كامل بن حسين الشهير بالغزّي
ولد كامل بن حسين بن محمد بن مصطفى البالي الحلبي الشهير بالغزّي في حلب سنة ١٢٧٠ هـ / ١٨٥٣ م أو قبلها بسنة في أقرب الروايات وتوفي فيها سنة ١٣٥١ هـ / ١٩٣٣ م.
نبت في بيت علم وشرف فقد كان أبوه الحسين من أشهر رجال الشام في الفقه والحديث والأدب، توطن حلب قادمًا من غزة في منتصف القرن الثالث عشر للهجرة ولبث فيها مدرسا بالمدرسة السيافية في محلة الفرافرة.
حرص ذووه على تعليمه وتثقيفه منذ بلغ سن الطلب فدفعوه إلى الكتّاب حيث أتم تلاوة القرآن الكريم، ثم سعى إلى الشيوخ في بلده فأخذ العلم عن الشيخ محمد الكحيل والشيخ مصطفى الكردي وغيرهما. ولم يكتف بما تلقاه عن أساتذته من علوم الدين، من فقه وحديث وتوحيد وفرائض وما يخدمها من علوم اللسان، بل أضاف إليها باجتهاده بعض العلوم الأخرى، مما لم تكن تتسع له مناهج الدرس في أيامه، ومن ذلك التاريخ الذي عمق معلوماته فيه استنادًا إلى مؤلفات من سبقه من فحول المؤرخين كالطبري وابن الأثير وابن العديم وغيرهم. ولقد تقلّد عددًا من المناصب الرسمية في بلده.
بلغ الغزي بعلمه وجدّه منزلة فريدة عند الحكام، وقد اشتهر منذ شبابه بسعة الثقافة، وحب المطالعة، وبذكاء واضح وعقل راجح، ونفس لا تعرف التعصب، ولا عجب في ذلك، فقد كان أصدقاؤه من مختلف الأديان. كما وعرف عنه أنه أولع باقتناء الكتب منذ صباه، فكان يطوف الأسواق والخزائن في المشرق والمغرب متحريًا النفيس من أصنامها. حتى اجتمعت له منها خزانة نفيسة عامرة عدها البعض أنها واحدة من أشهر خزائن حلب لوقته.
هذا الاطلاع الواسع، وتلك الخزانة العامرة اللذان توفرا للغزي جعلاه يتمتع بثقافة موسوعية مكّنته من كتابة مؤلفات كثيرة.
آثاره المطبوعة
فمن آثاره المطبوعة: إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف، نهر الذهب في تاريخ حلب وغيرها.
آثاره المخطوطة
ومن آثاره المخطوطة: ديوان شعر، الروضة الغناء في حقوق النساء وغيرها.
علاوة على عشرات المقالات العلمية والتحقيقات اللغوية والتاريخية المبثوثة في كبريات الصحف العربية والسورية.
Shafi da ba'a sani ba
[الجزء الاول]
كلمة الناشر
تتابع «دار القلم العربي» خطّتها التي انتهجتها لنفسها، وهي نشر التراث الحلبي الثمين، وتعريف الناس به، وتيسير وصوله إلى القراء عامة، والعلماء والباحثين خاصة، من مخطوطات قديمة، أو مطبوعات أصبحت نادرة الوجود.
وها هي ذي تعيد طباعة كتاب «نهر الذهب في تاريخ حلب» بمجلداته الثلاثة، للمؤرخ العلامة كامل الغزي، بحلّة قشيبة، وتحقيق جديد قام به الدكتور شوقي شعث، والأستاذ محمود فاخوري، بعد أن قامت الدار بطباعة «إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء» بمجلداته السبعة للعلامة الطباخ. وكلا الكتابين متمم للآخر، وبهما معا تكتمل صورة حلب في مختلف جوانبها، ومع أن هذين الكتابين هما لرجلين صديقين ومتعاصرين، وأنهما طبعا أول مرة في وقت واحد تقريبا، فلن يغني أحدهما عن الآخر، لأن كلا من المؤلفين كان يعمل في كتابه مستقلا عن الآخر، وهنا تكمن الفائدة للباحث والدارس.
وسوف تواصل دار القلم العربي خطواتها هذه في خدمة التاريخ والأدب والثقافة.
والله من وراء القصد.
حلب: ٤ من ذي الحجة ١٤١١ هـ ١٦/٦/١٩٩١ م الناشر علاء الدين الرفاعي
1 / 5
مقدمة
حلب، ونهر الذهب
«حلب مدينة عظيمة واسعة، كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء ...
وشاهدت من حلب وأعمالها ما استدللت به على أن الله تعالى خصّها بالبركة، وفضّلها على جميع البلاد.. وأما قلعتها فبها يضرب المثل في الحسن والحصانة.. وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء.. وقد أكثر الشعراء من ذكرها ووصفها والحنين إليها» .
ذلك مجمل ما قاله ياقوت الحموي عن حلب في كتابه «معجم البلدان»، وقد زارها وأقام فيها غير مرّة. وليس هو الوحيد الذي أشاد بهذه المدينة ونوّه بفضلها، فهناك أقوال كثيرة مماثلة للرحالة والجغرافيين العرب والغربيّين الذين زاروها، أو أقاموا فيها، وقد أجمعوا كافة على أن حلب من أقدم المدن العامرة في العالم، ولا تزال حتى اليوم زاخرة بالحياة، مزدهرة بالحضارة والعمران، بعد أن مرّت بأحقاب متلاحقة منذ القرن العشرين قبل الميلاد، وعرفت أمما شتّى تعاقبت عليها، كما عرفت الأمجاد التليدة، من جهة، والكوارث والزلازل من جهة أخرى، وهي بعد ملتقى الطرق التجارية الكبرى لقوافل الشرق والغرب، ثم إنها مدينة الآثار والأسوار، والأبراج والأبواب، وقد بقيت محافظة على تراثها الثمين، وكنوزها الأوابد، وجلال أبنيتها القديمة، وهذا ما جعل المؤرخين يهتمون بها، حتى إن ما ألّف فيها وحدها من كتب تاريخية يسترعي الانتباه بكثرته وتنوعه، منذ أن كتب حمدان الأثاربي (- ٥٢٠ هـ) كتابه «القوت» في تاريخ حلب، حتى ألّف الغزي (- ١٣٥١ هـ- ١٩٣٣ م) كتابه «نهر الذهب»، وبينهما كتب كثيرة منها المطبوع، ومنها المفقود، ومنها الذي لا يزال مخطوطا.
ونكتفي- فيما يلي- بذكر ما طبع حتى اليوم من تلك الكتب عن حلب: ١- تاريخ حلب: لمحمد بن علي العظيمي (- ٥٥٦ هـ) . طبع في دمشق ١٩٨٤ م بتحقيق إبراهيم زعرور.
1 / 7
٢- بغية الطلب في تاريخ حلب: لابن العديم (- ٦٦٠ هـ) . طبع في دمشق في ١١ مجلدا سنة ١٤٠٨ هـ/ ١٩٨٨ م بتحقيق: د. سهيل زكار.
٣- زبدة الحلب في تاريخ حلب: لابن العديم أيضا. اختصر به كتابه السابق «بغية الطلب»، وقد نشره المعهد الفرنسي بدمشق سنة ١٩٥١ م في ثلاثة أجزاء بتحقيق د. سامي الدهان.
٤- الدرّ المنتخب في تاريخ مملكة حلب: ينسب إلى ابن الشحنة (- ٨٩٠ هـ) . طبع في بيروت سنة ١٩٠٩ م بعناية يوسف سركيس، ثم نشرته مصورا دار الكتاب العربي بحلب سنة ١٩٨٤ م. وربما كان أصل هذا الكتاب لابن الشحنة، ثم تعاقب على التصرف فيه عدة مؤلفين، وكل منهم زاد فيه ما وصل إليه علمه.
٥- الزّبد والضّرب في تاريخ حلب: لابن الحنبلي (- ٩٧١ هـ) اختصر به كتاب «زبدة الحلب» لابن العديم، وأضاف إليه بعض الزيادات. طبع في الكويت سنة ١٤٠٩ هـ بتحقيق د. محمد التونجي.
٦- درّ الحبب في تاريخ أعيان حلب: لابن الحنبلي أيضا. طبع بدمشق سنة ١٩٧٢- ١٩٧٣ م بتحقيق محمود الفاخوري ويحيى عبارة. ويقع في جزءين ضخمين، وكل منهما يتألف من قسمين.
٧- معادن الذهب في الأعيان المشرّفة بهم حلب: لأبي الوفاء العرضي الحلبي (- ١٠٧١ هـ) . طبع في دمشق ١٩٨٧ بتحقيق د. محمد ألتونجي، ولم يعثر إلا على قطعة منه تضم ٦٩ ترجمة.
٨- اليواقيت والضرب في تاريخ حلب: نسب إلى «إسماعيل أبي الفداء»، ولا يعرف شيء عن مؤلفه. والمكنّون بأبي الفداء ممن يسمّون «إسماعيل» كثر. نشرته دار القلم العربي بحلب، بتحقيق محمد كمال وفالح البكور.
٩- التاريخ الطبيعي لحلب: ألفه بالإنكليزية الطبيب البريطاني «باتريك راسل» (- ١٧٦٨ م)، وعاونه فيه أخوه «إسكندر» . طبع في جزءين بلندن سنة ١٧٩٤ م.
١٠- تحف الأنباء في تاريخ حلب الشهباء: جمعه الطبيب الجرماني «بيشوف» من «زبدة
1 / 8
الحلب» لابن العديم، ومن كتب أخرى، ونسبه لنفسه وطبعه في بيروت سنة ١٨٨٠ م.
١١- نهر الذهب في تاريخ حلب: للشيخ كامل الغزي (- ١٣٥١ هـ/ ١٩٣٣ م) وسوف نخصه بكلمة مفردة.
١٢- إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء: للشيخ محمد راغب الطباخ (- ١٣٧٠ هـ) .
طبع في حلب سنة ١٩٢٦ م في سبعة أجزاء، ثم نشرته دار القلم العربي بحلب سنة ١٤٠٩ هـ/ ١٩٨٩ م وقام بتصحيحه محمد كمال.
١٣- حلبيات: ألفه عبد الله يوركي حلاق، صاحب مجلة «الضاد»، ونشره في حلب سنة ١٩٨٣ م.
يضاف إلى هذه الكتب الثلاثة عشر، كتب أخرى تناول كل منها بعض الجوانب من تاريخ حلب أو أدبائها، أو آثارها. وهي كثيرة نذكر منها على سبيل المثال، مما ورد في عنوانه اسم «حلب»:
١- أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر: لقسطاكي الحمصي الحلبي (- ١٩٤١ م) ترجم فيه لخمسين علما من أعلام حلب. طبع سنة ١٩٢٥ م بحلب، ثم أعيد طبعه فيها سنة ١٩٦٧ م.
٢- محاضرات عن الحركة الأدبية في حلب (١٨٠٠- ١٩٥٠): لسامي الكيالي.
طبع في القاهرة سنة ١٩٥٧ م ضمن منشورات معهد الدراسات العربية العالية.
٣- الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب: ألّفه بالفرنسية المستشرق «جان سوفاجيه»، ثم عرّبه محمد أسعد طلس وعلّق عليه تعاليق مفيدة، وأضاف إليه معلومات جديدة، وأصلح أخطاء وقع فيها المؤلف. طبع في دمشق سنة ١٣٧٥ هـ- ١٩٥٦ م.
٤- الحركة الفكرية في حلب (في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين): لعائشة الدباغ، طبع في بيروت سنة ١٣٩٢ هـ- ١٩٧٢ م.
٥- أحياء حلب وأسواقها: لخير الدين الأسدي، حققه وزاد عليه وقدّم له: عبد الفتاح رواس قلعه جي. وطبع في دمشق سنة ١٩٨٤ م، ضمن منشورات وزارة الثقافة.
1 / 9
٦- موسوعة حلب المقارنة: لخير الدين الأسدي. نشرها معهد التراث بجامعة حلب في سبعة مجلدات سنة ١٩٨٤- ١٩٨٥ م وأعدّها للطباعة محمد كمال.
٧- بنو مرداس الكلابيون في حلب وشمال الشام: د. محمد أحمد عبد المولى. طبع في الإسكندرية سنة ١٩٨٥ م.
٨- أخبار حلب كما كتبها نعوم بخاش في دفاتر الجمعية: نشر منه جزءان بحلب سنة ١٩٨٥- ١٩٨٦ م بتحقيق وتعليق الأب يوسف قوشاقجي.
٩- الحركة الشعرية زمن المماليك في حلب الشهباء: د. أحمد فوزي الهيب. طبع في بيروت سنة ١٤٠٦ هـ- ١٩٨٦ م.
١٠- الحركة الشعرية زمن الأيوبيين في حلب الشهباء: د. أحمد فوزي الهيب. طبع في الكويت سنة ١٤٠٧ هـ- ١٩٨٧ م.
١١- الحياة الفكرية في حلب (في القرن التاسع عشر): لفريد جحا. طبع في دمشق سنة ١٩٨٨ م.
١٢- إمارة حلب في ظل الحكم السلجوقي: لمحمد ضامن، رسالة ماجستير نشرتها دار أسامة (دمشق- بيروت) سنة ١٩٩٠ م.
1 / 10
نهر الذهب
أما كتاب «نهر الذهب في تاريخ حلب» الذي ألّفه الشيخ كامل الغزي «١»، فقد طبع منه في حياته ثلاثة أجزاء بين سنتي ١٩٢٢- ١٩٢٦ م ثم نفدت هذه الطبعة حتى أصبحت نادرة جدا، ندرة المخطوطات، وطال انتظار الناس لطبعة ثانية تيسّر تداوله بين أيديهم وإفادتهم منه.
قسم الغزي كتابه هذا إلى مقدمة ضخمة، وأربعة أبواب كبيرة، وزعها على أجزاء الكتاب.
١- فالجزء الأول: يشتمل على المقدمة وحدها، كما فعل ابن خلدون في (مقدمة) تاريخه الكبير. وتكلم الغزي فيها على عدة أمور لا يتمكن القارئ دونها من الوقوف على ما انطوى عليه المكان الذي يؤرّخ له، ومن حقائق وأوصاف وأحوال. ومن ثم فإنه ذكر بعض من ألّف في تاريخ حلب، ثم انتقل إلى الكلام على أسماء حلب وجغرافيتها بالتفصيل، وما مدحت به من الشعر والنثر، وتحدث عن الأوزان والمقاييس المستعملة فيها، وعن صناعاتها ونباتاتها وحيواناتها وتجاراتها ومدارسها، وما يقوم على أرضها من مختلف الملل والنحل، والعادات والتقاليد، والنظم الإدارية والمالية، وما يتبع (حلب) من الأقضية والنواحي والألوية.
٢- والجزء الثاني: يشتمل على الباب الأول برمّته. وقد خصّصه للكلام على أحياء حلب ومعالمها التاريخية وأوابدها الأثرية، بعد أن بدأه بالكلام على أسوار المدينة وأبوابها وقلعتها. وهو يسجل كل ما وقعت عليه عيناه من تراث معماري وعمراني وآثاري في مدينة حلب. ولا يفوته أن يتحدث عن الأوقاف التي كان ينفق منها على الجوامع والمساجد، والتكايا والمدارس، وكذلك نفقات الفرش والترميم والبناء. وقد استفاد في كل ذلك من عمله الذي كان يزاوله في المحكمة الشرعية بحلب، والذي سهّل له الرجوع إلى سجلات تلك المحكمة، وكلها مخطوطة قد حوت الكثير من المعلومات القيّمة المفيدة.
1 / 11
ولا شك أن الأحوال قد تغيّرت اليوم عما كانت عليه في عصر الغزي قبل سبعين سنة تقريبا، حيث اتّسع البناء في حلب وما زال يتسع، وأقيمت أحياء سكنية جديدة كحيّ السبيل، والمحافظة، والشهباء، وحلب الجديدة، والحمدانية، وصلاح الدين.. إلخ. وهذا ما سبب تغييرا جذريا في طبقات الناس، وأعدادهم، وفي بعض عاداتهم وتقاليدهم، حتى أصبح الأمر يحتاج إلى كتاب آخر يكون ذيلا لنهر الذهب.
٣- والجزء الثالث: يشتمل على الباب الثاني من أبواب الكتاب، وفيه يتقصى تاريخ حلب منذ أقدم العصور حتى عصر المؤلف في الربع الأول من القرن العشرين. ويدخل في ذلك ذكر الأمم التي سكنت حلب والدول التي حكمتها، وكذلك فتح المدينة في صدر الإسلام والحوادث التي طرأت عليها بعد ذلك وما أصابها من زلازل وكوارث.. نتيجة لتنقل الدول وتبدل الحكام، وتعاقب الحروب والأوبئة، والفتن والمجاعات. وقد سار في ذلك كله على ترتيب السنين الهجرية، سنة سنة، حتى عصره، حين حلّ الانتداب الفرنسي في سورية، ويفصل في الكلام على أحوال حلب في ظلّ هذا الانتداب.
ويختم هذا الجزء بخلاصة مركزه عدّد فيها الأماكن القديمة التي يقصدها السيّاح في مدينة حلب وضواحيها، وكذلك الأماكن التي هي مظنّة لوجود العاديات والذخائر النفيسة.
وبذلك ينتهي الجزء الثالث، حيث قال في آخره ما نصّه:
«انتهى الجزء الثالث من كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب، ويليه الجزء الرابع: المشتمل على الباب الثالث المفتتح بقولي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده» .
لكن هذا الجزء لم يطبع حتى اليوم، ولا ندري أكان معدّا للطباعة في حياة المؤلف نفسه، أم إنه كان ينوي تأليفه بعد أن ينتهي من طبع الأجزاء الثلاثة؟ لكن الدلائل تشير إلى أن مسوّدته- على الأقل- كانت موجودة ثم انتقلت إلى الورثة، يدل على ذلك العبارة التي ختم بها الجزء الثالث، من جهة، وما في الأجزاء الثلاثة من بعض الإحالات- في تراجم الرجال- على الجزء الرابع من جهة أخرى، حتى إن الطباخ يذكر في «إعلام النبلاء» «١» أن كتاب نهر الذهب في أربعة مجلدات، تصفح منها ثلاثة، ونقل منها ترجمتين اثنتين.
1 / 12
ونحن نزيد على ذلك أنه ربما كان في نيّة الغزي أن يؤلف جزءا خامسا يشتمل على الباب الرابع من الكتاب، بحسب تقسيمه هو لأبواب كتابه.
ومهما يكن من أمر فقد بذلت مساع كثيرة للحصول على الجزء الرابع المفقود أو للعثور عليه، ولكن تلك الجهود ذهبت أدراج الرياح، وتبددت الآمال المنشودة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الغزي قد اعتمد في تأليف كتابه على مصادر كثيرة، مطبوعة ومخطوطة. في التاريخ والاجتماع، والأدب واللغة، ذكر بعضها في مواضع من كتابه، وأغفل بعضها الآخر. ويعد كتابه «نهر الذهب» - إلى جانب كونه في تاريخ حلب- موسوعة ثقافية واجتماعية وعمرانية تتلاقى فيها صور الماضي الغابر بالحاضر الراهن في زمن الغزي، وكثيرا ما كان يستطرد إلى ذكر موضوعات جانبية مفيدة في أثناء تناوله لبعض الظواهر، كحديثه عن التصوير في الإسلام، وعن قهوة البنّ واكتشاف حبّه أول مرة ...
وقد أنفق الغزي في سبيل جمع كتابه. وتأليفه سنوات طويلة من عمره، فقال في مقدمته:
«وبعد، فإني منذ زمن بعيد أعاني جمع هذا الكتاب، وأصرف على تأليفه من نقد عمري وجوهر مالي ما يستكثر مثله من أمثالي. وقد تتبعت من أجله العدد الكثير من الكتب التاريخية وغيرها، وتصفحت زهاء مائة مجلّد من السجلات المحفوظة في المحكمة الشرعية، وتكبدّت عناء زائدا في الاطلاع على دفاتر الدوائر الرسمية، وعلى ما هو مدّخر في المكتبات الخيرية والأهلية من المجاميع والرّقاع.. وكنت في أثناء استقصائي أخبار الآثار أضطرّ في بعضها إلى تحمل مشاقّ الأسفار، لأتمكن من الاطلاع على حقيقة حالها، وأكتب عنها كتابة تحقيق، لا كتابة تقليد وتلفيق» .
يقول الدكتور سامي الدهان «١»: «والواقع أن الذي يميز هذا الكتاب من سواه، أن صاحبه أعمل فيه الرويّة والعقل، والنقد والتمحيص، والتثبت والتبويب، أكثر مما يعمل النقل والتقليد والرواية على علاتها، فكان تاريخا على الطريقة الحديثة سبق به زمانه، وكفى المؤلفين بعد زمانه مؤونة التأليف في مثله، فقد نظر في المصادر العربية القديمة، واستطاع أن يعرف ما في المصادر الأجنبية عن سبيل أصدقائه من الفرنجة المقيمين بحلب، أو المسيحيين المطّلعين على
1 / 13
خزائن الغرب في هذا الموضوع. وكان الرجل متسامحا أشد التسامح، يأخذ عن المصادر المختلفة، من أي جهة كانت» .
أما أسلوب المؤلف في كتابه فإنه سهل واضح، وبعيد عن الصنعة والتأنق، وتلك سمات النثر التأليفي الذي يتناول به صاحبه موضوعات اجتماعية وتاريخية وعمرانية وما إليها، وربما وجدنا في الكتاب أحيانا فقرات تبدو عليها مسحة فنية من التأنق، وغلالة رقيقة من الصنعة، وهذا ظاهر في مقدمات أجزاء الكتاب، أو في نصوص وقفية طلب من الغزي إنشاؤها في مناسبات خاصة، فيأتي أسلوبه فيها على طريقة كتاب عصره آنذاك.
وظاهرة أخرى نجدها في كتاب الغزي، تلك أنه يترخّص في بعض التعابير أحيانا، وقد يتساهل في الالتزام بقواعد اللغة والرسم (الإملاء) ولا سيما كتابة الهمزة في وسط الكلمة، وربما تصرّف في بعض النصوص التي ينقلها. عرفنا ذلك من مقابلة تلك النصوص بأصولها القديمة التي لم يكن لها في عصره إلا طبعة وحيدة. وهو تساهل مألوف لدى كثير من المؤلفين، ولا سيما المتأخرين منهم.
والحق أن كتاب «نهر الذهب» ذو قيمة كبيرة، ويتجلّى فيه الجهد الوافر، والعمل الشخصي، والابتكار الظاهر، مع تخير وانتقاء، ونقد وتمحيص، دون أن يكتفي صاحبه بالجمع من المصادر وحدها، ولا غنى عنه لكل باحث أو دارس في تاريخ حلب خاصة، وسورية الشمالية عامة، ولا يغني عنه غيره، على الرغم من كثرة ما ألف عن حلب، كتبه عالم جليل سعى جهده ليكون كتابه شاملا لأحوال حلب في شتى المجالات والعصور، فجاء مرجعا مهما لكل من يريد الإحاطة بتاريخ حلب السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والفكري، وما فيها من الآثار والأوابد، وما طرأ عليها من تطور حتى الربع الأول من القرن العشرين.
ولا شك أن مدينة حلب ومختلف مرافق الحياة فيها قد تبدلت اليوم وتطورت كثيرا عما كانت عليه في زمن الغزي، بعد مرور سبعة عقود من السنين، وهذا كله يقتضي تأليف كتاب آخر ينهض بما استجدّ من ألوان الحياة والعادات والعمران والثقافة والاقتصاد والزراعة وما إلى ذلك. وكان بودنا أن نضيف ذلك في تعليقاتنا على الكتاب، ولكننا وجدنا في ذلك إثقالا وإملالا للقارىء، وتضخيما لحجم الكتاب بما لا مسوّغ له. فاكتفينا بما هو ضروري من تلك
1 / 14
التعليقات «١» - والكتاب خال منها تماما- إذ كانت النية في أول الأمر طبع الكتاب بطريقة التصوير، ثم وجدت «دار القلم العربي» أن إخراج الكتاب بحلة طباعية جديدة، وتحقيق جديد، فيه نفع كبير للقرّاء والباحثين، بدلا من أن تبقى أجزاء الكتاب كما كانت عليه قبل سبعين عاما، وقبل ظهور الطباعة التقنية الحديثة.
وعندئذ كان لا بد من تصحيح ما وقع في الطبعة الأولى من أخطاء مطبعية، وسهو في الالتزام بقواعد الرسم والإملاء، أو وقوع في أغلاط عارضة، فضلا عن القيام بشرح العبارات والألفاظ التي تحتاج إلى ذلك، وتوضيح بعض الجوانب التاريخية والآثارية في المواضع التي تقتضي هذا التوضيح، مع توخي الإيجاز والاختصار. كما عدنا إلى ما استطعنا الوصول إليه من مصادر المؤلف لمقارنة النصوص الشعرية والنثرية التي أوردها، وتدارك ما وقع فيها من تحريف أو خلل أو نقص، وأشرنا في حواشي الكتاب إلى ما هو مهم وضروري، من ذلك، وأغفلنا الإشارة إلى ما هو ثانوي ولا يخفى تصويبه أصلا على القارئ.
ذلك مبلغ الجهد الصادق في خدمة كتاب «نهر الذهب»، نشرا وطباعة، وتصحيحا وتحقيقا، وضبطا وتعليقا، ونرجو أن نكون عند حسن ظن القراء والباحثين.
والله الهادي إلى الإخلاص في القصد، والسداد في القول.
حلب في: ٤ من ذي الحجة ١٤١١ هـ ١٦ من حزيران ١٩٩١ م المحققان الدكتور شوقي شعث الأستاذ محمود فاخوري
1 / 15
كتاب نهر الذّهب في تاريخ حلب تأليف كامل البالي الحلبي الشّهير بالغزّي الجزء الأوّل
1 / 17
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الأول والآخر، والظاهر والباطن، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو الذي يمنح السراء، ويدفع الضرّاء، ويحقق الرجاء، ويجزل العطاء. يغفر الذنب، ويقبل التوب، ويمحو الحوب «١»، ويستر العيوب، ويكشف المكروب. وينعم بالراحة بعد اللّغوب «٢» .
لا راد لما قضاه، ولا معاند لما ارتضاه. فليس بالإمكان، أبدع مما كان. جعل لكل نبأ مستقرا. ولكل شيء في حكمته البالغة مظهرا ومستسرا. وزّع على عباده السعادة والشقاء، والراحة والعناء، والعسر واليسر، والنفع والضر، والخذلان والنصر.
وشاء في قدره المحتوم، وعلمه المكتوم، أن يكون منهم الظالم والمظلوم، والحاكم والمحكوم. ثم أورد الكل مورد الفناء والعدم، وتفرد سبحانه بالبقاء والقدم.
وصلى الله وسلم على محمد بن عبد الله، حبيبه ومجتباه. نبي قص علينا ما فيه عبرة لنا فبلّغ وصدق، كما قص الله عليه من أنباء ما قد سبق. بشّر من اتبعه ووالاه، وأنذر من خالفه وناواه. وعلى آله وأصحابه الأطهار، رواة الأخبار، وحملة الآثار.
وسلم تسليما كثيرا.
وبعد فإني منذ زمن بعيد أعاني جمع هذا الكتاب، وأصرف على تأليفه من نقد عمري، وجوهر مالي، ما يستكثر مثله من أمثالي. وقد تتبعت من أجله العدد الكثير من الكتب التاريخية وغيرها، وتصفحت زهاء مائة مجلد من السجلّات المحفوظة في المحكمة الشرعية وتكبدت عناء زائدا في الاطلاع على دفاتر الدوائر الرسمية. وعلى ما هو مدخر في المكتبات الخيرية والأهلية من المجاميع والرقاع الخصوصية التي سطرها
1 / 19
ذووها في بعض شؤن تاريخية، ذات أهمية عظيمة في وقتها. فكنت لا أصل إلى ما يهمّني أمره من بعض هذه المواد، إلا بعد عناء شديد ونفقة باهظة.
وكنت في أثناء استقصائي أخبار الآثار، أضطر في بعضها إلى تحمل مشاقّ الأسفار.
لأتمكن من الاطلاع على حقيقة حالها، وأكتب عنها كتابة تحقيق، لا كتابة تقليد وتلفيق.
لم أزل مثابرا على هذا العمل، لا يعوقني عنه عائق، ولا يصرف همتي عنه صارف حتى يسرّ المولى لي إتمام هذا الكتاب اللابس من المحاسن أجمل جلباب فجاء بحمد الله تعالى تاريخا مفردا في بابه، فائقا جميع أترابه، من الكتب التاريخية الحلبية، جامعا أشتات ما تفرق فيها على اختلاف نزعاتها وأساليبها. فإنه جمع بين ذكر أخبار حلب وملحقات ولايتها وبين ذكر أخيارها وآثارها غير مقتصر على ذكر واحد منها، كأكثر التواريخ الحلبية السابقة.
وكنت كلما هممت بطبع هذا الكتاب وتدوينه إجابة لإلحاح الكثيرين المتشوقين إليه، عارضني بذلك سوء الظن باستحساني إياه، كمن قيل فيه:
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون
وناجاني وحي الضمير بقوله: لا تعجل بذلك، فعسى أن يكون استحسانك هذا من باب افتتان الرجل بشعره، وإعجاب المرء ببضاعته، أو هو من قبيل المثل: (القرنبى في عين أمها حسنة) «١» وحينئذ أضرب الصفح عن طبعه وتدوينه. وآخذ بالبحث عن طريقة أصل بواسطتها إلى معرفة حقيقة هذا الاستحسان: أهو حقيقي أم هو نوع من ذلك الافتتان. فلم أر في الوصول إلى هذا الغرض بعد البحث الطويل عنه- سوى طريقة واحدة، ألا وهي عرض الكتاب على كل من رغب بالاطلاع عليه، فكنت لا أضنّ بعرضه على كل وارد وصادر أتوسّم فيه سلامة الذوق، وصحة الانتقاد، وسجية الإنصاف، حتى عرضته على الجمّ الغفير من الذين عرفوا بممارسة التاريخ والوقوف على دقائقه، وكشف غوامضه. فكنت لا أسمع من كل من وقف عليه. وقرأ منه فصولا في
1 / 20
مواضيع مختلفة- سوى عبارات التقريظ والإطراء وإسداء الشكر والثناء. واستنهاض همتي لطبع هذا الكتاب وتدوينه بكل سرعة، حرصا على ثمالة «١» ما بقي من حياتي قبل نضوبها، كيلا يؤول أمر مسودة هذا الكتاب إلى الإهمال والضياع.
على أن لي الأمل الوطيد، أن يتلقى عشاق التاريخ، كتابي هذا برحب صدر، ويقبل عليه نصراء العلم وأعوان أهله إقبالا يذكر فيشكر، ولا سيما منهم أبناء الوطن العزيز.
فهم أولى من جميع الناس بالإقبال عليه. لأنه يخدم وطنهم المحبوب الذي حبّه بلا ريب من أقدس واجباتهم. كما نوه بذلك الخبر المأثور «حب الوطن من الإيمان»، وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب ﵁: (لولا محبة الأوطان لخربت) . وحكمة ذلك أن محبة الشيء تبعث على حفظه. وصيانته وجرّ النفع إليه ودفع الضرر عنه، وهي مقاصد لا تكون إلا بعد معرفته والاطلاع على محاسنه، إذ محبة المجهول غير معقولة، بل قد يكون الجهل بالشيء مدعاة إلى بغضه وكراهيته، على حد قول القائل: (المرء عدوّ لما جهل) .
وإني لأعجب من طلاب العلوم العمرانية العصرية. من أهل بلادنا إذا سألت أحدهم عن شأن من شؤون الممالك الغربية أجابك عن سؤالك بما يبلّ الغليل ويشفي العليل. وإذا سألته عن أقل شأن من شؤون وطنه أجابك عن سؤالك بالسكوت أو بقوله: لا علم لي بما تسألني عنه. ومعلوم أن الواجب على ساكن الدار أن يعلم أولا حقيقة داره وما اشتملت عليه من المحاسن والمساوي، ليعدّ لكل معنى عدّته. ويأخذ لكل شأن من شؤونها أهبته. ثم يتوسع بالعلم فيعلم حقيقة دار جاره، وما حوته من المحاسن والمساوي، استعدادا لطارىء يحوجه إلى أن يكون بها عالما وبشؤونها عارفا.
كنت شرعت بتأليف هذا الكتاب على صفة مفصلة مطولة، فجاءت مقدمته فقط في مجلد ضخم يستوعب نحو ألف صحيفة. فرأيت أنني إذا سرت بتأليفه على ذلك المنهج جاءت جملة الكتاب في نحو خمسة مجلدات ضخمة، مما يفضي إلى ملل القارئ. فعمدت إلى الاختصار ونحوت في تأليفه هذا المنحى وسميته «نهر الذهب في تاريخ حلب» ورتبته على مقدمة وأربعة أبواب:
فالمقدمة في الكلام على عدة أمور لا يتمكن القارئ دونها من الوقوف على ما انطوى
1 / 21
عليه المكان المؤرخ من حقائق صفاته الحسية والمعنوية التي اعتبر معرفتها مؤرخو هذا العصر من أهم الأمور التاريخية. على أن عامة المتقدمين ممن ألف في تاريخ حلب لم يتعرضوا إلا إلى القليل مما تضمنته هذه المقدمة. كما ستقف عليه قريبا. وسنتكلم على موضوع كل باب من بقية الأبواب في مقدمته إن شاء الله تعالى.
تنبيه: حيث ذكرت السنة مجردة عن الوصف فمرادي بها السنة الهجرية. ومتى أطلقت اسم الشهر الشمسي فمرادي به أحد شهور السنة الرومية الشرقية التي كانت معتبرة عند الدولة العثمانية في ماليتها وهي: (آدار أو مارت) وهو أول السنة، (نيسان)، (هيار أو أيار أو مايس)، (حزيران)، (تموز)، (آب أو أغستوس)، (أيلول)، (تشرين الأول)، (تشرين الثاني)، (كانون الأول)، (كانون الثاني)، (شباط) .
ومتى أطلقت اسم كيل أو وزن أو مقياس، فمرادي به ما هو مستعمل في أيامنا في حلب، الذي سنتكلم عليه في فصل الأوزان والكيول والمقاييس، كما أن مرادي من القرش واللّيرا أو الذهب العثماني ما سأذكره عنها في الذيل الذي أثبتّه آخر الفصل المذكور. وإذا أطلقت اسم الميل فمرادي به المقياس الفرنجي المعروف باسم (كيلو متر)، كما أن مرادي من الذراع هو الذراع المعماري المنوّه عنه في جدول الأوزان والكيول الآتي ذكره.
هذا وإن الدولة العثمانية كانت، قبل سنة ١٢٧٩ هجرية، مقتصرة في سجلاتها ومعاملاتها المالية على اعتبار التاريخ الهجري. ثم لما رأت لزوما لأن تضع لها موازنة مالية لضبط دخل الدولة وخرجها، اضطرها تبدل الفصول واختلاف أوقات المحاصيل إلى اعتبار تاريخ شمسي تستورد فيه مرتباتها العشرية وغيرها في أوقات معلومة مضبوطة فعولت على استعمال التاريخ الشمسي الشرقي المذكور. وصادف ابتداء استعماله سنة ١٢٧٩ هجرية.
فصارت تؤرخ به المعاملات المالية من ذلك الحين.
أعلام الرجال الموضوعة بين قوسين، لهم تراجم في باب تراجم الأخيار، فلتراجع هناك.
1 / 22
تواريخ حلب
عقدنا هذا الفصل قصد إعلام القارئ ببعض الكتب التي أخذنا منها قضايا تاريخنا هذا، فنستغني بذلك عن عزو المسائل إلى مآخذها، فنقول: أول من صنف تاريخا خاصا بحلب، ابن أبي طي (يحيى بن أبي حميدة) الحلبي، وسماه معادن الذهب، وهو تاريخ كبير، وله ذيل عليه كما حكاه بعض المؤرخين. ثم تبعه كمال الدين أبو حفص (عمر بن أبي جرادة) العقيلي المعروف بابن العديم الحلبي، فألف تاريخا جمع فيه تراجم أعيان حلب على ترتيب الأسماء وسماه «بغية الطلب في تاريخ حلب» وهو يبلغ نحو أربعين جزءا «١» وقد اخترمته المنية قبل إكمال تبييضه وكان انتزعه من كتابه الذي سماه «زبدة الحلب في تاريخ حلب» أحضرت منه قطعة طبعت في باريس، سطرت فيها بعض حوادث حلب من يوم فتوحها عن يد المسلمين إلى سنة ٣٣٦ وهي زبدة مشوبة بعدة أغلاط.
قال في كشف الظنون: وقد ذيل على بغية الطلب اليونيني اه. وذيله أيضا القاضي علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد الجبريني الشافعي الشهير بابن خطيب الناصرية المتوفى سنة ٨٤٣، وسمى الذيل: «الدر المنتخب» وهو معجم في تراجم الرجال في مجلدين ضخمين، ظفرت بهما.
قال في در الحبب ما ملخصه: ولما طالعه الحافظ أبو الفضل أحمد بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني حين قدومه إلى حلب سنة ٨٣٦ ألحق فيه أشياء كثيرة كما ذكره في ديباجة كتابه المشهور «بإنباء الغمر بأبناء العمر» وأثنى على صاحبه اه. قلت وما زاده العسقلاني على الدر المنتخب سماه الكواكب المضيّة، ذيل تاريخ ابن خطيب الناصرية.
وقد ظفرت به تماما وهو جزء صغير.
وذيل الدر المنتخب أيضا موفق الدين أبو ذر (أحمد بن إبراهيم) الشهير بسبط العجمي
1 / 23
الحلبي، وسمى ذيله «كنوز الذهب» ضمنه ذكر الأعيان والحوادث والآثار، ظفرت به مخطوطا بخط مشوّه جدا، هو خط المؤلف، وقد ذيل عليه رضي الدين (محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي)، وسمى ذيله «در الحبب» وضمنه ذكر الأعيان مرتبا أسماءهم على الحروف، وهو في مجلد وسط «١»، ظفرت به. وقد اقتصر فيه على ذكر أعيان سبعين سنة فقط وهي من سنة ٩٠٠ إلى سنة ٩٧٠. ومن تواريخ حلب كتاب حضرة النديم من تاريخ ابن العديم. انتزعه من بغية الطلب (الحسن ابن حبيب الحلبي) . ومنها معادن الذهب في الأعيان الذي تشرفت بهم حلب (لأبي الوفاء بن عمر العرضي) وقد تكلمنا عليه في ترجمة مؤلفه. وهو مجلد صغير ظفرت بقسم منه. ومنها تاريخ باللغة الإنكليزية خاص بالكلام على طبيعة تربة حلب ونباتاتها وحيواناتها وغير ذلك، وهو في مجلدين أولهما تأليف باترك روسل، وثانيهما تأليف أخيه اسكندر، قدم حلب بعد وفاة أخيه المذكور ليخلفه فيها بوظيفة طب أبناء جنسهما، وكان نجاز كتابهما المذكور سنة ١٧٥٣ م ١١٦٧ هجرية. وقد ظفرت بهذا الكتاب وطالعت معظمه بواسطة ترجمان.
ومنها تاريخ أبي عبد الله محمد بن علي العظيمي، على ما ذكره في كشف الظنون. ومنها تاريخ (بيشوف الطبيب الألماني) وسماه (تحفة الأنباء) في تاريخ حلب الشهباء، وسنتكلم عليه في الكلام على ترجمة مؤلفه. ومنها تاريخ محمد بن أحمد ابن محمد المعروف بابن المنلا، تعرض فيه لمن حكم حلب من زمن فتوحها إلى زمن الحاج إبراهيم باشا وذلك إلى سنة ١٠٨٠ وقد وقفت منه على كراريس متخرمة. ومنها تاريخ لرضي الدين، المعروف بابن الحنبلي المتقدم ذكره، انتزعه من بغية الطلب وسماه الزبد والضرب. ومنها بعض كراريس في تراجم الأعيان تنسب (لأبي المواهب أفندي ابن ميرو) وقد وقفت على مسودته.
تنبيه
المشهور بين الناس عندنا أن تاريخ حلب هو لابن الشحنة، فكلما حكى أحدهم خبرا عن أثر أو حادثة تتعلق بحلب نسبها إلى التاريخ المذكور، مع أننا لم نقف على تاريخ خاص بحلب مؤلف من قبل أحد بني الشحنة، والذي رأيناه منسوبا إليهم من التواريخ في تراجمهم
1 / 24
وفي كتاب كشف الظنون هو روضة المناظر أو الناظر أو النواظر في أخبار الأوائل والأواخر لمحمد بن محمد بن محمد بن محب الدين أبي الوليد ابن الشحنة، وهو المطبوع على الجزء الحادي عشر والثاني عشر من التاريخ الكامل لابن الأثير. ثم جاء بعده ولده محب الدين أبو الفضل، وصنف تاريخا سماه نزهة الناظر في روض المناظر، جعله كالشرح لتاريخ والده، وضمنه مصراعين، قسم بابهما إلى تسع طبقات، بعدد القرون التسعة، ذكر في كل طبقة منها حوادثها المشهورة على السنين ووفيات أعيانها المشهورين، على حروف المعجم، من غير تفريق بين الحلبيين وغيرهم. كما قسم أولاهما إلى ثلاثة فصول: الأول: في خلق آدم وما اتفق له ولأولاده. الثاني: في طبقات الأمم. الثالث: في الأمور المبشرة بظهور نبينا محمد ﷺ.
وألّف ذيلا آخر على روضة الناظر سماه اقتطاف الأزاهر.
ويوجد متداولا بين أيدي الناس كتاب مشهور عندهم بتاريخ ابن الشحنة «١» معظمه خاص في الكلام على حلب، وباقيه على بعض البلدان القريبة منها والداخلة في أعمالها.
وفيه أغلاط كثيرة مصدّر بخطبة أولها: «الحمد لله القديم الأزلي، الرحيم الأبدي، مكوّر الليل على النهار عبرة لأولي الأبصار» ... إلخ. وهي خطبة كتاب الدر المنتخب لابن خطيب الناصرية مع تحريف قليل وزيادة ونقص. وبعد هذه الخطبة يفتتح صاحبه بالبسملة، ثم يقول: وبعد فهذه نبذة انتخبتها من كتاب نزهة النواظر في روض الناظر إلخ. ثم يفتتح بالمقصود نقلا عن ابن الشحنة. ورأيت بعض النسخ من هذا الكتاب مصدرا بقوله: أما بعد فهذه نبذة انتخبتها مما انتخبه العلامة زين الدين أحمد بن علي بن الحسين ابن علي المعروف بالشغيفي، من تاريخ أقضى القضاة محب الدين إلخ. وعلى هذا فالكتاب المتداول المذكور منتخب من كتاب الشغيفي المنتخب من نزهة النواظر. ولعل منتخبه أبو اليمن البتروني، بدليل أنه يوجد في عدة مواضع من نسخة كانت عندي حواش ينسبها أبو اليمن المذكور إلى نفسه. ورأيت نسخة أخرى قد ذهب أولها ونقص منها مقدار عظيم.
وهي تختلف عن نسخة الشغيفي زيادة ونقصا، ظهر لي أنها مما انتخبه أحمد بن محمد المعروف
1 / 25
بابن الملا من كتاب نزهة الناظر وهي فيما أظن من مسودة بخط المؤلف، لأنه يوجد على هامشها كثير من التعاليق مختتمة بقول محررها: اه إبراهيم ابن أحمد بن محمد منتخب هذا التاريخ وكاتبه.
خلاصة ما ظهر لي في الكتاب الذي ينسبه الناس إلى ابن الشحنة ويزعمون أنه خاص بحلب: أن عددا غير قليل من الأدباء والعلماء أخذ كل واحد منهم خلاصة من ابن شداد وابن الشحنة وابن المنلا وأضافها «١» شيئا من عنده وعملها كتابا على حدته. ولذا لا ترى نسختين من هذا التاريخ مطابقتين لبعضهما مع كثرة عدد نسخ هذا التاريخ. أما كتاب محمد بن إبراهيم ابن شداد فكثيرا ما يظنه الناس أنه تايخ خاص بحلب مع أننا لم نقف على تاريخ منسوب لابن شداد سوى سيرة السلطان صلاح الدين وكتاب الأعلاق الخطيرة في تاريخ الشام والجزيرة «٢» . ومن التواريخ التي يتوهمها بعض الناس أنها خاصة بحلب: كتاب درة الأسلاك في دولة الأتراك، للحسن بن عمر المعروف بابن حبيب الحلبي مع أنه خاص بدولة الأتراك كما يعلم من تسميته. على أننا لا ننكر أن الحلبيين الذين ألفوا في التاريخ تكلموا في تواريخهم على ما يتعلق بحلب أكثر مما تكلموا على ما يتعلق بغيرها عناية منهم بها لأنها وطنهم. هذا ما أمكنني تحريره من الكلام على تواريخ حلب. والله ﷾ أعلم.
تاريخان لحلب لمعاصرين فاضلين
أحدهما اعتنى بجمعه وشرع بطبعه صديقنا الفاضل (محمد راغب بن محمود) الشهير بالطباخ سماه (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء) . والآخر يعتني بجمعه صديقنا الآخر الشاعر الأديب (ميخائيل بن أنطون) الشهير بالصقال. وقد تكلمنا على كل واحد من هذين التاريخين في ترجمة صاحبه التي نوردها في باب التراجم، فاكتفينا هنا بالتلميح إليهما.
1 / 26