بالليل ويقل، لمعانها بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تخال نارًا.
وأما قول النابغة، أو من قال: إن قوله في السيوف: يجرين، خير من قوله: يقطرن، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دمًا، ولم يسمع: سيفه يجري دمًا، ولعله لو قال: يجرين دمًا، لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به.
ولنرجع إلى ما بدأنا بذكره من الغلو والاقتصار على الحد الأوسط، فأقول: إن الغلو عندي أجود المذهبين، وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديمًا.
وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر أكذبه.
وكذلك يرى فلاسفة اليونانيين في الشعر على مذهب لغتهم.
ومن أنكر على مهلهل والنمر وأبي نواس قولهم المقدم ذكره، فهو مخطئ، لأنهم وغيرهم - ممن ذهب إلى الغلو - إنما أرادوا به المبالغة، وكل فريق إذا أتى من المبالغة والغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم، فإنما يريد به المثل وبلوغ النهاية في النعت، وهذا أحسن من المذهب الآخر، فإن قول النابغة الجعدي في معنى قول النمر على مذهب الاقتصاد ولزوم الحد الأوسط:
وَقَدْ أَبْقَتْ صُرُوفُ الدَّهْرِ مِنِّي ... كَمَا أَبْقَتْ مِنَ السَّيْفِ الْيَمَانِي
دون قول النمر، لأن في قول النمر دليلًا قويًا على أن ما بقي منه أكثر مما بقي من النابغة.
وكذلك قول كعب بن مالك الأنصاري في معنى قول مهلهل ووصفه صوت الضرب:
مَنْ سَرَّهُ ضَرْبٌ يُرَعْبِلُ بَعْضُهُ ... بَعْضًا كَمَعْمَعَةِ الأبَاءِ المُحْرَقِ
دون قول مهلهل، لأن في قول المهلهل ما يدل على أن الضرب الذي ذكره أشد وأبلغ.
وكذلك قول الحزين الكناني في معنى قول أبي نواس:
يُغْضِى حياءً ويُغْضَى من مَهَابَتِهِ ... فما يكَلَّمَ إلا حينَ يَبْتَسِمُ
دون قول أبي نواس، لأن هذا وإن كان قد وصف صاحبه، بما دل على مهابته، فإن في قول أبي نواس دليلًا على عموم المهابة ورسوخه في قلب الشاهد والغائب، وفي قوله: حتى إنه لتهابك، قوة لتكاد تهابك، وكذا كل غال مفرط في
1 / 19