الرجل العظيم ووطنيته
إن هذه الكلمة الجميلة التي تتردد اليوم على شفاه الجميع، هذه الكلمة الصغيرة التي نسميها «الوطن»، والتي تحمل إلى الروح ذلك المعنى العظيم الجليل الذي يدل على نفسه بلا شروح ولا تعليق، لا تزال كلمة من ذلك الكلم المركب، الكثير المناحي الذي يحار الإنسان في سبر غوره، وإن تراءى له جليا ظاهرا لا غموض حوله.
ولو أنك سألت صبيا غفلا غريرا، لم يغادر يوما حدود قريته، ولم يعرف ما وراء حقول الضيعة التي نشأ فيها: «ما وطنك؟»، لما ونى في قوله: «وطني هو أرض أبي، هو الأرض التي خرجت منها وإليها سأعود!»، فإذا سمعت ذلك من وليد الحقل، وربيب المدر، وتلك الشجرة الصغيرة في غيط الإنسانية الناضرة اللون، فاعلم أن ذلك الطفل قد دفع إليك، وهو لا يدري بالتعريف الدقيق الصحيح لكلمة «الوطن»، فإن فؤاده الصغير قد حمل إلى شفتيه كلمة الوحي، ولفظ الغريزة، على حين ترى عينيه قد دارتا فيما حوله وهو لا يشعر، تتلمسان تلك المقبرة التي انبسطت في مكان قصي من القرية، حيث ثوى آباؤه أشياخ القرية وكبارها.
إن بطون أمهاتنا هي التي دفعتنا إلى ضوء الشمس، وأخرجتنا إلى نور هذه الحياة، ولكنها لا تأخذنا ثانية إليها، ولا تستعيد مرة أخرى، وأما هذه الأرض فتحملنا، وتشرف على شبيبتنا، وتخرج خبأها لغذائنا وشبعنا ورينا، فإذا دق ناقوس الموت، وآذنت شمس حياتنا بالمغيب؛ فيومئذ تفتح صدرها للقائنا، وتنشق أخاديدها لتحوينا مرة أخرى.
فيا أيها الصدر العميق الرحيب، أيها الصدر الحنون الكريم، صدر أمنا الأولى، إنك لترأمنا صغارا، وترسل الطعام ينمي جسومنا، وتطبعنا بطابعك، فإذا وجوه لنا متشابهة، وملامح متقاربة، وأذهان متماثلة؛ وأخلاق متلائمة، يعرفنا بها العالم كله؛ فيتبين الأمة كلها في وجه فرد واحد منها.
إن ذلك الصبي الذي أجابك بما أجاب، فيلسوف عميق الفلسفة، على جهله بالقروي وسذاجته؛ إذ أملت عليه غريزته تلك الشريعة التي جعلت لكل قطعة من الأرض حدودا، وجعلت حدود الإيمان بها أعز أثرا في النفس من تخومها التي صورها المصورون في خريطة الإنسانية المتعددة الألوان.
إن الأرض تخرج أبناءها، كما تنتج الشجرة ثمارها، وإن الجنسية الواحدة لتخلع على الأرض عبقريتها الخاصة بها، كما تهب الشجرة فواكهها تلك الرائحة المنفردة بها، وذلك الطعم الذي لا تجده في فاكهة شجرة ذات ثمر غيرها. وما هذه الوطنية التي تراها في رجل منا إلا الشعور بتلك الرابطة التي بين الأرض، ونتاج ما حملت الأرض، وهي العاطفة المقدسة التي بثتها القوة الإلهية في النفس لتخفف روح الأنانية، وتكسر من حدة الأثرة؛ فهي ليست فضيلة؛ لأن الفضيلة تتطلب ذهنا يمدها، وعلما يوسع في أركانها، ويشد بنيانها، ولكنها غريزة ووحي وإلهام، وهي وثبة مادية، بل صوت الأرض يتردد في أنحاء النفس. وليست حاسة أدبية أول ما نشأت في الكتب، ولقنت في حلقات الدرس، وتليت في قاعات المطالعة.
وإذا كانت الوطنية ضربا عميقا من الحب، فإن للحب طبيعة متحركة متدافعة، إن وقفت في مكانها ركدت وأسنت، فهي أبدا تطلب الحركة، وتستوجب الزيادة والنماء، وهي تأبى إلا أن تتحلى في مظاهر متعددة، وتتخذ ألوانا متنوعة، وتحمل على نفسها ضرائب تؤديها، وترتضي «عوائد» تنزل راضية عنها.
وأول مظاهر هذا الحب الاحتفاظ بالماضي، والاستمساك بالذكرى، فإن العلائم الأولى لشيخوخة الشعب، وهرم الأمة - كما يقول شاتوبريان - لا تبدو عليها إلا عندما تنسى ماضيها، وتنكر تاريخها، وإن ميدان العمل المنفتح أمام الوطنية لأوسع مدى من ميدان القتال، وساحة المعركة، وليس في العالم رجل غير الأوغاد أو الجبناء، يعجز يوما عن تأدية عمل من ألوان البطولة، وكثيرون من أفراد الأمة لا يستطيعون أن يرتفعوا إلى عمل صالح، ووطنية صاخبة، وإنما ينساقون في فعال هادئة جلية، ولكنها لا تزال خصبة مجدبة تتطلب نشاطا عظيما متواصلا، لا يخفت يوما ولا يهن.
وأنت فتعلم أن في ساحة المعركة يستحيل كل شيء غير حقيقته، فالجو والوسط والروح نفسها تتغير، وتتخذ شعورا جديدا، ووثبة غير وثبتها الأولى، وأن تلك الأنظمة العنيفة المتينة التي تسير عليها الموقعة، وذوائب النيران المتصاعدة من فوهات القذائف، وجنة الجذب والدفع، ورائحة الدماء، وهرولة الجموع، وأصوات القواد، والعلم الخفاق فوق الرؤوس، كل أولئك خليقة بأن ترد الرجل ذا الروح الساكنة الميتة الهلوع، شجاعا باسلا غير ذي خوف أو جزع.
Shafi da ba'a sani ba