محك الصدق في كل كلام يدعي صاحبه أنه يقول به شيئا عن العالم هو أن يرتد هذا الكلام إلى أولياته التي منها تكون، وهذه الأوليات قضايا أولية تشير إلى مواقف جزئية من إدراكنا الحسي، والقضية الأولية يمكن تعريفها بأنها القضية التي تنشأ منسوبة إلى حالة جزئية من حالات الإدراك الحسي، فتكون هذه الحالة الإدراكية الحسية نفسها هي شاهد صدقها، بحيث لا يطلب على صدقها دليل آخر من قضية أخرى، وكذلك تكون القضية الأولية على صورة تجعلها مستحيلة على النقض بقضية أخرى من نفس صورتها؛ أي إن أي قضيتين أوليتين لا يمكن أن يتنافرا إذا كانتا مستمدتين من إدراكين حسيين مختلفين؛
1
ومعنى ذلك بعبارة أخرى هو أننا لو رتبنا كل معلوماتنا عن العالم الطبيعي ترتيبا يجعل كل خطوة في البناء مستمدة من خطوة سابقة، وجدنا أن الأساس الأول الذي أقيم عليه البناء كله هو حالات من الإدراك الحسي، كل حالة منها تعبر عنها قضية أولية.
هذه الجمل الأساسية الأولية التي هي محكات الصواب في معارفنا التجريبية، قد شغلت جماعة الوضعيين المنطقيين منذ أول تكوينها في فيينا، لكنهم لم يكونوا فيها على رأي واحد؛ فمنهم من ذهب إلى الرأي الذي أسلفناه، والذي نأخذ به ونؤيده، وهو أن يكون محك الصواب للعبارة اللغوية شيئا غير اللغة نفسها وخارج نطاقها، وهو الخبرة الحسية، ولكن منهم كذلك من رأى رأيا آخر، مثل «نوراث» و«همبل» و«كارناب»، وهو رأي لا نؤيدهم فيه ولا نأخذ به، ومؤداه أن ليس هناك مجموعة من القضايا الأولية مما يمكن أن نقول عنه إنه الأساس الأول لبناء علمنا التجريبي كله، بحيث تكون تلك القضايا الأولية بمثابة المقدمات الأولى، وبقية أجزاء البناء بمثابة النتائج التي ترتبت على تلك المقدمات. وهم يذهبون إلى أن الحق كله، كائنا ما كان موضوعه، رياضيا كان أو تجريبيا، متوقف على تكوين الجمل اللغوية واستدلال بعضها من بعضها الآخر، وليس هو متوقفا - حتى في العلوم التجريبية - على علاقة الجمل بوقائع الخارج؛ ذلك أن القضية المعينة - كائنة ما كانت - إنما تكون صوابا أو لا تكون بالنسبة إلى المجموعة الرمزية التي توضع فيها وتكون جزءا منها؛ فإن وضعت في مجموعة بحيث يكون بينها وبين سائر الأجزاء اتساق وائتلاف وعدم تناقض كانت صوابا هناك، لكنها هي نفسها يمكن أن تنتزع من تلك المجموعة وتوضع في مجموعة أخرى لا تتسق معها فتكون خطأ هنا. وعند هؤلاء الذاهبين هذا المذهب من جماعة المنطقيين الوضعيين أنه يستحيل المقابلة بين اللغة من ناحية وبين ما ليس بلغة من ناحية أخرى، ولا يمكن المقارنة التي يكون أحد طرفيها «جملة لغوية» إلا بجملة لغوية أخرى، لا بحالة من الإدراك الحسي؛ أي إن عالم اللغة - بناء على هذا الرأي - عالم مغلق على نفسه، ومحال على من يريد التسلل منه إلى العالم الخارجي أن يجد له منفذا.
إن وجهة نظرهم هذه هي نفسها التي شرحناها في الفصل السابق قائلين إنها النظرة التي تبين طبيعة العلوم الرياضية، لكن هذه الطائفة من فلاسفة الوضعية المنطقية تريد أن تعمم النظرة نفسها لتشمل كل أنواع الكلام، تحليليا كان أو تركيبيا تكراريا أو إخباريا، من العلوم الرياضية أو من العلوم الطبيعية، مع أن أقوال الرياضة - كما شرحنا بالتفصيل في الفصل السابق - تحصيلات حاصل، وأقوال العلوم الطبيعية ذوات مضمون خبري، ولا بد أن يكون هنالك اختلاف بين الحالتين في وسائل التحصيل ووسائل التحقيق معا. وهم بمحوهم للفرق الجوهري بين الحقائق الرياضية والحقائق الطبيعية إنما يرتدون - على غير وعي منهم - إلى مذهب العقليين ديكارت وسبينوزا وليبنتز، والمثاليين أمثال هيجل؛ فهؤلاء جميعا يجعلون معيار الحق اتساقا والتئاما بين أجزاء النسق الفكري، بحيث يخلو هذا النسق من التناقض، فلا يقال عن «ق» إنها «ليست ق» في النسق الواحد. وكل الفرق بين هيجل - مثلا - وبين نوراث هو هذا: أن القضية الواحدة عند هيجل تكون إما صادقة صدقا مطلقا أو باطلة بطلانا مطلقا؛ لأن هنالك نسقا واحدا تكون هذه القضية جزءا منه. وأما نوراث فلا يرى ما يمنع أن نبني أي عدد شئنا من النسقات كل منها يتسق بعضه مع بعض، بحيث يمكن للقضية الواحدة أن تتسق في نسق ما فتكون صوابا فيه، وألا تتسق في نسق آخر فتكون باطلة فيه. «نوراث» و«همبل» هما على رأس القائلين بهذا الرأي من بين جماعة الوضعيين المنطقيين، وقد شرحاه في مقالات نشر بعضها في مجلة «التحليل
Analysis »، ونستطيع أن نلخص رأيهما فيما يأتي: (1) كل قضايا العلم، بما في ذلك القضايا الأساسية التي نتخذها محكا لصدق ما عداها، إنما تساق نتيجة لقرارات إرادية يقررها زاعمو تلك القضايا، ولهم أن يغيروها، وكل ما يراعونه في كل حالة هو أن تكون مجموعة القضايا العلمية المزعومة على اتساق بعضها مع بعض. (2) فإذا قلنا عن قضية علمية معينة إنها باطلة، كان أساس حكمنا هذا هو أننا وجدناها متنافرة مع بقية القضايا العلمية، لا تتسق معها في بناء فكري واحد. (3) فبدل أن يكون لدينا نسق واحد من القضايا بحيث نقول عنه إنه النسق الذي لا نسق سواه، يمكن أن نبني نسقات عدة كل واحد منها تتسق أجزاؤه، لكنها في جملتها يختلف الواحد منها عن سواه، أما أي هذه النسقات هو الذي ينطبق على العالم فذلك أمر يقرره السلوك العملي ولا يقرره المنطق؛ لأن النسقات كلها عند المنطق سواء.
ولمن شاء أن يرجع إلى مقال هام نشره «همبل»
2
في عدد يناير لسنة 1935م من مجلة التحليل، يعرض فيه هذا المذهب الذي أخذ به بعض القادة من جماعة الوضعية المنطقية. وهو يتتبع في مقاله ذاك كيف تطور الأمر من الأخذ بالقضايا الذرية التي انتهى إليها وتجنشتين بتحليله على أن تكون هي السند النهائي الذي نستند إليه في رد الجملة التجريبية إلى مقوماتها الأولية، حتى إذا ما بلغنا هذه المرحلة من التحليل خرجنا من حدود اللغة إلى عالم الأشياء لموازنة كل قضية ذرية مع واقعتها التي تقابلها في ذلك العالم. تطور الأمر من الأخذ بهذا الرأي إلى القول بأن مجموعة القضايا في البناء العلمي الواحد إنما تستند في صدقها إلى جمل أساسية، يسمونها «جمل البروتوكول»، تكون بمثابة المقدمات الصادقة لبقية القضايا العلمية، وصدقها ذاك كان أول الأمر متوقفا على أنها نتيجة ملاحظة مباشرة، ثم وجد فيما بعد أنها في الحقيقة أوليات تفرض فرضا وتختار اختيارا من رجال العلم، بحيث يجوز لهم أن يغيروها فتتغير النتائج حتى يحافظوا على الشرط الواحد المطلوب للحق المنطقي، وهو اتساق الأجزاء وخلوها من التناقض.
ويروي لنا «همبل» في هذا المقال عن «كارناب» رأيه القائل بأنه ليس هنالك في بناء العلم أوليات مطلقة تكون هي المقدمات الصادقة التي ليس غيرها مقدمات، والتي تأتي القضايا العلمية كلها بعد ذلك نتائج لها؛ فللعرف العلمي أن يتفق على أي أساس شاء المشتغلون بالعلم؛ لأن العبرة في النهاية هي بأن تجيء مجموعة قوانينهم وأقوالهم بناء متسقا. وليس معنى هذا - هكذا يقول «همبل» - أن «كارناب» و«نوراث» ينكران أن يكون إلى جانب عالم اللغة عالم آخر من واقع عيني، بل الأمر على خلاف ذلك؛ لأن العبارات اللغوية نفسها عندهما هي واقع من الواقع التجريبي؛ فكل ما أراداه هو أن يجعلا الناس على وعي تام بأن العبارة اللغوية المعينة إذا قيل عنها إنها «تعبر عن» واقعة خارجية معينة، فلا يجوز أن نخلط بين الطرفين بحيث تنمحي الفوارق بينهما، حتى لنظن أن الأولى هي نفسها الثانية، مع أن الأولى «لغة» والثانية «واقعة». وعالم اللغة وإن يكن هو نفسه جزءا من عالم الواقع، إلا أنه قائم بذاته، وله خصائصه التي تميزه من سائر أجزاء العالم الواقع؛ وكيف أعرف أن جملة ما هي الصواب؟ أعرف ذلك بأن أراها من حيث موضعها مع سائر الجمل التي أقولها في مجال القول الذي وردت فيه تلك الجملة؛ فإن اتسقت معها كانت صوابا.
Shafi da ba'a sani ba