لكن قارن ذلك بفيلسوف يقول: «العقل عنصر لا نهائي يكمن وراء ظواهر الكون جميعا، الطبيعي منها والروحي على السواء، وهو العنصر الذي تستمد منه جميع الأشياء وجودها.» فأول ما تلاحظه هنا هو أن اللغة المستخدمة في هذه العبارة قد سيقت على نحو فيه كثير من الغرابة، وهي نفسها الغرابة التي قد يضيق بها من لم يتعود الفلسفة ولغتها، وأما من تعود هذه اللغة وألفها فسيقرأ العبارة مطمئنا لها راضيا بها؛ فإن فهمها كان بفهمه سعيدا، وإلا فالذنب ذنبه هو؛ لأنه لم يدرب نفسه بعد على الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة الأغوار. وإذن فلنترك هذا الذي قد أعماه الإلف فلم يعد يرى في الغريب غرابته، ولنتصور عالما من علماء الطبيعة - مثلا - قد أراد نفسه على فهم هذه العبارة. إنه نشأ نشأة تحتم عليه أن يكون الكلام مرتبا على نحو يجعل لكلماته معنى مما يرتد إلى هذه الحاسة أو تلك، إنه بحكم نشأته العلمية لا يخشى الفكر المجرد؛ لأن قوانينه العلمية كلها تجريد، كلا ولا هو يخشى طول البراهين ودقتها؛ لأنه قد تعود في مجاله العلمي أن يتتبع البرهان العلمي في شوطه الطويل ذات المراحل الكثيرة والتفصيلات الدقيقة، وهو حريص أشد الحرص على ألا تفلت منه دقيقة من دقائق الفكرة؛ لأنه يعلم أن شيئا كهذا كفيل أن يفسد البرهان من أوله إلى آخره. عالمنا - إذن - ليس أقل حرصا على دقة الفهم ودقة الفكر من صاحبنا الفيلسوف قائل هذه العبارة المراد فهمها، وليس أقل قدرة منه على التعميم والتجريد، فماذا عسى أن يفهم العالم الطبيعي من عبارة كهذه؟
تقول العبارة: «العقل عنصر لا نهائي.» والعالم الطبيعي يألف هذه الألفاظ كلها، لكنه لم يألف أن ترتب هذا الترتيب. إنه يعلم أدق العلم ماذا يكون «العنصر» حين يقال له إن الماء مركب من «عنصرين». وهو على دراية تامة بمعنى كلمة «عقل» حين يقال له - مثلا - إن العالم يستخرج نظرياته العلمية بعقله غير متأثر بعواطفه. وكذلك قل في لفظ «اللانهائي»؛ فما أكثر ما يستخدم الرياضيون هذه الكلمة وهم على علم دقيق بما يريدون لها من معنى. لا صعوبة إذن في الألفاظ مأخوذة فرادي، لكن الصعوبة تبدأ حين تضم هذه الألفاظ بعضها إلى بعض على هذا النحو العجيب، فكيف يكون «العقل» «عنصرا» إذا كان «العقل» صفة تصف جانبا من السلوك الإنساني، و«العنصر» كلمة تسمي المادة حين لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط تركيبا؟ ثم يمضي الفيلسوف في عبارته السالفة، فيقول إن «العقل يكمن في شتى ظواهر الكون». فهل يمكن للعالم الطبيعي أن يفهم لهذا الكلام معنى ؟ إن أجسام الحيوان والنبات والجبال والأنهار كلها من ظواهر الكون، أفتكون هذه «الأجسام» «عقلا»؟ العقل طريقة سلوك معينة، بحيث أصف به جانبا من سلوك الإنسان دون جانب؛ فالذي يستدل النتيجة من مقدماتها يسلك سلوكا «عاقلا»، أما الذي يهضم الطعام أو يتثاءب مللا فليس ذلك منه «عقلا»، أفيكون هذا الجبل أو هذه الشجرة أو ما شئت من «أجسام» حية وجامدة «عقلا»، ثم يكون لهذا الكلام معني مفهوم؟
إذن فلماذا يقول الفيلسوف كلاما كهذا؟ لعله يريد أن يقول إن كل ما في الوجود يسير نحو غاية معينة سيرا يشبه سير العقل في انتقاله من مقدمة إلى نتيجة، وإذا كان هذا مراده فلماذا يختار لهذا المعنى عبارته تلك التي تجعل العقل عنصرا، وتجعله شيئا لا نهائيا، وتضعه وراء الكائنات جميعا؟ ومع ذلك فحتى بعد هذا التعديل في عبارة الفيلسوف تعديلا يقربها إلى عقل العالم الطبيعي، فلن يزال هذا العالم على عجبه وتعجبه؛ لأنه سيسأل صاحبنا الفيلسوف، كما تعود أن يسأل زملاءه العلماء: ما التجربة التي أجريها لأستيقن من صدق هذا القول؟ أو بعبارة أخرى، ماذا عساي أن أرى بعيني أو أسمع بأذني في هذه الشجرة - مثلا - لأقول بعدئذ إن جوهرها «عقل»، وإنها استمدت وجودها من «عقل»؟
1
كلا، إن فيلسوفنا لم يقم حكمه ذاك على مشاهدات أو تجارب، إن العالم حين سأله هذا السؤال، فاته أن منهج الفيلسوف غير منهج العلم؛ ذلك أن منهج الفيلسوف في صميمه هو أن يخلع ما بنفسه على العالم الخارجي؛ أليس يحس الإنسان في نفسه قوة تدفعه إلى غايات معينة فيسلك إلى هذه الغايات سبلها الموصلة؟ إذن فلينظر إلى الكون كله بمنظار نفسه ليراه - كما يرى نفسه - مدفوعا إلى غايات وملتمسا إلى تلك الغايات سبلها، وإذن فهو كون يسوده عقل ويسيره عقل كما يسود العقل الإنسان ويسيره.
هكذا يصف الفيلسوف التأملي العالم بما يجده في نفسه هو، بل إنه حتى في هذا الوصف الذاتي يستخدم الألفاظ على نحو لا يجعلها واضحة المعنى؛ ولذلك قلنا عنه إنه أقرب إلى الشاعر منه إلى العالم، إلا أن الشاعر رجل يعرف حدوده، وأما الفيلسوف فعلى كثير من ضلال؛ وذلك لأن الشاعر يخلع حالاته النفسية على الطبيعة الخارجية وهو على وعي بذلك، فإن قال - مثلا - عن زهرة إنها ضاحكة، فهو على وعي تام بأن الضحك والنشوة في نفسه هو، خلعهما على الزهرة حين مزجها بنفسه، وأما صاحبنا الفيلسوف حين يخلع حالاته النفسية على العالم الخارجي فإنه يتجاهل ذلك أو يجهله؛ فلو قلت للفيلسوف الذي رأى في نفسه عقلا فخلع العقل على الكون كله، لو قلت له «هذا منك تشبيه»، ركب رأسه وأصر على أنه إنما يقول عن العالم حقا لا شبهة فيه، وأنه مفكر موضوعي ينظر إلى الخارج بغض النظر عن ذات نفسه، حتى وإن اتخذ من ذات نفسه وسيلة لمعرفة ما يجاوزها.
لو اعترف الفيلسوف التأملي بأنه من فصيلة الشعراء، يحس دخيلة نفسه ثم يعبر، لقبلنا عباراته على هذا الأساس بصدر رحب، ثم أحلناها على نقدة الأدب ليقولوا رأيهم فيها؛ أهي من الأدب الجميل أم إنها خلو من الجمال الأدبي فتلقى بين المهملات، لكنهم يأبون على أنفسهم إلا أن يكونوا من أصحاب الفكر الموضوعي الذين لا ينطقون عن عاطفة وهوى؛ فالفيلسوف الذي زعم لنا في عبارته التي أسلفناها أن جميع الأشياء تستمد من «العقل» وجودها، وأن «العقل» عنصر كامن وراء ظواهر الكون كلها، المادية منها والروحية على السواء، هذا الفيلسوف إنما يقول ما يقوله لا على أساس أنه مجرد تشبيه للكون بالإنسان تشبيها هو أقرب إلى الأدب منه إلى العلم، بل على أساس أنه «الحق» في ذاته، وهو يسخر من العلم إذا زعم له أن حقيقة الكون مادية لا عقلية؛ إذ إن الكون المادي - في رأيه - هو نفسه أحد المظاهر التي عبر بها «العقل» عن نفسه؛ هذا العالم المادي - في رأيه - قوامه «العقل»، كما أن هذا الكتاب الذي بين يديك قوامه الورق، واضحك بعد ذلك ما شئت، فأنت أنت الجاهل الذي لم ير «الحق» كما رآه الفيلسوف صاحب الرأي المذكور.
هكذا يبدأ الفيلسوف التأملي بالتشبيه، تشبيه الطبيعة بنفسه، ثم ينسى أنه تشبيه، فيمضي في تفكيره كما لو كان ذلك التفكير مرتكزا على واقع حقيقي ملحوظ. إنه يتحدث بلغة «الصورة» ويظن أنه يتحدث بلغة الأفكار المجردة، أو أنه يجسد الفكرة المجردة في خياله تجسيدا يوهمه بأنها قد أصبحت كبقية الأجساد، كصاحبنا هذا الذي جسد فكرة «العقل» حتى انقلب «العقل» بين يديه مادة يصنع منها الكون.
ويطول بنا الحديث لو طفقنا نتتبع الفلسفات التأملية الكبرى، كفلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة سبينوزا وفلسفة هيجل ومن إليهم؛ لنبين أنها في صميمها قائمة على «التشبيه»؛ تشبيه الكون بالإنسان، أو تشبيه ما هو مجرد بما هو عيني محسوس، فلنترك الحديث في هذا الآن لنعود إليه في مواضع متفرقة من هذا الكتاب.
2
Shafi da ba'a sani ba