وجاء أنصار هذه الجماعة الفلسفية الجديدة فوجدوا أمامهم منطقا جديدا خلقته المدرسة التحليلية من أمثال «رسل» و«مور»، كما ساعدت على خلقه طائفة من علماء الرياضة الذين شغلتهم علاقة الرياضة بالمنطق، مثل «فريجه» و«بيانو»، وهؤلاء وأولئك جميعا قد استعانوا في تحليلاتهم المنطقية والرياضية بما كان قد صنعه فريق من رجال المنطق الرمزي الجديد، الذين أرادوا أن يستخدموا طرائق الرياضة في ضبط عبارات اللغة كلها مستعينين في ذلك بالرموز الرياضية نفسها التي نستخدمها في الجبر مثلا، فإذا هم أفلحوا فيما أرادوا استطعنا أن نحول كل نقاش إلى شيء قريب من عمليات الجبر أو الحساب.
أقول إن جماعة فيينا حين جاءت بثقافتها العلمية لتتناول الفلسفة من زاوية جديدة، تناولا يجعل من الفلسفة تحليلا لقضايا العلوم، ويزيل عنها ما كانت تنوء تحته من أثقال ميتافيزيقية، وجدت أمامها أداة منطقية مرهفة شحذها قبلهم فريق آخر ممن ذكرناهم. ولئن كان هذا الفريق قد أرهف تلك الأداة المنطقية ليستعين بها في تحليل الرياضة بصفة خاصة، فقد أرادت هذه الجماعة الجديدة - جماعة فيينا - أن تستخدمها في تحليل العلوم بصفة عامة؛ وإذن فهي جماعة تجعل قضايا العلوم المختلفة من رياضة وطبيعة وعلم نفس واجتماع، تجعل قضايا هذه العلوم كلها موضع تحليلها تحليلا منطقيا ، على أن تكون أداة التحليل هي ذلك المنطق الرمزي الجديد الذي بلغ أقصى ما بلغه من غاية على يدي برتراند رسل.
إننا إذ نقول إن جماعة فيينا قد جعلت من قضايا العلوم موضوعها الرئيسي تتناولها بالتحليل المنطقي، فلسنا نريد بذلك أن أبحاثها تتعرض لمضمون تلك القضايا العلمية بأي وجه من الوجوه؛ إذ المضمون التجريبي لقضايا العلوم هو من شأن العلماء كل في ميدان تخصصه، فليس من الخير أن يتحدث عن الطبيعة من ليس من علمائها، أو أن يتحدث عن الإنسان من ليس من علماء النفس، وهكذا، لكنك إذا اطرحت من القضية مضمونها التجريبي، بقيت لك صورتها المنطقية العارية، وفي هذه الصورة العارية تستطيع أن ترى من أجزاء إطارها الهيكلي ما تتعذر عليك رؤيته حين تكون تلك الصورة مكتسية مليئة بما كان فيها من مضمون وفحوي. هذه قاعدة أولية من قواعد الفلسفة الجديدة، وهي أن لا شأن للفيلسوف بأي شيء مما يتصل بأمور الواقع؛ لأن هذا هو شأن العلماء كل في موضوعه، وأن المشكلة المطروحة للبحث إذا ما مست موضوعا قوامه الخبرة والتجربة والمشاهدة، فليست هي مما يجوز أن يقع في اختصاص الفيلسوف؛ لأنها من صميم البحث العلمي بمعناه الخاص، وأما الفلسفة فمهمتها الوحيدة هي التوضيح والتجلية لما يقوله العلماء، وهي توضح ما توضحه وتجلي ما تجليه ببيان الهيكل المنطقي الذي يحمل مادة تلك القضايا؛ ليظهر ما بين الأجزاء من علاقات، فيبرز الكامن ويتعرى الخبيء؛ فما أكثر ما تكون فكرة متضمنة لفكرة، وقضية مستلزمة لأخرى، ولا يبدو ذلك إلا بالتحليل المنطقي؛ ثم ما أكثر ما تكون النظرية في العلوم مجرد صيغة اتفاقية اصطلح عليها العلماء اصطلاحا فنظنها صورة تصور عالم الواقع، أو أن يكون القانون العلمي قائما على الاحتمال ثم نحسبه يقينا، أما العلماء أنفسهم - من حيث هم علماء - فلا يخوضون في أمثال هذه المشكلات؛ لأنهم منصرفون إلى النتائج العملية دون الجذور المنطقية لما يزعمون من نظريات وقوانين، ولكن فريقا منهم أو من غيرهم قد تستوقفه أمثال هذه الأمور فيطيل النظر إليها، وعندئذ يكون فيلسوفا علميا بالمعنى الذي نريده للفلسفة.
وبعبارة أخرى، لئن كان العلم معنيا بالمعرفة من حيث مضمونها، فالفلسفة معنية بالمعرفة من حيث إطارها وهيكلها. وأول ما نذكره في هذا الصدد هو أن هذا الإطار أو الهيكل قوامه ألفاظ لغوية تتركب على هذه الصورة أو تلك، فتكون هذه الفكرة أو تلك؛ وإذن فالجانب اللغوي من العبارة المعينة هو بمثابة الجسد، نفخت فيه فكرة ما - إن جاز لنا هذا التعبير - أما الفكرة المبثوثة في العبارة فهي من المعرفة مضمونها وفحواها، وأما الجسد اللغوي فيها فهو العمد التي يرتكز عليها ذلك المضمون أو الفحوى المقصود؛ فإن عني العلم - على اختلاف موضوعاته - بمضمون العبارة اللغوية المعينة، فمهمة الفلسفة أن تعنى بطريقة بنائها، لا من حيث القواعد الخاصة بلغة معينة دون سائر اللغات (فهذه مهمة علماء اللغة)، ولكن من حيث القواعد المنطقية العامة التي تنطبق على اللغات جميعا باعتبارها وسائل الإنسان للتعبير عن فكره، وهكذا؛ فلو تناولت قضية علمية معينة، وحللت عبارتها تحليلا يبرز خصائصها المنطقية، فأنت عندئذ لا تبحث في مادة ذلك العلم، بل تبحث في منطقه، والفلسفة عند جماعة فيينا ومن يدور مدارهم هي منطق العلوم بهذا المعنى.
3
مهمة الفلسفة عند أنصار الوضعية المنطقية هي تحليل العبارات والألفاظ من حيث بناؤها المنطقي العام، لا من حيث طرائق استخدامها في لغة بعينها، وتحليل العبارات والألفاظ على هذا النحو هو نفسه تحليل للفكر من حيث صورته لا من حيث مادته، لكن هذه اللغة التي نريد تحليلها لا تقوم عند الناس بعمل واحد؛ فهي آنا تستخدم أداة رمزية تشير إلى أشياء ووقائع في عالم الطبيعة الخارجي، وآنا آخر تكون وسيلة يخرج بها المتكلم وجدانا تضطرب به نفسه كما يفعل الشاعر مثلا. وحين تريد الفلسفة التحليلية المعاصرة أن تجعل اللغة موضوعها، فإنما تريد اللغة في مهمتها الأولى؛ مهمة الرمز إلى أشياء العالم الخارجي ووقائعه، مضافا إلى ذلك البحث في العبارة اللغوية من حيث تكوينها وبناؤها تكوينا وبناء يجعلانها وحدة واحدة على الرغم من احتوائها على أجزاء هي الكلمات وما يشبه الكلمات من رموز؛ فإن كانت العبارة اللغوية مما يستدعي أن ننظر خارجها ليتم معناها بالإشارة إلى مسماها ، كانت داخلة في مجال العلوم الطبيعية أو ما يجري مجراها، وأما إن كان الأمر يقتصر على العبارة نفسها، بحيث تكون طريقة تكوينها وحدها دالة على معناها وعلى صدقها، كانت داخلة في العلوم الرياضية أو ما يجري مجراها. بعبارة أخرى، تريد الفلسفة التحليلية المعاصرة أن تتناول اللغة من ناحية كونها أداة علمية، وليكن لها بعد ذلك من سائر النواحي ما شاء لها الناس.
محور البحث الفلسفي عند جماعة فيينا ومن جرى مجراهم هو اللغة دلالة وتركيبا؛ فإن كانت الدلالة هي هدف البحث، حصروا انتباههم في علاقة التطابق بين الصورة اللغوية من جهة والمصور العيني من جهة أخرى، كيف تكون؟ وتحديد هذه العلاقة بين الطرفين، اللغة من ناحية وعالم الأشياء من ناحية أخرى، هو ما يطلقون عليه اسم «السيمية»؛ أي «علم السمات».
14
غير أن الباحث في اللغة باعتبارها أداة تصويرية للواقع قد ينصرف أحيانا إلى داخل العبارات نفسها ليرى كيف ركبت أجزاؤها تركيبا جعل منها بناء واحدا، وعندئذ يطلقون على هذه المحاولة اسما آخر، هو «علم البناء اللفظي».
15
Shafi da ba'a sani ba