هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقا. ولنبتدئ لبيان هذا المعنى بيانا آخر فنقول إن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول من جهة كثرته المذكورة وخصوصا إذا فصل كل فلك إلى صورته ومادته فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحدا هو المعلول الأول. ولا أيضا يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للمتأخر وذلك لأن الجرم بما هو جرم لا يجوز أن يكون مبدأ جرم وبما له قوة نفسانية لا يجوز أن يكون مبدأ جرم ذي نفس أخرى وذلك لانا بينا إن كل نفس لكل فلك فهو كماله وصورته فليس جوهرا مفارقا وإلا لكان عقلا لا نفسا وكان لا يحرك البتة إلا على سبيل تشويق وكان لا يحدث فيه من حركة الجرم تغير ومن مشاركة الجرم تخيل وتوهم. وقد ساقنا النظر إلى إثبات هذه الأحوال لأنفس الأفلاك كما علمت. وإذا كان الأمر على هذا فلا يجوز أن تكون أنفس الأفلاك تصدر عنها أفعال في أجسام أخرى غير أجسامها إلا بوساطة أجسامها فإن صور الأجسام وكمالاتها على صنفين - أما صور قوامها بمواد تلك الأجسام فكما أن قوامها بمواد تلك الأجسام فكذلك ما يصدر عن قوامها يصدر بوساطة مواد تلك الأجسام - ولهذا السبب فإن النار لا تسخن حرارتها أي شيء اتفق بل ما كان ملاقيا لجرمها أو من جسمها بحال والشمس لا تضيء كل شيء بل ما كان مقابلا لجرمها. وأما صور قوامها بذاتها لا بمواد الأجسام كالأنفس. ثم كل نفس فإنما جعلت خاصة بجسم بسبب أن فعلها بذلك الجسم وفيه ولو كانت مفارقة الذات والفعل جميعا لذلك الجسم لكانت نفس كل شيء لأنفس ذلك الجسم فقط. فقد بان على الوجوه كلها أن القوى السمائية المتعلقة بأجسامها لا تفعل إلا بوساطة جسمها ومحال أن تفعل بوساطة الجسم نفسا لأن الجسم لا يكون متوسطا بين نفس ونفس. فإن كانت تفعل نفسا بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم واختصاص بفعل مفارق لذاتها ولذات الجسم وهذا غير الأمر الذي نحن في ذكره وإن لم تفعل نفسا لم تفعل جرما سماويا لأن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال فإن وضع لكل فلك شيء يصدر عنه في فلكه شيء وأثر من غير أن يستغرق ذاته في شغل ذلك الجرم وبه ولكن ذاته مباينة في القوام. وفي الفعل لذلك الجسم فنحن لا نمنع هذا. وهذا هو الذي نسميه العقل المجرد ونجعل صدور ما بعده عنه ولكن هذا غير المنفعل عن الجسم وغير المشارك إياه والصائر صورة خاصة به. والكائن على الجهة التي حدثنا عنه حين أثبتنا هذه النفس فقد بان ووضح أن للأفلاك مبادئ غير جرمانية وغير صور
Shafi 229