إنه ليس هناك شيء اسمه «اللغة» بصفة عامة بحيث لا تكون لغة سواها، بل هنالك في شعوب الأرض لغات تختلف في رموزها وفي طرائق تركيبها، وليس يتوقف صواب الاستعمال أو خطؤه في لغة ما إلا على ما قد اشترطه أصحاب تلك اللغة بعضهم على بعض من حيث طرائق استخدام رموزها تكوينا وتحويلا. ولما كان هذا الاشتراط أمرا فيه حرية اختيار وليس هو ضربة لازب لا محيص للناس عن الأخذ بها، كان لأصحاب اللغة كل الحق في أن يشترطوا للغتهم ما شاءوا من رموز، وما شاءوا لهذه الرموز من قواعد في حالتي تكوينها جملا وتحويلها جملة إلى جملة تساويها أو لا تساويها. على أنه إذا ما تم الاتفاق وجرى العرف على اتفاق معين في كيفية بناء الجمل وتحويلها في لغة ما، كان على أصحابها بعدئذ أن يلتزموا ما قد تم الاتفاق عليه وجرى العرف به.
لهذا أمكن أن تقوم في العالم لغات عدة، لكل منها رموزها وقواعد تكوينها وتحويلها، والصواب والخطأ في التركيبة اللغوية المعينة لا يكون الحكم فيهما إلا بالرجوع إلى قواعد اللغة نفسها، وليس لأحد أن يسأل لماذا كانت التركيبة اللغوية الفلانية جائزة في هذه اللغة وغير جائزة في تلك؛ لأن الأمر مرهون بالاتفاق الصرف بين أهل اللغة على ما يكون خطأ أو صوابا في لغتهم. وإن اشتركت اللغات كلها في أصول واحدة، فإنما تشترك في الأصول المنطقية وحدها، كأن تكون اللغة مجموعة من رموز، وأن يكون في هذه الرموز ثوابت ومتغيرات، وأن يكون للرموز الثوابت معان محددة منذ البداية؛ ومن ثم تكون هي بمثابة البديهيات في بناء اللغة، وأن يكون للجمل قواعد معينة في تكوينها وقواعد معينة أخرى في تحويلها إلى ما يساويها أو ما يناقضها وهكذا.
وكان من أهم ما انتهى إليه كارناب في تحليله للغة واستخراج قوائمها المنطقية ، تفرقته الواضحة بين الجملة حين يكون تكوينها مطابقا لواقعة ما من وقائع العالم الخارجي مطابقة مباشرة، والجملة حين لا تكون كذلك على الرغم من أنها قد تبدو وكأنها تشير إلى واقعة من وقائع العالم؛ فلئن كانت الجملة من النوع الأول جملة لغوية بمعناها الصحيح، فالجملة من النوع الثاني هي في الحقيقة «شبه جملة»؛ لأنها تشبه الجملة الحقيقية في ترتيب ألفاظها، لكنها لا تؤدي ما تؤديه. ولنا أن نسمي الجملة من النوع الأول بالجملة الشيئية؛ لأنها تشير إلى شيء معين في العالم إشارة مباشرة، كأن نقول - مثلا - «هذا الكتاب عربي»، وأن نسمي الجملة من النوع الثاني بالجملة الشارحة؛ لأنها في حقيقتها - كما سنبين بعد - تتحدث عن كلمات أو عن جملة أخرى، ولا تتحدث عن شيء في العالم الخارجي حديثا مباشرا، كأن نقول - مثلا - إن «الكتاب» كلمة مركبة من ستة أحرف، أو إنها كلمة تحتوي على كاف واحدة وتاء واحدة وباء واحدة.
إنني لأرجو من القارئ أن يتمهل هنا في قراءته ليستوعب هذه التفرقة استيعابا يمكنه من إدراكها إدراكا دقيقا؛ وذلك لما تنطوي عليه من نتائج خطيرة؛ فليلاحظ جيدا أن المسمى واسمه ليسا شيئا واحدا، بل هما شيئان مختلفان أبعد اختلاف، وكل ما في الأمر أننا نتخذ من أحدهما رمزا ينوب عن الآخر في التفاهم؛ فليس جبل المقطم الذي هو بروز من الصخر في موقع معين من الأرض، هو نفسه «جبل المقطم» الذي هو كلمتان مكتوبتان بالمداد على الورق. جبل المقطم الشيء ليس هو نفسه «جبل المقطم» اللفظ؛ الأول صخر نمشي عليه ونبني عليه المنازل، والثاني قطرة من المداد سكبناها على صورة متفق عليها؛ فلو قلت «جبل المقطم صخوره رملية» كنت تقصد «جبل المقطم الشيء»، أما إذا قلت «جبل المقطم كلمتان عربيتان» كنت تقصد «جبل المقطم الاسم».
وكارثة الكوارث التي تصيب الإنسان في تفكيره فتضله وتفسده، هي أن يجري حديثه على غرار النوع الثاني فيحسبه جاريا على غرار النوع الأول. كارثة الكوارث في تفكير الإنسان هي أن يجيء حديثه في حقيقته عن «كلمة» فيحسبه قد جاء عن «الشيء» الذي تسميه تلك الكلمة؛ وذلك لأنه كثيرا ما تكون الكلمة التي هي مدار الحديث اسما بغير مسمى في عالم الواقع، فيظن المتحدث أنه ما دام قد تحدث عن الاسم فقد تحدث عن المسمى، مع أنه لا مسمى هناك، ولو كان مثل هذا الخطأ قليل الوقوع لهان أمره، لكن ما ظنك وهو خطأ يقع كلما استخدم الإنسان في حديثه كلمة كلية عامة؟ فأنت مثلا إذا قلت عبارة كهذه «المصري يتصف بالصبر»، فقد تظن أنك إنما تتحدث بها عن «شيء» في عالم الواقع، مع أن «المصري» كلمة ليس لها في ذاتها مدلول فيما عدا الأفراد الذين هم مصريون والذين لكل منهم اسم خاص به؛ وإذن فحقيقة الأمر هنا هي أنك تقول إن «المصري» كلمة تطلق على فلان وفلان وفلان ممن يتصفون بالصبر. وإذا أردت أن تدرك الفرق بين الحالتين، فقل عبارة أخرى كهذه «الغول حاد الأضراس»، ثم سل نفسك: أأتحدث بهذه العبارة عن «شيء» أم أتحدث عن «كلمة»؟ واضح أنك هنا تتحدث عن كلمة «غول» ولا تتحدث عن شيء مجسد من أشياء الواقع، فكأنما تقول: الغول كلمة نطلقها على كائن يكون حاد الأضراس. أما أن تكون هذه الكلمة اسما لمسمى أو لا تكون فذلك أمر آخر. وهكذا قل في كل جملة موضوعها اسم كلي عام، فهي جملة بحكم تكوينها النحوي لا بحكم تكوينها المنطقي؛ لأنها إنما تتحدث عن «كلمة» لا عن «شيء»، تتحدث عن «اسم» لا عن «مسمى»، وقد يكون للكلمة شيء يقابلها وقد لا يكون.
وأولى مهام الفلسفة عند كارناب هي هذا التحليل الذي يبين إن كانت الجملة المعينة تحمل إشارة مباشرة إلى العالم الخارجي؛ وبهذا يجوز لها أن تكون جزءا من مادة علم معين، أم إنها بدل أن تشير إلى الأشياء نفسها تتحدث عن مدركات أو قضايا أو نظريات؛ أي تتحدث لا عن أشياء العالم الخارجي، بل عن الكلمات والعبارات التي نتحدث بها عن تلك الأشياء. ومثل هذا التحليل كفيل أن يوضح لنا متى تكون الجملة ذات معنى (إما ذات معنى مباشر بإشارتها إلى أشياء العالم الواقع، أو ذات معنى غير مباشر بتحدثها عن عبارة أو لفظة تشير إلى أشياء العالم الواقع) ومتى لا تكون.
وإذا جعلنا من الفلسفة تحليلا كهذا، انتهى بنا الأمر إلى تحديد لمهمة الفلسفة تحديدا يجعل منها علما؛ لا لأنها تعنى بالمدركات العلمية والقضايا العلمية فحسب، بل لأنها عندئذ ستنهج منهج العلم في الدقة والتحديد. نعم إنها لن تشغل نفسها قط بما يشغل به العلم نفسه من مشكلات تتصل بأمور الواقع؛ لأن هذه الأمور مقسمة بين العلوم الخاصة، كل منها يتناولها من إحدى نواحيها، لكنها كذلك لن تخلق لنفسها عالما آخر من «حقائق واقعة» تتصوره قائما إلى جانب العالم الواقعي المادي الذي نعيش فيه حياتنا اليومية، أقول إنها لن تخلق لنفسها عالما خاصا بها، تتحدث عنه وتجعل منه موضوعا خاصا تسميه «ميتافيزيقا» تصول فيه وتجول ولا تسمح للعلماء أن يناقشوها فيه الحساب؛ من أين جاءت بالشواهد الدالة على صدق ما تدعيه؟ كلا، إن الفلسفة بالمعنى المحدد الذي نريده لها لا تورط نفسها في مجالات العلوم الخاصة، ولا تخلق لنفسها مجالات أخرى غير مجالات العلوم، بل تجعل مهمتها تحليلا منطقيا للمدركات العلمية والقضايا العلمية، وبهذا تصبح الفلسفة فلسفة للعلم؛ أي تصبح منطقا للعلم أو تحليلا له، وهدفها هو التوضيح لا الإضافة الجديدة؛ فليس هناك من عالم إلا عالم الواقع، وليس لأحد أن يتحدث عن العالم حديثا موضوعيا إلا رجال العلوم المختلفة، وللفلسفة أن تجيء بعد ذلك فتحلل وتوضح. للعلم أن يقرر، وللفلسفة أن توضح له ما يقرره، والخير كل الخير أن يجيء التوضيح نفسه على أيدي العلماء أنفسهم؛ لأنهم مشربون بمواد علومهم، لكنهم إذا ما فعلوا فلن يكونوا عندئذ علماء، بل يصبحون فلاسفة لعلومهم التي يتناولونها بالتوضيح والتحليل.
الفصل الرابع
الكلمات ومدلولاتها
1
Shafi da ba'a sani ba