ولقد أكد الثقاة أن الدولة العثمانية ما كانت لتنضم إلى إنكلترا في محاربتها فرنسا، وتتفق مع الروسيا، عدوتها التاريخية، لذلك الغرض إلا بعد أن وثقت أن قوة فرنسا في البحر الأبيض المتوسط قد تلاشت بعد وقعة أبي قير البحرية التي يقول عنها الإنكليز في كتاباتهم: «إنها لم تكن انتصارا فحسب، بل كانت فتحا»!
وليس مما يهم المؤرخ المصري أن يتوسع في تفصيل الحركات الحربية لتلك الواقعة؛ إذ سواء أأخطأ الأميرال «برويز» في أنه لم يعمل بنصيحة نابوليون، ويذهب بالأسطول إلى جزيرة كورفو ... وسواء أأخطأ في أنه حين أبصر الأسطول الإنكليزي لم يقابله في عرض البحر بدلا من البقاء راسيا في مياه أبي قير، وسواء أظن أن نلسون لا يهاجمه ليلا أم لم يظن ... فتلك مباحث تهم كتاب الإنكليز والفرنساويين والاختصاصيين من رجال الحروب البحرية، وأما نحن فلنا النظر إلى النتائج وأثرها في وطننا المصري وأمتنا المصرية، ويكفينا في هذا المقام، من قبيل ما تقضي به الضرورة التاريخية، أن نذكر أن الأميرال نلسون بعد أن رفض السيد محمد كريم السكندري السماح بتسويته، اضطر إلى مغادرة الإسكندرية قبل قدوم العمارة الفرنساوية بثلاثة أيام ثم قصد سواحل الشام لأخذ ما يلزمه من الماء والمئونة، ثم عاد أدراجه إلى المياه المصرية بعد شهرين تقريبا، فأبصر السفن الفرنسية في خليج أبي قير فلم ينتظر منها أن تلم شعثها، بحضور بحارتها الذين كان الكثير منهم في الإسكندرية ورشيد، وكان من صفات نلسون المعروفة، الإقدام والجرأة والمجازفة، وبذلك استطاع في ليلة واحدة أن يحطم السفن الفرنساوية، وأن يحرق ويغرق الكثير منها، بحيث لم يبق من تلك العمارة الكبيرة، إلا بضع سفن صغيرة بقيت في مياه أبي قير استعملها نابوليون بعد لنقل المدافع إلى يافا في حملته على الشام، واستطاع الكونتر أميرال فيلنوف
2
الهروب ببضع سفن فرنساوية إلى جزيرة صقلية ومنها إلى فرنسا.
ولقد بلغ من انتهاك قوة الأسطول الإنكليزي بعد هذه الواقعة الهائلة، أنه لم يستطع القضاء على البقية الباقية من السفن الفرنسية، وإن كانت قد وقعت هذه السفن الباقية، عند الحملة الشامية، غنيمة لسفن الأسطول الإنكليزي تحت قيادة السر سدني سميث.
ولنابوليون أقوال كثيرة في الانتقاد على الأميرال «بروبز» الفرنساوي وعلى الكونتراميرال فيلنوف الذي كان في إمكانه - على رأي نابوليون - أن يعود بالسفن التي فر بها ليقضي على الأسطول الإنكليز في نهاية الواقعة في منتصف الليل أو في الصباح، ولكتاب الفرنساويين مناقشات كثيرة في هذا الموضوع، بين مخطئ ومصوب، ومنتقد على برويز، ومعارض لنابوليون، نضرب عنها صفحا؛ لأنها كما ذكرنا خاصة بهم، غير أنه لا يفوتنا أن نذكر أن الفريقين من المتحاربين في واقعة أبي قير - فرنساويين وإنجليز - رجالا وضباطا وقادة، قد أظهروا في ذلك الوقت العصيب من صفات الشهامة والبسالة والتفاني في خدمة الوطن ما يجب أن يبقى درسا للأجيال الخالفة، وأن تتعظ به الأمم، وتتفاخر به الدول، فقد أصيب الأميرال «برويز» بقنبلة ألقته صريعا على ظهر باخرته الأوريان «الشرق» وأرادوا نقله إلى سفينة أخرى فقال: «أتركوني أموت هاهنا»! وأصيب نلسون الأميرال الإنكليزي بإصابات قطعت لحم جبهته فانهدل على عينه وظن أنه مات، ومع ذلك رفع اللحم بيديه إلى جبينه وعصبه، وبقي يصدر الأوامر لمتابعة القتال! ... وحكاية ذلك الفتى «كلاسيلانكا» ابن الضباط كاسبلانكا الذي بقي والنار تحرق الباخرة أوريان، لا ينتقل من مكانه؛ لأن أباه أمره بالبقاء فيه حتى احترق!! إلى غير ذلك من الروايات التي تهز الأوتار الحساسة، وتولد عواطف الحماسة، وتخلد في أعقاب الأمم الراقية شعور الوطنية والعواطف القومية!
ولقد سبق لنا أن ذكرنا أن نابوليون علم بنكبة أسطوله، وهو قادم من الصالحية، ثمل بنشوة الفرح والظفر على إبراهيم بك، ومن معه، وإن يكن قدا ساءه عدم استطاعته الحصول على ما كان مع إبراهيم بك وبقية الأمراء والمصريين من الثروة والخيرات، وقد روى «بوريين» في مذكراته أن كليبر قومندان الإسكندرية إذ ذاك، لما علما بنتيجة واقعة إبي قير، أوفد للقاهرة ضابطا من أركان حربه ببيان مفصل فلما وصل إلى القاهرة لم يجد نابوليون بها والتقى ببوريين كاتم أسراره، فعلم منه بتفاصيل الواقعة وكلفه بالسفر إلى الصالحية لملاقاة القائدة العام، وهناك التقى به على بعد فرسخين من الصالحية.
روى كتاب الفرنساويين أن نابوليون لما تلقى نبأ تلك الفاجعة أظهر التجلد، وأسرع بالعودة إلى القاهرة، فدخلها في يوم 15 أغسطس، وكانت الأخبار قد أشيعت في القاهرة، وشملت الكآبة من علم بذلك من الضباط والقواد، وقد روى الشيخ الجبرتي الحكاية الآتية، بمناسبة شيوع أخبار معركة أبي قير قال:
تحدث الناس بتلك الأخبار فصعب على الفرنساويين واتفق أن بعض النصارى الشوام نقل عن رجل شريف يسمى السيد أحمد الزور من أعيان التجار بوكلة الصابون أنه تحدث بذلك فأمروا بإحضاره وذكروا لذلك «كذا في الأصل» فقال: أنا حكيت ما سمعته من فلان النصراني فأحضروه أيضا، وأمروا بقطع لسانيهما أو بدفع كل واحد منهما مائة ريال فرنسية نكالا بهما، وزجرا عن الفضول فيما لا يعنيهما، فتشفع المشايخ فلم يقبلوا، فقال بعضهم: أطلقوهما ونحن نأتيكم بالدراهم فلم يرضوا، فأرسل الشيخ مصطفى الصاوي فأحضر مائتي ريال ودفعها في الحضرة.
فتأمل في هذه المعاملة الغريبة التي يظهر منها تغيظ الفرنساويين وشديد رغبتهم في أن لا يذاع نبأ تحطيم عبارتهم، ويظهر أن الفرنساويين الذين فعلوا ذلك لما أحضر الشيخ الصاوي النقود خجلوا من أنفسهم، ووبختهم ضمائرهم؛ إذ يقول الشيخ الجبرتي: «فلما قبضها الوكيل ردها ثانية إليه، وقال: فرقها على الفقراء فأظهر أنه فرقها كما أشار وردها إلى صاحبها، فانكف الناس عن التكلم في شان ذلك.»
Shafi da ba'a sani ba