وعلم الهندسة في تطوره الحديث هو خير مثل يوضح لنا كيف تم الفصل بين ما يبنيه العقل وحده غير معتمد على تجربة خارجية، وبين ما هو واقع في الطبيعة؛ فقد لبثت هندسة إقليدس منذ عصر اليونان لا ينافسها منافس في ميدانها، ولم يشك أحد طوال القرون في أن نظريات تلك الهندسة الإقليدية - رغم كونها استدلالات عقلية صرف - فهي مع ذلك وصف للطبيعة كما هي قائمة. ومن ذا كان يتردد في أن كل مثلث في الطبيعة إنما يتصف بما تقول الهندسة الإقليدية إن المثلث النظري يتصف به، كأن يكون مجموع زواياه قائمتين وما إلى ذلك؟ كلا، لم يكن أحد ليشك في أن هندسة إقليدس صحيحة من الوجهة الرياضية النظرية ومن الوجهة الطبيعية التطبيقية على حد سواء، بل لم يكن أحد ليظن أن هذا التطابق بين نتاج العقل وواقع الطبيعة أمر يثير الدهشة أو يحتاج إلى برهان. والفضل يرجع إلى عمانوئيل كانت في أن الأمر يستوقف النظر ويستوجب البحث. نعم إن كانت نفسه لم يشك في قيام هذا التطابق بين الجانبين، لكنه على الأقل نبه الأذهان إلى أنه يحتاج إلى تفسير، وكان تفسيره هو نفسه مرتكزا على ما أسماه بالقضية «التركيبية القبلية»، وبتحليله لكيفية تكوين هذا النوع من القضية التي يعتمد مضمونها على التجربة، ومع ذلك يحكم الإنسان بصدقها بغض النظر عن التجربة.
لكن الأمر تغير حين بدا لعلماء الرياضة أخيرا أن يغيروا من فروض إقليدس - التي يبني عليها نظرياته - ليروا ماذا تكون نتائج هذا التغيير، ولفت أنظارهم بصفة خاصة الفرض الذي يقول إن من نقطة معينة خارج خط مستقيم يمكن رسم خط واحد فقط لا يتقاطع مع ذلك الخط الأول، وأما سائر الخطوط فلا بد أن تتقاطع معه في موضع ما من المكان (وليلاحظ القارئ أن النظرية التي تجعل زوايا المثلث قائمتين ناتجة عن هذا الفرض)، أقول إن هذا الفرض قد لفت أنظار الرياضيين أخيرا، ونخص بالذكر منهم «جون بولياي» المجري (1802-1860م)، و«لوباتشفسكي» الروسي (1793-1856م) و«جوس» الألماني (1777-1855م) و«ريمان» الألماني (1826-1866م)،
5
فهؤلاء جميعا قد بينوا إمكان الاستغناء عن الفرض الذي جعله إقليدس بين فروضه التي لا بد من تصدير بنائه الرياضي بها؛ إذ بينوا أن من نقطة معينة يمكن رسم أكثر من خط واحد مواز لخط آخر؛ ومن هنا نشأت عدة هندسات غير هندسة إقليدس، تختلف فيما بينها باختلاف ما يضعه الرياضي مكان هذا الفرض المحذوف.
بهذا تنشأ المشكلة التي تهمنا فيما نحن الآن بصدده، وهي إذا كان من الجائز رياضيا أن نبني عدة هندسات، ثم إذا كانت إحدى هذه الهندسات فقط هي التي تطابق الطبيعة الخارجية، فأيها يكون؟ افرض مثلا أن زوايا المثلث مجموعها في إحدى الهندسات يساوي قائمتين، وفي هندسة أخرى يساوي أكثر من قائمتين، وفي هندسة ثالثة يساوي أقل من قائمتين، فكيف نعرف أي هذه الهندسات الثلاثة هو الذي يصف المكان الطبيعي الخارجي حين تحدده ثلاثة أضلاع؟ أهو العقل الذي يهدينا أي هذه الهندسات ينطبق على الطبيعة؟ كلا؛ فالهندسات الثلاثة من بناء العقل على حد سواء، إنما هي المشاهدة التجريبية التي تقرر لنا ما ينطبق من نظريات الرياضة البحت وما لا ينطبق.
لكن كيف تتم هذه المشاهدة التجريبية؟ أتقول - مثلا - إنها مشاهدة لعمليات قياسية نقوم بها، فنقيس الأطوال والأبعاد والمساحات على الطبيعة لنرى ما هنالك؟ نعم، غير أن المشكلة هنا أعقد مما تظن، فكيف تقيس البعد بين نقطتين - مثلا - على الطبيعة؟ أتقيسه بوحدة قياسية كالمتر أو الميل أو ما شئت؟ لكن كيف تعلم أن الوحدة القياسية - المتر مثلا - لا يغير طوله حين تنقله من مكان إلى مكان؟ كيف تعرف أنك إذا قست به طولا هنا على الأرض، ثم حدث أن قست به طولا هناك على سطح القمر، ظل ثابتا في كلتا الحالتين لا ينقص ولا يزيد؟ ألا يجوز أن يكون انتقال الوحدة القياسية من مكان إلى آخر عاملا على تغير طولها، أم تقول إنك ستستوثق من ثبات الوحدة على حالها في الظروف المختلفة بأن تلجأ إلى ضبطها بوحدة أخرى؟ لكن هذه الوحدة الضابطة تقع في نفس المشكلة من جديد؛ لأنك ستضبط بها طول المتر هنا، ثم تنقلها معك لتضبط بها طول المتر هناك، وفي انتقالها هذا قد تتعرض لنفس ما كانت الوحدة القياسية الأولى قد تعرضت له من تغير في طولها بسبب التغير في مكانها.
كلا، إنه محال علينا أن نعلم على سبيل اليقين المطلق بأن بعدين في مكانين مختلفين متساويان؛ لأن انطباق وحدة قياسية معينة عليهما في مكانيهما المختلفين لا يضمن لنا هذا التساوي؛ إذ - كما قلنا - قد يكون من شأن الوحدة القياسية أن تغير من طولها في انتقالها من مكان إلى مكان، وليس ثمة وسيلة لضبط هذا التغير ومقداره، فما حيلتنا إذن؟
لا حيلة لنا سوى أن نفرض فرضا اتفاقيا بأنه إذا انطبقت الوحدة القياسية المعينة على بعدين في مكانين مختلفين، عددناهما متساويين بحكم الاتفاق لا بحكم الحقيقة الواقعة المطلقة. افرض أنك قست ارتفاع شخص فوجدته مترا وثلاثة أرباع المتر، ثم افرض أن كل ما في العالم قد زاد خمسة أمثاله بنسبة واحدة، فهل في وسعك أن تعلم ذلك؟ كلا؛ لأنك ستقيس الشخص نفسه بالمتر وستجده كما كان بالأمس مترا وثلاثة أرباع المتر، وليس هنالك من ضابط يبين لك إن كانت الوحدة القياسية قد تغيرت أم لبثت على ما كانت عليه بالأمس؛ لأن الوحدة الضابطة نفسها سيطرأ عليها التغير نفسه؛ وإذن فمحال على الإنسان أن يعلم إن كانت الأشياء اليوم محتفظة بنفس أطوالها وأبعادها بالأمس، أم زادت كلها بنسبة واحدة أو نقصت كلها بنسبة واحدة؛ وإذن فلم يبق أمامه سوى أن يفرض على سبيل الاتفاق أن أطوال اليوم هي نفسها أطوال الأمس.
وما معنى ذلك كله؟ معناه أن الطبيعة كما هي قائمة فعلا لا يمكن الحكم عليها حكما مطلقا، بل إن أحكامنا عليها «نسبية» تتوقف على أسس نتفق عليها اتفاقا؛ فالأبعاد المتساوية هي ما نقول نحن عنه إنه أبعاد متساوية، حين نفرض لأنفسنا فرضا أن الوحدة التي نقيس بها التساوي لا تتغير بتغير ظروفها. وهذا هو «المبدأ الاتفاقي» في المنهج العلمي الذي يقول به هنري بوانكاريه
6
Shafi da ba'a sani ba