قلت: وفي هذا الخطاب، إن كان صحيحا، من النقد على بونابرته والتعيب، ورميه بالغش والخديعة، ما يزري به ويحط من عظمته ويذهب بشهرته.
ولماذا لا يكون ذلك المنشور صحيحا ونصه في الجبرتي ورسالة المعلم نقولا وصورته المطبوعة محفوظة في أوراق نابوليون المحفوظة،
4
ثم لماذا يزري من نابوليون ويحط من عظمته ويذهب بشهرته الأبدية الخالدة، وهو إنما فعل ما تقضي به السياسة وأساليبها، وأكاذيبها أيضا!!
ولقد أحدث قدوم ذلك الجيش العثماني حركة في نفوس المصريين فانتعشت أرواحهم، وانتشت آمالهم وخيل لهم الخلاص من الاحتلال الأجنبي، مع أن القادمين عليهم لا يريدون لهم خلاصا، ولا يودون لهم حرية واستقلالا، ولكن هذا نظر المصريون على أنهم والأتراك أمة واحدة، وإن لم يرض الأتراك باعتبار المصريين كذلك، ولا سيما في ذلك الزمن إذ الجندي جندي، والفلاح فلاح!! ولذلك خشي الفرنساويون عاقبة هيجان المصريين، وقيامهم عليهم فترك نابوليون في القاهرة الجنرال «دوجا» الذي اشتهر بدهائه ولينه وحسن تصرفه مع المصريين أثناء الحملة السورية، وترك له قوة كبيرة من الفرنساويين في القلعة عدا قوة أخرى من الأروام الذين جندوهم ودربوهم، وكلف الجنرال ديزيه بالتخلي عن الصعيد والقدوم بجيشه إلى القاهرة.
ولقد كانت ساعة الفرنسيين عصيبة والجو أمامهم مظلما قاتما؛ لأنه مع هذه الاحتياطات الكثيرة، ومع ذلك المنشور الذي أكثر فيه نابوليون من التزلف للمصريين ودعوى الإسلام والطعن على المسيحية، فإن الحركة التي دب دبيبها بين المصريين كانت تشعر بما داخل نفوس القوم من الفرح والسرور بقدوم الجيش العثماني، فقد روى الجبرتي الحادثة الآتية: قال في حوادث يوم 16 صفر:
ولما تحققت هذه الأخبار «نزول الجيش العثماني في أبي قير» كثر اللغط بين الناس، وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى، واتفق أنه تشاجر بعض المسلمين بحارة البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة مع بعض نصارى الشوام، فقال المسلم للنصراني: إن شاء الله بعد أربعة أيام نشتفي منكم، وكلام من هذا المعنى فذهب ذلك النصراني مع عصبة من جنسه إلى الفرنسيس، وأخبروهم بالقصة وزادوا وحرفوا وعرفوهم أن قصد المسلمين إثارة فتنة، فأرسل قائمقام إلى الشيخ المهدي وتكلم معه في شأن ذلك وحاجه وأصبحوا فاجتمعوا بالديوان، فقام المهدي خطيبا وتكلم كثيرا ونفى الريبة وكذب أقوال الخصوم، وشدد في تبرئة المسلمين عما نسب إليهم، وبالغ في الحطيطة والانتقاص من جانب النصارى، وهذا المقام من مقاماته المحمودة، ثم جمعوا مشايخ الأخطاط والحارات وحبسوهم.
فهذه الحادثة البسيطة تمثل لنا صورة مجسمة للشعور القومي في تلك الفترة، وهي حال يجب على المؤرخ أن لا يفوتها، والدليل على تخوف الفرنساويين أنهم زادوا في الحيطة فجمعوا، كما ذكر الجبرتي، مشايخ الأخطاط والحارات واعتقلوهم.
فلنترك أهل القاهرة في آمالهم وتصوراتهم، ولنتبع نابوليون وجيشه إلى تلك المعركة الهائلة التي وقعت بينه وبين الجيش العثماني، وكانت عاقبتها وبالا على العثمانيين تلك الواقعة التي قال عنها نابوليون للجنرال مورات: «على هذه الواقعة سيرتب مستقبل العالم بأسره.» ولكن نابوليون وحده هو الذي كان يدرك السبب في ذلك، ويعلم أن انتصاره في تلك المعركة يمهد له سبيل العودة إلى فرنسا، وعلى جبينه إكليل الفوز والنصر، فيستطيع أن يقبض على السلطة في تلك الديار، ويستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه من الملك والمجد والفخار. (4) واقعة أبي قير
أخطأ سرهناك باشا وغيره من المؤرخين الذين قالوا: إن نابوليون قهر الجيش العثماني الذي نزل في أبي قير بستة آلاف مقاتل، والحقيقة التي أثبتها الكتاب الفرنساويون أن الجيش الذي جمعه نابوليون في الرحمانية وسار به إلى أبي قير كان لا يقل عن عشرين ألف مقاتل من خيرة الجنود المشاة المدربين عدا ثلاثة آلاف من الخيالة، ولم يكن الجيش العثماني يزيد عن ثمانية عشر ألفا من الجنود، وليس معهم سوى مائتي جواد للقائد وأركان حربه، وبعض الضباط، وذلك باعتراف نابوليون في المذكرات التي أملاها في سانت هيلانة.
Shafi da ba'a sani ba