عندما اشتعلت الأرض بالحرب الكونية، علمت مي أن تصلي في كل مساء وصباح هذه العبارة: «يا يسوع الصغير، ضع حدا لهذه الحرب، اشف المرضى، وأرسل خبزا للفقراء الصغار.»
وهجمت النائبات، ومنها التيفوس، فأصيبت أم هند وقضت في أسبوع، وفي ذلك اليوم المشئوم تنبهت مي لوقع الأقدام على السلالم، وشاهدت الصندوق الخشبي وخلفه الصليب الكبير، وجوق الكهنة يرنمون بأصوات شجية، فصمتت صمتا مهيبا كأن نفسها الصغيرة شعرت برهبة الموت، ولما وضعوها مساء في فراشها شبكت يديها على صدرها، وقالت: إنها «زعلانة» من يسوع الصغير، ولا تريد أن تصلي له. - ولماذا أنت «زعلانة»؟ - أما رأيت كيف أنه أمات والدة هند؟ من سيحب هند بعد اليوم؟
وتنهدت مي وأرسل صدرها الصغير زفرة طويلة عميقة، ولأول مرة في حياتها بكت على الناس ومصائب الناس!
كانت مي صغيرة عندما أرسل لها «يسوع الصغير» أختا. من عساه يصف محبتها لذلك الكائن الضعيف، تلك المحبة الممزوجة بالشفقة والحنان، والعطف والغيرة المحرقة القتالة؟ من عساه يصف نفسها وقد أصبحت ساحة لمعترك العواطف المختلفة.
هل صرخت الطفلة؟ كانت مي تسرع وتقول بلغة الأطفال: احملوها ولا تتركوها تبكي، أرضعوها؛ إنها تموت من الجوع، أدفئوها؛ إنها باردة كالثلج، لعلكم تظنون أن يسوع الصغير سيرسل لي كل يوم أختا!
آه من قلب مي الصغير! كيف كان يطفح بعواطف الأخوة العذبة، ولكن تلك المحبة كانت مقرونة بغيرة قاتلة ظهرت بوادرها في عيني مي؛ لأن عيون الأطفال لا تعرف الكذب، هل نظرتم في عيني امرأة ما صورة الأمل الضائع، والحياة الذاوية، والحب البائس، والشباب الباكي! هكذا كانت نظرات مي يوم تصارعت المحبة والغيرة في فؤادها فهوى كيانها الصغير تحت أثقال الحب.
ما كانت مي محبة لنفسها، فلم تؤذ الطفل، ولا سألت مرة إنزاله عن صدر أمه كما يفعل الصغار، بل انسحبت بذل تاركة مكانها للكائن الجديد، كأنه صاحب الحق وكأنها لا شيء، ولم تمض أيام إلا وقد غارت عيناها وذبل ورد خديها، فكانت تنزوي وترسل التنهدات ثلاث ورباع إلى أن كان أحد الأمساء، فاقتربت ببطئ من أمها، وتغلغلت في الملاءات الدافئة، وكمن ضاق صدره عن وسع ما فيه، باحت مي بسر عذابها المستقر في عينيها الذاويتين الجامدتين، فسألت: أين أمي أنا؟ - أنا أمك. - والطفل، أين أمه؟ - أنا أمه. - إذن أنت أمه «هو» لا أمي «أنا».
وعبثا تعبت الأم في تفهيم مي أنها أم للاثنين معا، فلم تكن لتصدق، بل كانت تبكي على الحب الضائع، وتختبط في يأسها وتتنهد وتقول: يا لذلي! ليس لي أم، ليس لي أم ...
تذكارات يتيمة
في الغد يحملونني إلى بيت الرجل الغريب عني وعن عشيرتي، وهو سيحملني بدوره إلى ما وراء البحار البعيدة.
Shafi da ba'a sani ba