1
وإن لم يكن لدينا دليل تحقيقي - وقلما يوجد دليل يجزم في مثل هذه الأمور - فلم يكد يلوح فجر يوم الأحد حتى امتلأت الطرقات بالغوغاء، وليس لهم زعيم عاقل ولا مرشد مفكر، قال الجبرتي: «ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذين لم ينظر في عاقبة الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور.»
2
مما يؤيد أن حزبا من المشايخ قد كان حاقدا وحاسدا للعلماء الذين خصهم الفرنساويون بالعناية والرياسة، وكان في القاهرة في ذلك الوقت رجل اسمه السيد بدر وهو رجل سوري الأصل من بيت المقدس، نقول: إن ذلك السيد بدر جمع حوله جما غفيرا من «حشرات الحسينية، وزعر الحارات البرانية»، وانضم إليهم خلق كثيرون حتى بلغوا نحو الألف عدا وقصد هذا الجمع الفوضي بيت القاضي الكبير بقصد أن يطلبوا منه التوسط لهم لدى الفرنساويين في محو تلك الضرائب أو تخفيضها، وكان القاضي المشار إليه، هو القاضي التركي الذي بقي في مصر ولم يفر مع إبراهيم بك وبكير باشا، وكان حقا عليه ذلك لأنه مولى من قبل السلطان بفرمان، ولما كان نابوليون ميالا لحفظ الصفة الدينية، ومظهر السيادة العثمانية، أبقى ذلك القاضي في وظيفته وتحبب إليه كثيرا ومنحه المنح الكثيرة والعطايا الوافرة، حتى لقد ذكره في تقريره عن هذه الثورة فقال عنه: «إنه رجل محترم لعلمه وفضله.» وكان اسمه إبراهيم أدهم أفندي كما ورد في التقرير المشار إليه واسمه في كتاب الجبرتي «بجمقشي زاده».
وكان من عادة المصريين أن يلجئوا إلى علماء الدين وقضاة الشرع في شكاويهم من ظلم المماليك وأتباعهم، ولذلك كان الغرض من التوجه إلى بيت القاضي، هو حمله على الذهاب إلى نابوليون، وفي رواية الجبرتي، أن القاضي لما رأى تجمعهم خاف العاقبة «وأغلق أبوابه، وأوقف حجابه!»، ولكن رواية نابوليون في تقريره تقول: إنه دخل على القاضي في أول الأمر نحو عشرين رجلا من الثائرين، فركب فعلا جواده وخرج، ولكنه ما كاد يسير قليلا حتى ألقى واحد من أتباعه نظره إلى كثرة المجتمعين وهياجهم، فرأى أن تلك الملاحظة صحيحة، ونزل في الحال عن جواده ورجع إلى بيته، فحنق عليه القوم واجتمعوا حول داره يرجمونها بالحجارة ... ولو أن القاضي حذرهم سوء العاقبة ولم يداخله الخوف من كثرة تجمعهم، وسار أمامهم إلى دار نابوليون، أو من ينوب منابه، لكان من الممكن أن تهدأ ثائرة القوم أثناء المناقشة، سواء بالوعد أو بالوعيد، ولكنه لم يفعل، فزاد بذلك هياج القوم وغيظهم واندلع لهيب الثورة في أحياء القاهرة.
ولا نظن أن مولانا القاضي قد اتخذ تلك السياسة لكي يزيد الخرق اتساعا! فقد يخطر ببال المفكر أن القاضي رجل تركي حاقد على الفرنساويين، وقد قضت عليه الظروف، التي فوق طاقته، بالبقاء في مصر فصانع الفرنساويين ولاطفهم، حتى إذا رأى أهل القاهرة في ثورة صحيحة ضد أولئك المغيرين لم يشأ أن يقف عقبة في سبيلها، وفضل أن يزيد في إشعال نارها بالامتناع عن الشفاعة للقوم، ولو رموه بالخيانة، ورجموه بالطوب والحجارة! والأتراك مشهورون بالدهاء وسعة الحيلة!
قد يكون هذا الظن معقولا لو كانت لدينا الأدلة على أن إبراهيم أفندي هذا كان من ذوي الأخلاق القوية، إلا أن تاريخه في حوادث مصر يشير إلى عكس ذلك ويدل على أنه كان رجلا ضعيف الإرادة، جبان القلب، كما يؤيد ذلك بقاؤه في القاهرة مع استطاعته الفرار مع إبراهيم بك ومماليكه ورجال الدولة، وكان هو أولى بذلك من السيد أحمد المحروقي والسيد عمر مكرم، ثم حدث في أثناء غزو نابوليون لسوريا أن مصطفى أفندي، كتخدا بكر باشا، الذي عينه الفرنساويون أمير الحج وقربوه ورفعوه خدع القاضي «وأخرجه معه على الفرنساوية» على غير إرادة منه كما سيأتي ذلك مفصلا في بابه.
وكيفما كانت الحال فإن الثورة اندلع لهيبها، واشتد أوارها، وأخذ الغوغاء يكثرون من الجلبة والصياح قائلين: «نصر الله السلطان»! وهكذا من خزعبلاتهم المعروفة، في تلك الأحوال المألوفة، ونادى بعض المعممين الضالين المضلين بالجهاد وقتل الكفار!!
وليت شعري أين كان هؤلاء وأين كانت هذه الوطنية والنعرة الدينية والفرنسيون لا يزالون في البر الغربي وبينهم وبين القاهرة نهر واسع عريض! ومعهم من المماليك عدد عديد، ومن الآلات والأسلحة شيء كثير! ولكنه الجهل يقوم حيث يجب أن يقعد، ويقعد حيث يجب أن يقوم!
كان نابوليون في تلك الآونة خارج القاهرة؛ لأنه برحها مبكرا مع بعض أركان حربه قاصدا مصر العتيقة وجزيرة الروضة، وكان الجنرال جونو
Shafi da ba'a sani ba