهب الأخلاقي عند اسبينوزا (1632-1677م)؛ ففي هذا المذهب يذهب اسبينوزا إلى حد محاكاة طريقة إقليدس في تقديم الهندسة على شكل بديهيات ونظريات، آملا بذلك أن يشيد الأخلاق على أساس متين كأساس الهندسة؛ فهو يبدأ، مثل إقليدس، ببديهيات ومصادرات، ثم يستخلص نظرية بعد الأخرى. والواقع أن كتابه «الأخلاق» يبدو عند قراءته أشبه بكتاب تعليمي في الهندسة، على أن الكتاب في أجزائه الأولى ليس أخلاقيا بالمعنى الذي نقصده، وإنما يقدم نظرية عامة في المعرفة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى بحث الانفعالات. ويعرض اسبينوزا نظريته القائلة إن الانفعالات تنشأ من أفكار غير كافية في النفس، وهي نظرية تتمشى مع نظرية سقراط القائلة إن الرذيلة جهل. وهو يحاول أن يبين، في فصل عنوانه «في عبودية الإنسان، أو قوة الانفعالات» أن الانفعالات تسبب الحزن والكدر؛ وبالتالي فهي شر؛ فنحن نصل إلى السعادة عندما نتغلب على قوة الانفعالات. وفي فصل آخر بعنوان «قوة العقل، أو في حرية الإنسان» يوضح أن القدرة على هذا التحرر كامنة في العقل. وهكذا فإن أخلاقه رواقية، وهو يرى أن الخير ليس إلا اللذة العقلية للمعرفة، أما السعادة، تستمد من إرضاء الانفعالات ومن متع الحياة، فهي وإن لم تكن في نظره منافية للأخلاق ، تبدو له خارجة عن مجال الأخلاق، وهو لا يحبذها، بقدر معتدل، إلا بوصفها غذاء للبدن، لازما لحفظ قدرة الجسم على أداء كل ما تقدر عليه طبيعته من أفعال.
ويتمتع اسبينوزا بسمعة طيبة بين الفلاسفة، ولكني أعتقد أن الفضل في هذه السمعة يرجع إلى شخصيته أكثر مما يرجع إلى فلسفته؛ فقد كان رجلا متواضعا شجاعا، تصدى للدفاع عن نظرياته، وطبق مذهبه الأخلاقي في حياته، وكان يكتسب رزقه بقطع عدسات المناظير، ورفض منصبا جامعيا لأنه قد يؤدي إلى الحد من حرية تفكيره. ولقد تعرض لهجمات متعددة وصفته بأنه ملحد، وطرد من الطائفة اليهودية في أمستردام لمروقه، ولكنه ظل غير عابئ بأي انتقاد، وكان عطوفا على الجميع، ولم يبد كراهية لأحد.
فإذا ما جردنا مذهبه الأخلاقي من صورته المنطقية، لبدا لنا عقيدة لشخص متزن يبدو في نظره ضبط النفس والعمل العقلي أسمى الفضائل. على أنه حين عرض مذهبه الأخلاقي بصورة منطقية، أثبت أن إعجابه بالمنطق يفوق مقدرته في مجال المنطق. والواقع أن منطق استنتاجاته هزيل، ولا يمكن أن تفهم هذه الاستنتاجات بدون كثير من الإضافات الضمنية والتفسيرات النفسية، ولا يمكن أن يعد مذهبه متسقا داخليا على الأقل؛ أي لا يمكن أن تستخلص نتائجه بطريقة صحيحة من بديهياته؛ إذ إن هذه النتائج تتجاوز مضمون مقدماته بكثير. مثال ذلك أنه يقول بالدليل الأنطولوجي على وجود الله. غير أن التركيبات المنطقية غير الصحيحة يمكن أن تظل لها تلك الوظيفة النفسية في دعم المعتقدات الذاتية، والاستدلال الباطل يمكن أن يكون أداة لا غناء عنها في يد العقيدة الشخصية. ولقد كان اسبينوزا في حاجة إلى ذلك الهيكل الذي يتخذ صورة منطقية؛ لكي يرتكز عليه في قمعه للانفعالات، وفي عدم اكتراثه الغريب بملذات الرغبات. وهكذا فإنه استخدم الطابع العقلي الذي أضفاه سقراط على الأخلاق، كما فعل الكثير من سابقيه، في تشييد مذهب أخلاقي يقلل من شأن الانفعالات. وربما كانت هذه أسوأ نتائج الموازاة بين مجالي الأخلاق والمعرفة؛ فمنذ عهد الرواقيين سادت بين جماهير الناس تلك النظرة إلى الفيلسوف على أنه إنسان بلا انفعال، وأدت تلك النظرة إلى شعور غير الفلاسفة من الناس بأن فيهم نقصا، وذلك عندما يجدون أنفسهم عاجزين عن تحقيق مثل هذه الحكمة، ولكني لا أستطيع أن أرى سببا يدعو الفلاسفة إلى تمجيد هذا النمط غير المنفعل؛ فأنا لا أود أن أصرف أولئك الذين يجدون متعة في عدم الانفعال، عن هذا النوع الخاص بهم من اللذة، ولكني لا أرى سببا يدعو البقية منا، ممن تتخذ لذاتهم صبغة أكثر إنسانية، إلى أن يشعروا بالنقص. فما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش هو الانفعال، وهذه القاعدة تنطبق على الفلاسفة بدورهم. ويبدو أن انفعال اسبينوزا المؤسف نحو المنطق لم يكن يختلف كثيرا عن تلك الأنواع الأكثر إثارة، التي يتبدى عليها الانفعال لدى الأشخاص الآخرين.
ولقد كان البناء الاستنباطي للأخلاق عند اسبينوزا، الذي كان يهدف إلى إثبات إمكان الإتيان ببرهان منطقي على القواعد الأخلاقية، مجرد صورة أكثر تفصيلا وتعقيدا لفكرة سقراط القائلة إن الفضيلة هي العلم، بل إن مذهب اسبينوزا يبني هذه الفكرة على أساس أمتن؛ لأنه يبين أن المعرفة الأخلاقية ليست نتاجا لاستبصار عقلي فحسب، بل إن من الممكن أيضا أن يطبق عليها أقوى أساليب التفكير العقلي، وأعني به الاستنباط المنطقي. فبديهيات الأخلاق، شأنها شأن بديهيات الهندسية؛ ليست إلا نقطة البداية في بناءات استنباطية تؤدي، عن طريق سلسلة من الاستدلالات، إلى نتائج يتسع نطاقها بالتدريج. فالأخلاق علم، ليس فقط لأن مبادئها الأولى تبدو «صحيحة»، بل أيضا لأنها خاضعة لمبادئ الاستدلال المنطقي، ويمكن أن يطبق عليها أسلوب البرهان المنطقي من أجل إثبات العلاقات بين القوانين الأخلاقية. تلك هي الحجة التي تعبر عن موقف اسبينوزا مثلما تعبر عن موقف سقراط وأفلاطون.
ولكي نوضح هذا التوازي، سنضرب أمثلة لاستنباطات مختارة من الميدانين المعرفي والأخلاقي؛ فعملية الاهتداء إلى الخير، شأنها شأن عملية اكتساب المعرفة، ذات طبيعة متدرجة، وتتم عن طريق خطوات من الاستبصار الذي يزداد وضوحا بالتدريج. وتعليم الحقيقة أو تعليم الفضيلة، ينحصر في مساعدة الشخص على أن يصعد خطوات السلم هذه. فنحن نسأل مثلا إن كان من الممكن رسم دائرة داخل مثلث تكون أضلاعه مماسات للدائرة، فنتخيل صورا تبين دوائر ومثلثات لها هذه العلاقة، ولكنا لا نعلم بعد إن كان من الممكن تحقيق ذلك بالنسبة إلى كل أنواع المثلثات، أو إن كان من الممكن تحقيقه بأكثر من طريقة واحدة. وأخيرا نهتدي إلى البرهان الهندسي القائل إن من الممكن تحقيق ذلك بالنسبة إلى كل مثلث، وبطريقة واحدة بالنسبة إلى المثلث الواحد. هذا الكشف يتم على خطوات، سواء أكنا نحن الذين نهتدي إلى البرهان أم كان هناك معلم يوضحه لنا. وبالمثل قد نتساءل إن كان الكذب على الغير خيرا، وربما أجبنا أنه خير أحيانا وشر أحيانا أخرى، ولكنا إذا مضينا في التحليل أبعد من ذلك اتضح لنا أنه على الرغم من أن الكذب قد يفيدنا أحيانا فإنه ليس خيرا؛ لأن مثل هذا السلوك من جانبنا قد يشجع الآخرين على أن يسلكوا بنفس الطريقة، فتكون النتيجة زوال الثقة المتبادلة في العلاقات بين أفراد البشر. وهكذا تبدو العملية المتدرجة في هذا البحث مشابهة للتفكير الرياضي؛ وبذلك نعرف لماذا كانت القواعد الأخلاقية قابلة لأن تعلم.
غير أن دراسة عمليات الاستنباط تؤدي أيضا إلى إظهار النظرة المعرفية للأخلاق في ضوء جديد؛ فالاستنباط المنطقي ليس وسيلة للاهتداء إلى حقيقة نهائية، وإنما هو مجرد أداة للربط بين حقائق مختلفة. وقوام الاستنباط الرياضي، في المثال الذي قدمناه من قبل، هو البرهان على أننا إذا سلمنا ببديهيات معينة، فإن النتيجة المتعلقة بالدائرة المرسومة داخل المثلث تلزم عنها، والاستنباط الأخلاقي المشار إليه من قبل هو برهان على أننا إذا رغبنا في غايات معينة، فمن الواجب أن نطيع القاعدة الأخلاقية التي تقضي بالامتناع عن الكذب. وبعبارة أوضح، فإن ما برهنا عليه هو أننا إذا أردنا نظاما اجتماعيا تقوم فيه العلاقات بين أفراد البشر على أساس الثقة المتبادلة، فمن الواجب ألا نكذب.
وفي كلتا الحالتين نجد أن علاقة «إذا كان ... فإن ...» هي القابلة للبرهان، كما أن المثلين إنما يتطابقان في إمكان استنباط هذه العلاقة فيهما معا؛ أي إن كون الفضيلة قابلة لأن تعلم، هو نتيجة تترتب على كون الاعتبارات الأخلاقية، شأنها شأن الاستنباطات الرياضية، تنطوي على عنصر منطقي قابل لأن يحلل بخطوات منطقية، تناظر الخطوات المنطقية في البرهان الرياضي.
Shafi da ba'a sani ba